السخرية خيار أخير في مواجهة الموت.. رحلة في أدب يوسف السباعي
«ماذا سيكون تأثير الموت عليَّ وعلى الآخرين؟ لا شيء.. ستنشر الصحافة نبأ موتي كخبر مثير ليس لأني مُت، بل لأن موتي سيقترن بحادثة مثيرة». *يوسف السباعي من رواية طائر بين المحيطين في صباح الثامن عشر من فبراير (شباط) عام 1978 تحرَّك يوسف السباعي، الأديب والأمين العام لمنظمة التضامن الإفريقي الآسيوي آنذاك، من الطابق الخامس بفندق هيلتون بقبرص إلى الطابق الأرضي لحضور أحد المؤتمرات. وحين انتهى المؤتمر وقف السباعي قليلًا بجانب القاعة بعد أن استوقفته إحدى المجلات ليخرّ بعدها بدقائق صريعًا بعد أن تلقَّى في رأسه ثلاث رصاصات، وبذلك أسدل الستار على حياة «جبرتي العصر»، كما أطلق عليه نجيب محفوظ، التي لم تكن تقل إثارة عن حادثة موته. يوسف محمد السباعي، ذلك الشخص الذي ما أن تعرفه فإنك «إما أن تحبه أو تحبه جدًا»، كما وصفه أنيس منصور بإحدى مقالاته، وهو «أمهر أبناء جيله في فنّ القصة» كما وصفه طه حسين، وهو أيضًا ذلك الكاتب صاحب الأسلوب السهل الساخر الذي يفيض عذوبة، ولكن أنَّى لكاتب أن يتحدَّث عن الموت في كل أعماله تقريبًا بأسلوبٍ سهل ساخر عذب، ويستطيع في الوقت نفسه أن يتجنَّب أسلوب القتامة والخوف اللذين يحملهما الموت معه؟ ولماذا يشغل الموت القاتم الكئيب ذلك الرجل الضاحك الساخر الذي بصق على دنيانا قائلًا: «بصقة على دنياكم أيها التَّعِسون المساكين.. المتخبطون في حلكاتها.. الضالون في دياجيرها.. المتعللون بباطلها وسرابها … بصقة على دنياكم فإني مغادرها غير آسف ولا نادم.. بصقة عليها فإني أكرهها.. إنها دنيا هاوية». «بيني وبين الموت خطوة سأخطوها إليه أو سيخطوها إليّ، فما أظن جسدي الواهن بقادر على أن يخطو إليه.. أيها الموت العزيز اقترب.. فقد طالت إليك لهفتي وطال إليك اشتياقي».. يوسف السباعي من رواية السقا مات في عام 1948 نشر يوسف السباعي مجموعة قصصية بعنوان «يا أمة ضحكت» تضمنت قصة قصيرة عنوانها «بصقة على دنياكم». هذه القصة التي نُشرت قبل رحيل الكاتب بـ30 عامًا، تتحدث عن صبي يعيش بأحد الأحياء الشعبية، شديد الولع بسلاح الفرسان في الجيش، ولكنه يصبح صحافيًا شهيرًا، ويعين وزيرًا، ثم رئيسًا للوزراء، إلى أن يتم اغتياله، ويُترك على سلالم الوزارة حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة. كان السباعي يتحدث عن نفسه في هذه القصة؛ فهو الصبي الصغير الذي نشأ بحي السيدة زينب بالقاهرة، وهو المولع بسلاح الفرسان، والذي يلتحق فيما بعد بالكلية الحربية، ولكن المثير للدهشة حقًا هو أنه قد تنبأ بأنه سيصبح وزيرًا، وأنه سيتم اغتياله، بل سيتم تركه حتى ينزف دمه وتفيض روحه، تمامًا كما حدث معه في واقعة اغتياله، فقد منع قتلته أي شخص من الاقتراب منه أو إسعافه؛ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. وليست هذه هي المرة الوحيدة التي تنبأ فيها يوسف السباعي بحادثة اغتياله؛ فهو قد كتب أيضًا في روايته «طائر بين المحيطين» عن صحافي يقضي حياته متنقلًا بين البلدان المختلفة لحضور الندوات والمؤتمرات، وقال على لسان هذا الصحافي إنه يشعر بأن الصحافة سوف تنشر خبر موته لاقترانه بحادثة مثيرة. لقد كان بين الموت وبين السباعي خطوة واحدة، لم يظن الأخير أنه قادر على المبادرة بها، فأخذ الموت خطوته الأخيرة نحوه في الثامن عشر من فبراير عام 1978. اللقاء الأول بالموت «اظهر لنا يا موت، فإننا لا نخشاك.. ولكننا نخشى مفاجآتك.. نخشى نذالتك وجبنك، نخشى طرقك البهلوانية ووسائلك المسرحية».. يوسف السباعي من رواية السقا مات وقف يوسف الصغير مرتاعًا على باب غرفة والده المسجَّى على فراشه وحوله الأطباء، لقد مرض الوالد الممتلئ حيوية ونشاطًا فجأة، ورقد الرجل الذي ملأ دنيا ولده الصغير حبًا على فراشه بلا حراك. كان لمحمد السباعي تأثير قوي على ابنه الذي افتتن به ورآه مثلًا أعلى؛ فهو الأب الحنون المرح الذي احتضنه وقتما رسب هو ونجح أخوه، فلم يبارك لأخيه نجاحه، بل توجه نحو يوسف واحتضنه قائلًا: «الناجح تكفيه فرحة النجاح، أما الراسب فهو أحق بالعزاء»، وهو الذي كان يأخذ أمور الحياة مأخذًا سهلًا؛ فحين كانت تقوم زوجته بحبس أبنائها في غرفتهم حتى يذاكروا؛ فكان الأب يأتي بسلم خشبي، ويصعد عليه ليكلم أولاده من شراعة الباب ويضاحكهم. لم يكن محمد السباعي مجرد أب حنون فقط، بل كان أديبًا ومترجمًا واسع الثقافة، أورث ابنه الصغير شغفه بالقراءة، فكان الصغير يرى شخص أبيه في كل ما يقرأ، سواء كان مؤلفًا أو مُترجمًا، كما أن آراء أبيه النقدية والأدبية قد أسهمت إلى حد كبير في إنتاجه الأدبي، وإن كان لم يحافظ على لغة والده المنمقة الرصينة، واتجه إلى الكتابة باللغة العامية. وهكذا لم يكن يوسف الصغير يتخيل أن هذا الوالد من الممكن أن يختفي فجأة من حياته، حتى أنه لم يكن يريد أن يصدق أنه قد ذهب وتركهم إلى الأبد، فكان يتخيل أباه حيًا، ويتمثله في أحلامه، وحتى في يقظته، ويحاوره، ويسأله عن شئون الدنيا أحيانًا، وعن شئون الآخرة أحيانًا أخرى. ويقول يوسف السباعي واصفًا شعوره عند وفاة والده: «كان لموت أبي تأثير لا حدود له علي، وأنا الصبي ابن الرابعة عشر. كانت هذه أول مرة أرى فيها الموت! ومازلت بالرغم من السنين أذكر الصورة جيدًا. اختطف أبي خلال أيام قليلة. رأيته وهو راقد على الفراش مستسلمًا لكمادات الثلج. ورأيته وهو يموت! يأخذ شهيقًا، ثم زفيرًا، بضع مرات.. ثم شهيقًا بلا زفير. ثم انهمر الصراخ وأحاطت بي الدموع من كل جانب كالفيضان». ترك رحيل الأب في حياة ابنه فراغًا لم يستطع أي شيء ملأه، ومنذ ذلك الحين بدأت الأسئلة حول الموت وماهيته ووسائله المسرحية وطرقه البهلوانية في اختطاف من نحب، وفقًا لوصف السباعي، تعصف بذهن الفتى وقتها، الأمر الذي كان له بالغ التأثير على أعماله الأدبية كافة؛ فنجدها تتناول جميعها فكرة الموت بعدة زوايا وطرح مختلفين. «نائب عزرائيل».. الرواية الأولى التي أهداها إلى الموت «إلى سيدنا عزرائيل… الجميل! هل سبق لغيري من البشر أن أهدى لك كتابًا؟ لا تظن بقولي سخرية.. فما حاولت مرة أن أسخر من بشرٍ ضعيف، فما بالك بالموت العاتي الجبار! ولا تظن بقولي أيضًا تزلفًا.. فالتزلف لا يكون إلا لخشية أو لحاجة.. وما كان بي من خشية منك ولا حاجة إليك. فما أنا متعلق بالحياة حتى أخشاك، وما أنا بكارهها حتى أحتاج معونتك.. وإنني يا سيدي في انتظار اللقاء، إما على صفحات كتاب آخر أو في السماء». *يوسف السباعي – نائب عزرائيل على الرغم من تأثر يوسف السباعي بكتابات والده الراحل، إلا أنه لم يستطع أن يعتمد نفس أسلوبه في الكتابة؛ إذ إن أسلوب محمد السباعي المنمق الرصين لم يكن يتفق وطبيعة ابنه كثيرًا؛ فيقول «أول كاتب عربي أثر علي هو أبي، وكان أثره واضحًا في محاولاتي الأولى من ناحية اللغة المنمقة التي لم تكن تحتملها طبيعتي، فقد كنت أُجهد فيه وما لبثت أن تخلصت منه»، ولذلك اتجه السباعي الابن للأسلوب الساخر، وكانت العامية تفرض نفسها في كثير من أعماله. كانت كتابات يوسف السباعي تتمحور في اتجاهات ثلاثة، أولهما الاتجاه الفانتازي، وثانيهما الاتجاه التاريخي، أما آخرها فهو الاتجاه الواقعي الاجتماعي، ولكنه لم يكن بارزًا كالاتجاهين الأولين. وقد اختار يوسف السباعي أن تتبنى أولى رواياته الاتجاه الفانتازي؛ وهو اتجاه يسمح للفنان بإحداث شيء خارق للعادة في الرواية في قالب من الفكاهة والسخرية. يوسف السباعي غلاف رواية نائب عزرائيل في رواية «نائب عزرائيل» حطم السباعي الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال؛ فسمح للبطل بحرية التنقل بين الأرض والسماء، حين اكتشف بطل الرواية وراويها أنه قد انتقل إلى العالم الآخر عن طريق الخطأ بسبب اختلاط اسمه باسم شخص آخر حان أجله. وعلى الرغم من أنه يُعرض على البطل النزول إلى الأرض ثانية واسترداد حياته الدنيا، إلا أنه يتردد كثيرًا، إذ إنه قد استلذ التحرر من قيود الدنيا والعيش في مكان ليس به مرض ولا قلق ولا خوف. ولسبب ما يصبح البطل نائبًا لعزرائيل لمدة يوم واحد فقط، ولكنه يشفق على الناس ولا يقبض أرواحهم؛ فهذه شابة كثيرًا، وهذا رجل خير كريم، وتلك أسرة كبيرة مكونة من نساء وأطفال حتى يُدرك في النهاية أن كل الناس سينتهي بهم الأمر إلى الموت بشكل أو بآخر، وأنه لا يجب لأحد مهما كان أن يعترض القدر. عند قراءة «نائب عزرائيل» سوف تتذكر شبابك وطيشك وأنت تتجول بين الكبائن المترامية على الشاطئ مع الآنسة زيزي، وسوف تُغرق في الضحك على محمود أفندي الفنط، وتأنقه المبالغ فيه، وهو لا يعلم أن الموت ينتظره على الناحية الأخرى من الطريق، وسوف تتجول في حواري القاهرة، وتضحك ملء شدقيك وأنت ترى كيف أمسكت زوجة الجزار بحرامي الغسيل، وكيف جرت الحارة كلها وراءه. ولكنك بعد أن تنتهي من القراءة ستهاجمك أسئلة كثيرة، كالتي هاجمت يوسف السباعي، أسئلة كلها متعلقة بالموت وماهيته وحتميته. لقد واجه السباعي الموت الذي أخذ والده الحبيب في أولى رواياته بالسخرية، وجعله مقترنًا بعاصفة من الضحك في كل فصل من فصول روايته؛ فهو من قال: «اكتشفت أنني أسخر من الموت، واعتبره خصمًا أود لو أصرعه. لقد كنت أحاول ككاتب أن أزيل هيبة الموت، وأجعل الناس تراه كما أراه: مجرد انتقال من الحركة إلى السكون». أما عن أسلوبه الساخر مع شيء قاتم وكئيب كالموت، فإنه قد علل ذلك في بداية الرواية بقوله إنه رجل يحب المزاح، وأنه على يقين بأن المرء لا يربح من حياته سوى ساعات الضحك، ويعلم تمام العلم أن للضحك مفعولًا سحريًا، وأشار إلى أن المرء إذا كان يريد شيئًا من شخص ما؛ فعليه بإضحاكه أولًا، وهو يضمن له أنه سينال ما يريد. «السقا مات».. وهكذا فعل محمد السباعي «لا.. لا.. ليست هذه العظام أنقاضًا كأنقاض المدن، إنها قد تكون كذلك.. لو لم يكن في صدورنا فؤاد يخفق وقلب يدق وينبض.. أما وهذه تكمن في حنايانا.. فما أعز البقايا وما أكرم الأنقاض.. إنها آثار عزيز غاب، ودلائل حبيب فُقد».. يوسف السباعي – السقا مات «السقا مات»، الرواية التي تشتم في صفحاتها عبق الحارات المصرية القديمة، ويترامى إلى أذنيك ضحك الصبية ولعبهم في الأزقة، وتسمع صوت خرير المياه وهو ينساب من الصنبور العمومي، ومنها إلى قربة الساقي التي يفرغها في بيوت تشعر بدفئها وبقرب قاطنيها منك. إنها رواية اجتماعية تحمل في طياتها صورًا مفصلة لمدينة القاهرة وحاراتها وناسها وصبيتها ورجالها ونسائها، وهي أيضًا تستكشف، جنبًا إلى جنب مع المظاهر الاجتماعية، الموت الذي نعته السباعي فيها بالعزيز تارة، وبالحقير تارة أخرى، وتضع القارئ في مواجهة مباشرة مع رهبته وقساوته، ولكن القارئ ما أن يدخل في نوبة بكاء حتى يعاجله السباعي بمغامرة من مغامرات الصبي سيد في الكُتاب أو في الحارة، ويجعله يغرق في الضحك، وهكذا تمضي الرواية بين فرح وحزن وضحك وبكاء، تمامًا كما تمضي الحياة. هذه الرواية تحكي عن الصبي سيد الدنك وأبيه السقاء المعلم شوشة الدنك، وعن مدى حب وتعلق سيد بأبيه الحنون الذي لا يتخيل الدنيا بدونه، وعن شحاته أفندي الرجل الذي يتشاءم منه سيد بعد أن يعلم أنه يمشي في الجنائز، ويرى أن شبح الموت يرافقه أينما حل. يوسف السباعي صورة للسقاء في مصر قديمًا على النقيض من شوشة الذي يأخذ الحياة على محمل الجد ويكافح؛ لكي ينفق على ابنه، وأم زوجته الراحلة، ويكره الموت كرهًا شديدًا؛ لأنه اختطف زوجته الشابة التي كان يحبها حبًا جمًا، كان شحاته أفندي المطيباتي رجلًا غير مبال، عرف الدنيا جيدًا، ولم تعد تخدعه أضواؤها الزائفة، ورأى وجهها القبيح مرارًا، وكان يرى أن الموت مصدر رزقه الوحيد، ويمشى أمام الجنازات ملقيًا بالضحكات والنكات على أقرانه في صوت خفيض. وبالرغم من أن الشخصيتين تتحابان ويصبحان أصدقاء، إلا أن رعدة قوية تسري في جسد المعلم شوشة؛ حين يعلم بوظيفة شحاته أفندي، وهو الرجل الذي لا يطيق حتى أن يسمع لفظ الموت، فما بالك بأن يصادق من تعتبر الجنازات مصدر رزقه الأوحد. يأخذنا السباعي في نقاشات فلسفية شديدة العمق على لسان شحاته أفندي في نقاشاته المتعددة مع شوشة عن الموت وماهيته وحتميته التي لا مفر منها، وكيف أنه قد يكون مصدر حزن وسعادة للناس في وقت واحد. فبينما يحزن أهل المتوفى على فقيدهم يفرح هو وزملائه والحانوتي؛ لأنهم أخيرًا قد جاءهم عمل. وهكذا يحاول شحاتة مرارًا وتكرارًا أن يكسر رهبة الموت في نفس شوشة الذي لا يخشى شيئًا قدر خشيته من الموت ومداهمته غير المتوقعة. وحين يختطف الموت شحاته أفندي فجأة، يقرر المعلم شوشة لأول مرة أن يواجه ذاك الشيء الرهيب الذي يخشاه ويسأل نفسه في جدية قائلًا: «الموت.. الموت.. الموت.. لماذا يعبث بنا كل هذا العبث؟ ماله لا ينقض فيريحنا من عناء الانتظار! ماله يتركنا حيارى ضالين نحس به ولا نراه، نوقن من وجوده.. ولا نوقن حدوثه! ماله يبدو كالشبح أو الوهم.. وهو حقيقة واقعة! ماله يقبل متخفيًا مستترًا، فلا نراه إلا وقد أطبق علينا، وهو أبعد ما نتوقع». وهكذا يرتدي شوشة بزة شحاته التي كان يتشاءم منها، ويمضي متقدمًا جنازته، بل ينزل معه إلى قبره؛ عله يرى ذلك الموت الرهيب الذي يأتي متخفيًا متسترًا، فلا تشعر به، إلا وقد انقض عليك، دون أن تراه أو تسمع وقع خطواته. ولكن إن كان شوشة قد لاقى بعض الراحة حين حاول مواجهة الموت، فإن ابنه الصغير قد انتابه الرعب حين رأى أباه بهذا الزي المقبض الموحش، ما لأبيه المرح الحنون القوي وهذه الأشياء؟ عند قراءتك لهذه الرواية، سترى يوسف السباعي الحقيقي وراء كل شخصية من شخصيات هذه الرواية؛ فهو شحاته غير المبالي بالموت والمستعد له في أية لحظة، وهو شوشة المثابر الذي يجاهد خوفه من الموت، وهو ذلك الصبي الشقي الصغير الذي يعدو وراء الأولاد الملاعين في الأزقة والحارات حين يقولون له «أبوك السقا مات بيروح الجنازات» ليضربهم ويسبهم على جرأتهم في التنبؤ بموت أبيه، لقد كان سيد لا يفترض أن أباه من الممكن أن يموت؛ لأنه ببساطة قوي وشاب، ولا يعاني من أية أمراض، ولكن البيت يتهدم فوقه فيقضي عليه. وهكذا كان يوسف الصغير لا يتخيل موت أبيه القوي الشاب، ولكن الموت يأخذه فجأة. وعن هذه الرواية يقول السباعي: «لا أستطيع أن أسكت صوتي من أن ينطق بلسان أحد الأبطال في أي زمان، وأي مكان، سواء على لسان السقا، أو لسان الصبي ابن السقا، أو على لسان شحاته أفندي». لقد كان عالم يوسف السباعي الفني رحبًا؛ فهو الذي استخدم الفانتازيا، والتاريخ والمجتمع في رواياته، وهو الذي نطق أبطاله «رغمًا عنه» بالعامية؛ لأنه يكتب للعامة، لا للخاصة من الفصحاء والبلغاء. وهو الذي قال له كبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف أن السبب الوحيد وراء عدم تضمين أعماله في المحتوى الدراسي أن الكتب تحتوي على بضع كلمات بالعامية تتنافى مع الغرض الذي قررت من أجله، ولكنه رد قائًلا: «بالرغم من أنه لم يدر بخلدي أن أكتب كتبي بحيث لا تتنافى مع مطالب وزارة المعارف، إلا أنني أحسست بشيء من الخيبة، وأنا أسمع قول أستاذنا الفاضل، وعلى هذا عزمت أن أقيم سياجًا منيعًا يحول دون تسريب الألفاظ العامية التي تأبى إلا أن تفرض نفسها فرضًا في سياق الحديث، ولكني أخفقت في محاولتي، ولم أستطع إلا التسليم، قائلًا لنفسي: إني أكتب للعامة أكثر مما أكتب للخاصة من الفصحاء والبلغاء». ساسه بوست