إعادة الإعمار النهضوي الحقيقي صراع بين وهم العقيدة وبناء الإنسان
صاحبة الجلالة _ رشا الصالح "كل قشرة تبوح بشيء وتستر أشياء" نيتشه. يتضمن قول الفيلسوف الألماني نيتشه، فهما عميقاً لإشكالية توظيف العقيدة في الصراعات السياسية، وكذلك الفكرية. يغلب على ذلك التوظيف التضليل الفكري باسم الدين والعقيدة بل والله. فيصبح الفكر بل وحقل السياسة مؤطراً تحت رؤية معينة للواقع بكافة حيثياته، مما يجعل العقيدة عرضة للخدر، خدر الحواس، خدر التوجهات وكذلك الممارسات الاجتماعية الحقيقية، فهي ستدفع نحو السقوط بالثغرات معمقة الفجوة بين الطرفين، فتارة تراها تشد الحبل إلى النعم المحض ، أو باتجاه اللا النافية لكل ما ينفي نعمها، إلى أن تغدو مع التكرار حبيسة التسمية مجمدة الملمس، وأكثر تذبذبا في آراء مستقطبيها حتى في عقائدهم. الرافضين لتوظيف الدين وتسييسه وتعميق الفجوات بين افراد المجتمع باسم الدين، والذين لا يقبلون بما يسمى ب "الاحتلال الفكري" حيث يجتهدون لرفع ثقله عن كاهل الأرواح، والى كسر هذه القيود الواهية ثائرين مستعصمين هائمين وتواقين إلى كل لون لرأي حر وروح حرة ومعتقد حر يخدم الأوطان ويصونها من كل اعتداء . . وهنا يأتي الدور الأعظم إلى كسر التضليل بإتباع مناهج الشك والسؤال محطمين كل أصنام الأساطير والاخبار المضللة والرياح الغريبة ، نابذين كل تلك المعايير التي تزن الآخر بأوزان الطول والعرض والثبات، وتصكه بصك النوع الواحد رافضة له المغايرة والاختلاف مدرجة العنوانين لتسمية المرء تحت عبارات التخوين والإلحاد والكفر والتكفير. عكس التكفير، يمكننا استخدام مصطلح التفكير والانسيابية، وهي الترجمة الأصلية لكل قوانين والية وحركة أطياف الحقيقة والتي تحرض الواقع بدورها إلى اختلاف مؤشراته ليغير هو الآخر من ثباته الصرف إلى نسبيته، فالواقع ما هو إلا روحاً حية تتألم وتفرح وتغضب تعيش المجون، تقع في المطبات التي تستدعي حرية الحواس ومراجعة وسائل التعبير ومناهج التدبير وإعادة صياغة عقائد العقيدة ذاتها، تلبية لاحتياجاته، فتنصهر كل التأويلات والاجتهادات والتفسيرات في بوتقة واحدة نطلق على هذه المرحلة باسم(اعادة الاعمار النهضوية ). هذا الحدث الجديد، يحدث قطيعة مع الماضي ويؤسس لمستقبل مختلف عن السياق القديم. الحاضر هنا يرفض كل معتقد ديني قديم يؤدلج منهجية الدول والمجتمعات تحت مسماها ،ويرفض توظيف العقيدة، فالأخيرة أي العقيدة تتوهم إعادة التاريخ إلى الامام ، وهو وهم محض، وبالتالي تتوظف جهود العقائديين لصالح أنظمة الأمر الواقع، وتفيد في تشويه كل الحركات الاجتماعية الساعية للنهضة والتعمير وحرفها عن قضاياها وأهدافها. ولكن ما الثورة النهضوية الحقيقية ؟! فالثورة باسم وحجة التغير والاعمار في البلدان العربية أخذت اتجاهات كثيرة، ومنها ما تحوّل إلى حرب أهلية خالصة، ومنها ما سمح بإعادة إنتاج النظام القديم، وهي بكل الحالات تستدعي الحفر المعرفي. وإذا ابتعدنا عن التعريف السياسي لمفهوم الثورة النهضوية ،فهي مرآة عاكسة لأوجه الحقيقية، وصحوة من فكر نائم، وتغيير لرتم وأوزان القوافي، وكسر لأبواب مغلقة على ذواتها ، وتغيير لمنهجية أنظمة دينية وفكرية تحكم مجتمعات وفق خوارزمية واضحة مكبلة إلى أن تغدو مع تواليها الممنهج نسخة أخرى للعقيدة. أي أنها بغياب نقد العقيدة، وانبثاقها مجدداً وبشكل سياسي، يحول الثورة ذاتها إلى عقيدة، ويمكن القول يسمح للتمذهب الديني بالاستثمار فيها، وتحويلها إلى مشاريع طائفية ودينية. فكل نظام وما اعنيه بالنظام ليس المعنى الذي ينطوي تحت تعبير السلطة، فالنظام أيا كان سواء بشكله سياسيا او اجتماعيا او دينيا قائم على أسس زمنية وفلسفية وثقافية ثابتة، ومع تراكمه الزمني الذي يرتدي ثوبا واحدا بعقيدة وخاصة دينية يصبح رثا مهترئا بحاجة لاعادة الاعمار وخاصة إذا كان هذا النظام او العقيدة غير قادر على بناء واستقطاب التحديث الزمني والجوهري لكافة الاحتياجات والمتغيرات الزمانية والمكانية لأفراده وعناصره، مما يؤدي إلى إحداث القطيعة الأخلاقية أولاً والروحية ثانيا بين أسسه وبين أفراد جيله، مما يحرف عقائده عن أداء دورها التفاعلي الايجابي. مايسمى بالثورات العربية فتحت سياقاً جديداً في الصراع، وقد تبدى ذلك عبر نقضين وهما: الصراع بين الفكر المنفتح والتدين العقائدي. هو صراع بين التحريم والسماح، بين الثبات والمنع ،بين التجديد والنقد، ليتمخض عن صراعهما كل أشكال الإجبار والحرب ليفرض كل طرف فكره على الأخر مناديا أنا الحقيقة فاتبعوني صارخا يا أيها الآخر إما أن تكون مثلي أو أقتلك (الاستماع للجديد يجرح الآذن ويصعب عليها سماعه). وهنا يغرق الإله بينهما ببحر من الدماء، شاهرا الآخر بوجه قلب الآخر سلاحا فتاكاً، عله يصيبه بالعمق، لتنتهك حرمة العصفور والطفل والحجر بهذه الأمواج الدموية. وفي حربهما المجنونة يحاول الفن تجسيد الواقع ويصور الحقيقة بعريها، مرتبا شغفه في ترتيب الأحداث وصياغة الأوضاع بطريقة تعنى بالذات والنفس الإنسانية. يصور الفن الأحداث في ظلمها وعنائها، وبفرحها وبؤسها، منتظرا أن يقدم حلا جميلا لهذه الصراعات العبثية، إلا ان البعض ممن قد يكرس الفن إضافة لكافة الأسلحة المستخدمة في ساحات العراك كأداة حادة ممنهجة تقتل وتكذب وتغفر تارة عازفا على إيقاع الدين والعقيدة مضخما الحرب ذاتها ، أما الراقي منه أي الفن فانه يوثق التاريخ بكافة أبوابه بمصداقية أعلى من الحدث ذاته، وعبر مرجعية أساسها الرؤيا والإحساس. ولكن دوما هناك ما نسميه دفاعاً نفسياً، تمارسه الطبيعة والفن والحياة حيال الموت مولدة رادعاً، ما يهب كل طرف فتواه لتصير بالنهاية التغيير المحض على الرغم مما مرّ من دمار مؤلم وانحدار مضني أفرزت نتائجه بالذبح تارة وإلغاء للفن كوجه لله مرات أخرى. جولات الصراع، لن تتوقف إلى أن تصفق الحياة للإنسان بقوة، الإنسان الذي اسقط كل القناعات وارتدى قناع الحب وهتف لموسيقى الجمال ولسيمفونية الأرواح الحرة، ليصبح إنساناً بحق، وينال كافة حقوقه، وحينها تتأنسن العقيدة، أي يعود لها فهمها الأصلي كوسيلة للإيمان بالله لدى المؤمنين، وكجزء من تاريخ الشعوب وثقافته لدى سواهم من الناس.