كيف روت الأساطير العراقية القديمة قصة طوفان نوح، وكيف روتها الكتب المقدسة
كيف روت الأساطير العراقية القديمة قصة طوفان نوح، وكيف روتها الكتب المقدسة
الجمعة 03-11-2017
- نشر 7 سنة
- 6170 قراءة
"الطوفان الكبير" هو أحد أبرز موضوعات القَصَص الديني سواء التوراتي أو القرآني، حيث تتناول فكرته المشتركة بين الكتابين، التوراة والقرآن:
قيام نوح بدعوة الناس للرجوع إلى الإيمان بالله وطاعته، ومكوثه بينهم قروناً يدعوهم، وعصيانهم له، فمعاقبة الله لهؤلاء القوم بتسليط الطوفان عليهم لإفنائهم، ثم بدء الحياة البشرية من جديد بنوح وآله ومن آمنوا معه.
السرد القرآني والسرد التوراتي
وإن اتفق السرد القرآني مع ذلك التوراتي في الملامح العامة للقصة فإنهما يختلفان في التفاصيل حيث تنفرد الرواية التوراتية بتفاصيل مثل مقاييس السفينة وأسماء أبناء نوح ومدى ارتفاع مياه الطوفان وغيرها.
بينما تركز الرواية القرآنية على الجدل بين نوح وقومه ثم نوح وابنه الذي رفض الإيمان معه وحاول الاعتصام بالجبل، وتنفرد بذكر آلهة القوم: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر.
وكذلك بذكر دعاء النبي على قومه بالهلاك واستجابة الله له بتسليط الطوفان، فضلاً عن اختلاف الروايتين في شأن زوجة نوح حيث يأمره الإله في الرواية التوراتية بحمل إمرأته معه بينما يذكر القرآن أنها كانت كافرة، مما يعني بأنها كانت من المغرقين.
كما نجد اختلافاً أساسياً في أن نوحاً في التوراة قد حمل أهل بيته فقط، بينما نقرأ في القرآن أنه كان معه من آمنوا به.
ومن ضمن المقارنات أنّ القرآن يذكر أن نوحاً قد لبث يدعو قومه لمدة 950 سنة، بينما يرد في التوراة أنه قد دعاهم لطاعة الله لمدة 600 سنة ثم عاش 350 سنة بعد الطوفان.
وأخيراً تنفرد التوراة في ذكر قيام نوح بإطلاق الطيور بعد انتهاء الطوفان ليستكشفوا الأرض ويخبروه ما إذا كانت صالحة للحياة، فعادت له الحمامة بغصن زيتون أخضر، وهو المشهد الذي تحول إلى أيقونة عالمية ترمز للسلام.
ولكن لم تقتصر رواية هذا الحدث الكبير على الكتابين المقدسين، بل حملت أساطير حضارات العالم القديم بدورها قصصاً عنه، لعل أبرزها وأكثرها إثارة هي تلك التي أورثتنا إياها كلٌّ من حضارتيّ سومر وبابل في العراق القديم.
الطوفان السومري
في فترة "فَجر السلالات الأولى" من ملوك حضارة سومر بجنوبي العراق القديم، دُوِنّت قصة الطوفان الأولى.
ولكن اللوح الذي دونت عليه القصة والذي نشر نصه الباحث والعالم الألماني أرنو بوبل سنة 1914م، بعد العثور عليه قرب مدينة "عفك" العراقية (جنوب وسط العراق وتتبع محافظة القادسية)، كان مشوهاً فلم يقدم تفاصيل كاملة عن الطوفان السومري، ولم يعثر على تلك الرواية في أي من الألواح الأخرى المكتشفة، مما جعل عالم الأثار العراقي طه باقر يتساءل إن كانت قصة الطوفان تلك من أبرز المآثر الأدبية السومرية.
القصة السومرية يسردها لنا الباحث السوري فراس السواح في كتابه "مغامرة العقل الأولى – دراسة في الأسطورة سوريا، أرض الرافدين"، فيذكر أن بداية النص كانت مشوهة لا يُفهَم منها إلا أن الآلهة قد خلقت البشر وجعلت لهم خمس مدن كبيرة هي في التاريخ الواقعي مراكز الحضارة السومرية، ثم هناك مقطع غير مقروء من النص، وبعده تتابع القصة أن الآلهة قد قررت إفناء البشر بالطوفان.
لكن النص يبين أن الآلهة لم تكن كلها راضية عن هذا القرار، فبينما يقره "آنو" أبو الآلهة و"إنليل" كبير المجمع الإلهي، فإن "إنانا" آلهة الحب والخصوبة "ناحت على شعبها" و"ننتو" الأم الكبرى "بكت كإمرأة في المخاض"، و"إنكي" إله الحكمة "فكر ملياً وقلب الأمر على وجهه" وقرر أن ينقذ البشرية من الفناء.
في ذلك الوقت كان يحكم مدينة شوريباك-أهم مدن سومر قرب "الوركاء" بمحافظة المثنى حالياً بالعراق ــملك اسمه "زيوسودرا" (ومعناها "الخالد" أو "ذو العمر الطويل" مما يرجح اكتسابه الاسم بعد الطوفان).
وكان قيّماً على المعبد ودائم تقديم القرابين للآلهة، فكما تقول القصة، أوحى "إنكي" له في منامه أنه يقف عند جدار وأنه يسمع إنكي من وراءه يقول له "سأقول كلاماً فاتبع كلامي... أعطِ أذناً صاغية لوصاياي... إنا مرسلون طوفاناً من المطر فيقضي على بني الإنسان... ذلك حكم وقضاء من مجمع الآلهة... أمر آنو وإنليل... فنضع حداً لملكوت البشر".
ما بعد ذلك من النص مشوه، ثم يجد القارىء أن الطوفان قد وقع بالفعل وأن السيول قد غطت الأرض لسبعة أيام وسبع ليال والسفينة تحملها الأمواج، ثم انتهى الطوفان، ففتح زيوسودرا نافذة في السفينة لتتسلل منها أشعة "أوتو" إله الشمس، وسجد زيوسودرا لأوتو وقدم أضحيتين واحدة من الغنم والأخرى ثور.
وبعد فقرة غير مقروءة من النص، يتضح من الأجزاء السليمة أن كلاً من آنو وإنليل قد عطفا على زيوسودرا، فهبطا إليه فسجد لهما، ومنحاه الحياة الخالدة، ثم نقلاه ليعيش في "أرض دلمون" (البحرين حالياً) وهي بمثابة الجنة الأرضية السومرية حيث يعيش أناسٌ منتقون (وليست مرتبطة بما بعد الموت بعكس بعض العقائد الأخرى).
الطوفان البابلي
ترك البابليون ثلاث روايات للطوفان، أقدمها تم العثور عليها في حفريات مدينة "نيبور" البابلية القديمة، شمالي مدينة عفك العراقية في محافظة القادسية حالياً، وترجع للدولة البابلية القديمة. وهي نص مشوه إلى حد كبير، لا يفيد سوى بالإبلاغ أن ثمة طوفان سيحدث.
والرواية الثانية هي "ملحمة أتراخيسيس" وهي شبيهة بقصة زيوسودرا إلا أنها تتحدث عن قرار "إنليل" بتقليل تعداد البشر نظراً لانزعاجه من ضوضائهم، فيسلط عليهم أولاً الأوبئة والطاعون والمجاعات والعقم، ويتعامل أتراخيسيس بأسلوب "سياسي" مع الأزمة فيأمر رعيته بعدم تقديم القرابين للآلهة سوى للإله "أيا" (إله الحكمة المعادل لـ"إنكي") الذي يعطف على البشر ويراجع إنليل في أمرهم، ثم يقع الطوفان ولكن النص يتشوه بعد ذلك فلا نعرف ما الذي جرى، وإن كان يمكن استنتاجه بحكم تعاطف إيا/إنكي مع البشر وتواصله مباشرة مع أتراخيسيس.
أما النص الأكثر إثارة فهو ذلك الوارد في ألواح "ملحمة جلجامش" الشهيرة، وهي الملحمة التي تتناول قصة جلجامش ملك مدينة "أوروك" ذي الطبيعة نصف الإلهية والذي يمر بأحداث مثيرة تقوده للبحث عن سر الخلود، فيقابل الرجل الخالد "أوتنابشتيم" الذي يروي له قصة الطوفان.
وجدير بالذكر أن نَص الطوفان في ملحمة جلجامش هو أول ما تم العثور عليه من نصوص الملحمة في حفريات مكتبة الملك الأشوري "أشور بانيبال" الذي كان معروفاً بحب المعرفة والثقافة، وفي العام 1872م أعلن عالم الأثار البريطاني جورج سميث أنه قد تمت ترجمة النص المشابه لقصة الطوفان التوراتية.
الطوفان الشهير في ملحمة جلجامش
يزور جلجامش أوتنابشتيم ليسأله عن سر الخلود، وفي حديثه، يروي أوتنابشتيم الخالد قصة الطوفان، فيقول أنه كان يعيش في مدينة "شوريباك" (وهنا نلاحظ التشابه مع قصة زيوسودرا)، ثم قررت الآلهة في اجتماعها أن تهلك البشر بالطوفان، وكان "إيا" (المعادل لإنكي السومري) حاضراً فهبط إلى أوتنابشتيم ــالذي يرجح أنه كان ملك المدينةــ وخاطبه من وراء الجدار وقال له "قوّض بيتك وابن سفينة... اهجر ممتلكاتك وانج بنفسك... اترك متاعك وأنقذ حياتك... اعمل على حمل بذرة كل ذي حياة والسفينة التي أنت بانيها ستكون وفقاً لمقاسات مضبوطة فيكون عرضها معادلاً لطولها".
هنا فهم أوتنابشتيم أن عليه أن يبني سفينة ضخمة حسب تعليمات إيا وأن يحمل فيها عينات من كل كائن حي. فسأل إيا ما الذي يقوله لأهل المدينة لو سألوه عن سر بناء السفينة، فأجابه بأنه يخبرهم أنه قد علم أن "إنليل" كبير الآلهة يبغضه وأنه قد قرر لذلك أن يهجر المدينة ليعيش مع إيا الذي كان إلهاً للمياه فضلاً عن كونه إلهاً للحكمة والدهاء.
فيشرع الرجل في تنفيذ أمر إلهه، ويبلغ قومه بما أُمِرَ أن يقول، وقال لهم كذلك ــحسب وحي الإله ــ أن السماء ستمطر عليهم خيراً وأن الآلهة سترزقهم من الطعام والثمرات. فاجتمع الناس إليه وأعانوه على بناء سفينته، ثم قدم الأضحيات وصنع لهم الطعام وأقاموا الاحتفالات.
ووضع أوتنابشتيم في سفينته ما يملك من فضة ومن ذهب ومن حيوانات ودواب، ثم جمع بها من الحيوانات أزواجاً، وحمل معه من أصحاب الصنعات والحرف، وكذلك أهل بيته وأقاربه. وعندما بدأ المطر أغلق بابها وسلّم قيادتها إلى أحد الملّاحين.
وبدأ الطوفان وأخذ يجرف كل شيء والسفينة محمولة على متن أمواجه، و"فتكت بالناس كأنها الحرب، وصار الأخ لا يبصر أخاه، ولا الناس يميزون السماء، وحتى الآلهة ذعروا من عباب الطوفان، فهربوا وعرجوا إلى السماء".
ثم يذكر النص فزع الآلهة مما أمروا به، حتى أن عشتار (آلهة الجمال والعشق) أخذت تنوح كالمرأة وهي تلد، وصاحت تعلن الندم على موافقتها هذا القرار، وصارت الآلهة تنظر إلى ما يجري وهي تغطي وجوهها فزعاً وحزناً.
وكما في النص السومري، بقي الطوفان سبع أيام وسبع ليال ثم حملت الأمواج السفينة لتستقر على جبل "نصير" (على بعد 450 كم من مدينة شوريباك في مكان يدعى حالياً "بيره مكرون" قرب السليمانية) وفتح أوتنابشتيم النافذة ليدخل النور، ثم سجد للآلهة.
وفي اليوم السابع أطلق حمامة فعادت لأنها لم تجد ما تحط عليه، ثم أطلق طائر السنونو فعاد أيضاً، ثم أطلق الغراب فوجد الأرض قد جفت فاستقر وأكل، ففتح أبواب السفينة وأطلق ما فيها من دواب وقدّم قرباناً للآلهة فوق محرقة فارتفعت الرائحة فانجذبوا لها جميعاً وحاموا حول المحرقة.
فرفعت عشتار عقدها الشهير الذي صنعه لها آنو أبو الآلهة، وقالت أنها لن تنسى هذه الأيام كما أنها لا تنسى عقدها الحبيب (في إشارة لأنها لن تكرر المشاركة في أمر كهذا)، وهنا نلاحظ مدى تشابه العقد الإلهي لعشتار مع بعض الروايات التوراتية حول أن قوس قزح كان بمثابة وعد إلهي بعدم تكرار الطوفان.
ثم أضافت الآلهة محذرة إنليل أن يأتي إلى محرقة القربان لأنه هو الذي أمر بالطوفان دون أن يتروى. هنا رأى إنليل ما يجري فهبط غاضباً أن بعض الآلهة قد خالفوه وأنقذوا بعض البشر.
ولكن إيا لام إنليل لقراره وعقابه الجماعي القاسي قائلاً "حَمِّل المخطئ وِزر خطيئته، وحَمِّل المعتدي إثم اعتداءه، ولكن ارحم في العقاب، لئلا يهلك، وتشدد فيه لئلا يُمعِن في الشر!" هنا يهدأ غضب إنليل ويسجد له أوتنابشتيم، فيباركهم ويمنحه هو وزوجته الخلود. وهنا تنتهي قصة الطوفان الواردة في ملحمة جلجامش الشهيرة.
القارئ في قصة الطوفان بين كل من التوراة والقرآن من ناحية والأساطير العراقية القديمة من ناحية أخرى يدرك مدى التشابه، وإن كان تشابه القصة التوراتية أكبر مع تلك البابلية، مما دفع بعض الباحثين لطرح التساؤل هل تأثرت كتابة القصة في التوراة بالأسطورة البابلية، خاصة مع الاحتكاك السياسي والحضاري بين اليهود والبابليين؟
المُلاحَظ أن بعض الروايات التفسيرية للقصة القرآنية قد تأثر بالتناول التوراتي وتفسيرته (يمكن ملاحظة ذلك من قراءة قصة الطوفان في تاريخ ابن كثير والطبري والقصص الديني للثعلبي النيسابوري، وهو ما يصفه البعض بالإسرائيليات).
فهل ورثت القراءة التوراتية ما ورد في النصوص العراقية القديمة للطوفان خاصة فيما يتعلق بأوصاف السفينة ولوم الإله على تسليطه الطوفان ضد البشر وقصة إطلاق الطيور، وغيرها من المتشابهات بين التوراة والطوفان العراقي؟
الأمر جدير بالاهتمام خاصة لتقدير مدى انفتاح ثقافات شعوب العالم القديمة وتغلغل محتوياتها بعضها في بعض.
رصيف 22