عبد الكريم الناعم : قصيدة النثر اليوم كالرّكام المُتنامي وكيفما قلّبت حجراً تجد كاتباً لها
يضفي بنضوج قصيدته ثباتاً للشعر المعاصر، ويمنح بتماسك إيقاع ما يكتبه الثقة لمتذوقي ومحبّي الشعر، فبداياته الأولى كانت في أواخر خمسينيات القرن الماضي وديوانه الأول «زهر النار» صدر في العام 1965، ليكتب بالتوازي بين العمودي والتفعيلة، فتكتسب تجربته ديمومتها في التميّز، والتفرّد، والبحث عن الاختلاف، فنجد عناوين كثيرة في 28 مؤلفاً نذكر منها: حصاد الشمس 1972، وعنود 1981، ومائدة الفحم 2001، وحريق الحانة 2008، والرحيل والصوت البدوي 1975، ومن ذاكرة النهر، وغيرها. له كتابان في النقد الشعري والتنظيري والتحليلي: في أقانيم الشعر 1991، وكشوفات 1993. الشاعر والأديب «عبد الكريم الناعم» المولود في العام 1935 شاعر الحداثة المعاصر، يزيدنا اليوم من عطاءاته، ويخبرنا عن إصداراته الأخيرة وتعليقه في كتاب «ليس شعراً»، وعن القادم منها «قريباً لأقمار الوقت». ويتحدّث أيضاً عن موقع الشاعر اليوم في مجتمعنا، وعن قصيدة النثر وانتشارها، ومتابعته لأجيال الشعر، وعن استقراره في حمص، وعن وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب، وهذه هي مواضيع حوارنا معه.
ما موقع الشاعر في مجتمعنا اليوم، وأنت صاحب التاريخ الشعري، والعطاء الجميل، ويحقّ لمن يحمل هذه التجربة أن يقدّر تلك القيمة؟
لا شكّ أن الشعر عامّة له مكانة تقدير واحترام في مجتمعنا، الذي يحمل في أعماقه أبعاداً سحيقة، قد يعود بعضها إلى الأساطير، وإلى شاعر القبيلة، فهو يحسّ بها، أو يقترب منها، ولا يعرفها، ولكنّ مكانة الشاعر بصورة عامّة في بلداننا العربيّة، غالباً، ما يصنعها سلوكه، وتوجّهه، ومجتمعاتنا العربيّة لا تزال تتعامل بسلبيّة وبسطحيّة مع الثقافة ككلّ، فماذا يكون حال الشعر الذي، حين يكون شعراً، هو اللّبّ؟!وممّا يؤسف له أن التفسّخ الاستهلاكي، وفقدان الأخلاقيّة المُبدعة في واقعنا قد انعكسا على كلّ المستويات، ومنها المستويات التي يُفترَض فيها أن تُقدّر الشعر والشاعر، وأن تهتمّ به، ولا بدّ من الإشارة إلى أن جوهر الشعر هو فنّ نخبويّ بطريقةٍ ما. في هذا البرد القارس خذْ ديواناً من عندي وأعطني برميل (مازوت).
كيف يمكن للشاعر أن يكون مختلفاً ولا يُشبه الآخرين؟
هذا مطمح كلّ شاعر حقيقيّ، ومن الشعراء مَن حقّقه ومنهم مَن ظلّ بعيداً عن هذا الهدف، والاختلاف، كما فهمتُه هو في التّحليق الشعري، وفي ارتياد آفاق جديدة، عبر أدوات الشعر المعبّرة، لقد توهّم البعض أن هذا يتحقّق في الإغراق في الغرابات المُبهَمة، أو في ابتكار ما يكفي للتمييز، أمّا الاختلاف الذي أعنيه، فهو متعلّق بآفاق «الشعريّة» و«الشاعريّة»، وإذا كانت الشعريّة ممّا يمكن ترتيبه، ورصْفه، بل حتى افتعاله بشيء من الحذق الأدبيّ، فإن «الشاعريّة» هي تلك النّفحة الموهوبة لنا داخليّا، مستفيدة من التجارب، والقراءات، والمسافرات الواسعة نحو الداخل الفسيح، والذي لا يمتلك تلك الموهبة سيظلّ، غالباً، يهوّم حول السفح، (الاختلاف بإبداع) يظلّ أحد المطامح العالية لجميع الشعراء، ومساحة الوصول إليه لا تضيّقه، فهو يتّسع برحابة لكلّ من حملتْه أجنحته إلى تلك الشواسع.
في كتاب لك صدر مؤخراً بعنوان « ليس شعراً» يصرّ البعض على أنّه إطلالة على قصيدة النّثر، فما تعقيبك؟
الطريف في هذا الكتاب أنه حُمّل شيئاً من التناقض، لم أرده، فقد أردت أن يكون عنوانُه مفتاحه، فأنا أقول أنه ليس شعراً، وقد أعطيته هذا العنوان، ليحمل دلالة ضمنيّة، ورسالة غير مباشرة، ولكنّهم في مطابع الوزارة، أو في المطبخ الذي يُطبخ فيه النشر وضعوا على الغلاف مفردة «شعر» فحمّلوني تناقضاً لست مسؤولاً عنه.
كان لهذا الكتاب هدفان:
الأوّل هو أعطني ما يشوّق، وما يثير المكامن الرّهيفة، واكتب بأي صيغة شئت.
الثاني إعلان بأنني ما زلت متمسّكا بقيمة الإيقاع الجماليّة والتعبيريّة والنفسيّة، وأن الإيقاع جزء أساسي في البنيّة الشعريّة، ولا يتأذينّ أحد ممّن لا يستطيعون كتابة الشعر الإيقاعي، ولا يخرجنّ علينا من يقول بالإيقاع الداخليّ، الذي لا يُسمع إلا بالأذن الداخليّة، فقد أشبعت هذه المسائل بحثاً، وتفنيداً، في كتابي «في أقانيم الشعر» الصادر عن دار الذاكرة بحمص عام 1991، والذي لم يحظ بتوزيع مناسب، وقد قال عنه الشاعر والناقد واليمني د. عبد العزيز المقالح، حين وصله إنه من أهم عشرة كتب صدرت في السنوات الأخيرة.
أنا منحاز لجماليّات الإيقاع، وأردت أن أقول إن أي شاعر يجيد كتابة الشعر الإيقاعي بأوزانه القوميّة، كما يسمّيها د. إبراهيم أنيس، يستطيع أن يكتب قصيدة النثر، أمّا الذي لم يُرزَق تلك الموهبة فلا يستطيع كتابة إلا المنثور، على جلالة قدر بعض ما يُكتب فيه.
هل تتابع الأجيال الشعريّة؟ بماذا تنصحهم؟ وكيف يمكن أن ينهضوا؟
لستُ في مقام النّاصح، ولا أريد أن أكون (أستاذاً) في هذا المجال، ففي الأجيال الشعريّة التي عنيتَها ثمّة من يتجاوز العديد من الأسماء التي ترسّخت بحكم الزمن والعطاء، والأكثرية، للأسف، تَغرق في تهويمات من الخواطر، والتّركيبات الأدبيّة، الخالية من (الرّوح) وتسمّي ذلك شعراً!!
أعتقد أن هذا الرّكام المُتنامي الذي يُطلقون عليه اسم الشعر لن يبقى منه شيء، وسيظلّ الأصيل الأصيل، ولعلّ فاعليّة تلك الجرثومة كانت أكثر فتكاً بكتاب «قصيدة النثر»، كيفما قلّبت حجراً تجد كاتب قصيدة نثر، وكثيرون منهم وجدوا مَن يستقبلهم في بعض المنابر الثقافيّة، وكما يقول المثل: «اللّي ما يعرف الصّقر يشويه»، فمعظم القيّمين على تلك المنابر ليسوا أكثر معرفة بالإبداع من الذين يصعَدون، أو يُصعّدون.
بالمناسبة أنا أستفيد من الأجيال التي تلتْني فيما تُبدعه من شعر متألّق، وقد تشكّل حافزاً لي، لكنْ… لابدّ من الإشارة المهمة إلى أن معظم هذا الجيل الذي سألتًني عنه، منبتّ الجذور، فهم لم يقرؤوا الشعر العذري، ولا المتنبّي، ولا أبو فراس الحمداني، ولا الشريف الرضي، والزّرع الذي لا جذور له تقتلعه أيّ هبّة ريح، ولعلّ ما نطلبه من الصعوبة في مكان، فالعصر، للأسف، عصر الموبايل الذكيّ، وصفحات الانترنيت، فكيف تتشكّل من هذه البضاعة التّالفة نواتج ذات قيمة!!
كيف العلاقة اليوم بين حمص موطنك الأصلي ودمشق بوّابة كلّ المثقّفين؟ هل هناك بُعد في الحراك الثقافي، وأنت مستقرّ في حمص؟
لا أظنّ أنني مؤهّل الآن لإصدار حكم في هذا الحراك، فأنا منذ أن ابتدأت الحرائق ما أكاد أغادر البيت إلا للضرورات التي لا بدّ منها، ولا أستطيع مواكبة النشاطات الثقافيّة، فالبرد شديد، وأنا أضعف شيئاً فشيئا، ولكنني أتابع عن طريق الفيسبوك، وعن طريق بعض الأصدقاء أهم هذه النشاطات، وأقول إن المسألة ليست في التواصل الرّوتيني بين أهم مؤسّستين ثقافيتين، وهما اتّحاد الكتاب العرب، والمركز الثقافي، فالتّواصل قائم، ولكنْ الأهمّ من هذا كلّه ما مشروعنا الثقافي في خضمّ هذه الهجمة المذهبيّة الأعرابيّة؟ ماذا عن الإبداعات التي تخدم التقدّم، والصمود، وتصنع المستقبل؟ ماذا عن مناهجنا في المدارس، التي تحتاج إلى تنظيف وتعقيم؟!! ماذا عن كلّ ما يساهم في التنوير وإزاحة أسداف ظلمات المذهب والطائفة، وما ابتُلينا به من فتاوى ضالّة مضلّة وثمّة مَن يأخذ بها حتى الآن؟!! هذا كلّه ثقافة.
ثمّة نشاطات (أهليّة) ثقافيّة يقوم بها البعض بتمويل ذاتي، وبجهود صداقاتي، وهم مشكورون على ذلك كـ«مدى» و«خوابي» في حمص.
أتمنّى على وزارة الثقافة أن تقيم ندوة في كلّ محافظة تجتمع فيها بأدباء ومفكّري كلّ مدينة، وتثير معهم مثل هذه المواضيع للاستماع إلى الاقتراحات في حقولها وليس بعيداً عنها، وستخرج بحصيلة أظنّ أنها ستكون مفيدة، وترسم طريقاً للخروج من المأزق الثقافي.
هل من عتب على وزارة الثقافة؟
بداية لا أستطيع إلا أن أقدّم خالص الامتنان والشكر لوزارة الثقافة واتّحاد الكتاب العرب، فأنا لولاهما لما استطعت طباعة هذا الكمّ من الكتب لأنّني لا أملك المال، فلقد صدر لي حتى الآن تسعة وعشرون كتاباً، لم أطبع واحداً منها على نفقتي، وقد شرحت العذر، ومن هذه الكتب ثمانية من إصدار الوزارة، ومن هنا ينبع هذا الشكر، وهذا لا يخصّني وحدي بل يخص الأدباء والكتّاب، والأجيال الأدبيّة المتتالية في سوريّة، ثمّة عتب في تكريم الذين يُكرّمون، فأدباء المحافظات يكادون يغيبون عن هذا المشهد إلا قليلا، وأعتقد أن الحركة الأدبيّة في سوريّة لا ينهض بها المقيمون في العاصمة فقط، ولست أنكر الدور القياديّ في ذلك، ولا أدعو إلى مصادرته، ولكنْ إلى تصويبه وجعْله ينظر في جميع الاتّجاهات، لا في جهة الأصدقاء والمعارف والمقرّبين…
كيف علاقتك اليوم مع اتحاد الكتاب العرب؟
علاقتي كما حدّدها قانون التقاعد (الظالم)، ورغم أنني أشكر للاتحاد أنه أول اتحاد كتّاب يدفع راتباً تقاعديّاً، فإن فيه الكثير ممّا تجب مراجعته، ولقد أشار إلى هذه النّاحية رئيس الاتحاد الحالي د. نضال الصالح، في كلمة قدّمها في مهرجان الشعر الذي أقيم في مكتبة الأسد، بمناسبة معرض الكتاب 2017 وقال ما معناه إنه حاول أن يصحّح ذلك الجَنَف، ولكنّه وُوجه بجدار من الرافضين، فله شرف المحاولة، ولقد كتبتُ الكثير في هذا المجال، وفصّلت، وأرجو أن يأتي يوم يتخلّص فيه الاتّحاد ممّا يرفع (بعض) الظلم عن الأدباء والكتاب المتقاعدين.
علاقتي بالاتحاد جيّدة، علاقة صداقة مع كلّ من يعمل في تلك المؤسّسة، ممّن جمعتْنا بهم الأيام، وأتمنى له مزيداً من النجاح، والتخلّص من كلّ ما يعوق تفتّحه، ويُعرقل خطوات مراحله.
هل تحضّر لطباعة ديوان جديد، وما جديدك الشعري؟
أنا لا أحضّر، فلديّ الآن أكثر من مجموعة جاهزة، وأبحث عن إلى أين أُرسلها، وأحدث قصائدي التي كتبتُها في ظروف أزمة حريق البلد، موجودة في وزارة الثقافة، وتنتظر التصحيح الأخير، واسمها «لأقمار الوقت»، وإذا حدث بعض التقصير مني (بالنيابة) عمّن قصّر في هذا التصحيح، لظروف خارجة عن إرادتي، فإنّني أعود وأذكر أن هذه المجموعة بقيت ثمانية أشهر لدى أحد قرّاء الشعر!!، ولقد كتبت في ذلك، وعسى أن تتخلّص الهيئة العامة السوريّة للكتاب، في وزارة الثقافة عن أمثال هذا القارىء.
الوطن