ابن رشد وابن ميمون: علمان من تاريخ الفكر الفلسفي الأندلسي
ابن رشد وابن ميمون: علمان من تاريخ الفكر الفلسفي الأندلسي
السبت 28-10-2017
- نشر 7 سنة
- 6044 قراءة
في رسالة إلى أستاذه الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، كتب يوسف بن عقنين:
أعجبتني هذه الصبية، فعقدت عليها خطبتي على الشريعة وما أُنزل على طور سيناء، وتزوّجتها بثلاثة أشياء: بأن أعطيتها حبي مهراً، ومكّنتها عشقي عَقْداً لأني هِمت بها، وعاملتها معاملة الزوج عذراءه. وبعدها أحببت منها أن تتربع على سرير الزوجية، فلم آخذها إغراءً ولا رعونة، وإنما أعطتني حبّها لأني بادلتها حبّاً بحبّ وربطت روحي بروحها، وجرى كلّ هذا أمام عدلين اثنين ذائعي الصيت، وهما أبو عبيد الله بن ميمون، وبن رشد.
تحدث ابن عقنين عن الفلسفة كأنها خطيبته وحبيبته، وعن ابن ميمون اليهودي وابن رشد الفيلسوف المسلم كأنهما شاهدان على الخطبة والزواج.
هذه الشهادة وردت في أكثر من مرجع، منها كتاب ابن رشد والرشدية، للفيلسوف الفرنسي إرنست رينان، في سياق حديثه عن التأثير القوي لفلسفة ابن رشد على أفكار وفلسفة موسى بن ميمون، والفلاسفة اليهود عموماً.
هناك من قال إن ابن ميمون كان تلميذاً مباشراً لابن رشد، مثل بروكر، وليون الإفريقي (الحسن بن محمد الوزان)، إلا أن أغلب المصادر تؤكد أنهما لم يتقابلا، لكنهما عاشا في إطار مكاني وزماني متقارب.
عاش أبو الوليد محمد بن رشد في القرن الثاني عشر (1126- 1198)، وعاش أبو عمران، موسى بن ميمون، بين عامي 1135 و1204، لكن الأخير ترك الأندلس بعد دخول الموحدين واستقر في مصر، إلا أن أوجه التشابه بين روح الفيلسوفين والمجال الفكري لكل منهما مثيرة لأنها تصل إلى التطابق أحياناً، وهو موضوع دراسة لأستاذة الدراسات العربية، سارة سترومسا، وردت ضمن كتاب "دراسات ابن ميمون"، لأستاذ الفلسفة والمتخصص في الدراسات اليهودية، آرثر هيمن.
تشير الدراسة إلى جوانب هامة من هذا التوافق بين العالمين: أولاً أنهما من خارج النطاق المسيحي الأوروبي، وكلاهما من دينين مختلفين عن بعضهما، وعن المسيحية السائدة في أوروبا وقتها، ولكنهما، كما تبحث الكاتبة، يتشابهان بأنهما كانا ملتزمين بتقديم تفسيرات جديدة للدين، ويشتركان كذلك بالتأثير الذي تركاه على أوروبا.
ابن رشد واليهود
ذاع صيت ابن رشد كفيلسوف عقلاني، تجاوز أثره حدود السياق الثقافي والديني الإسلامي، فقد كان العقل بالنسبة له طريقاً وحيداً للحكم على الأشياء، بحسب ورقة بحثية للدكتور جمال الدين عبدالجليل، أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي، الذي يوضح أن أفكار ابن رشد، أو ما اصطلح عليها بـ"الرشدية"، لم تكن ذات أثر كبير في الثقافة العربية الإسلامية خلال حياته، بينما كان لها أثرٌ بالغٌ في الفلسفة اليهودية والمسيحية خلال القرون الوسطى.
في المقابل "كان ابن ميمون نتاج مجتمع وحضارة وثقافة امتازت بالاندماج والتعايش بين مختلف مكوّناتها؛ فباستثناء المراحل التي شهدت عدم استقرار وأعمال عنف مرتبطة بالنزاع على السلطة وتغيير الحكّام وانتفاضات القصور، كانت السمة الغالبة هي العمل المشترك والتعايش في كنف الأمن والسلم"، بحسب ما نقل جمال عبدالجليل، عن المؤرخ اليهودي المغربي، حاييم الزعفراني.
في كتابه "ابن رشد والرشدية"، خصص إرنست رينان فصلاً كاملاً عن تأثير بن الرشد في الفكر اليهودي، وعلى رأسه موسى بن ميمون، وقال:
"لم يظهر قط فاتحون ساروا بالتسامح والاعتدال نحو المغلوبين، إلى أبعد مدى مما سار عرب الأندلس، فغدت لغة العرب، منذ القرن العاشر، لسان المسلمين واليهود والنصارى المشترك، وصار الزواج المختلط كثير الوقوع، على الرغم من معارضة الإكليروس (نظام كنسي كهنوتي)، وزال ما للدراسات اللاتينية والكنسية من نفوذ تماماً، ومن ذلك ما رُئي من أمر الأساقفة الذين كانوا ينظمون الشعر العربي، مراعين جميع دقائق اللغة والوزن".
وفي مجال العلم والدراسات، انسجم الباحثون والعلماء من المسلمين واليهود، حتى أن أكاديمية قرطبة خضعت لرئاسة اليهود في بعض الأحيان، كما يقول رينان.
قضايا عقائدية التقت في شرحها أفكار العالمين
قدم الكون
في كتابه "تهافت التهافت"، حاول ابن رشد التوفيق بين من يؤمن بأزلية العالم ومن يؤمن بحدوثه، فيقول: العالم محدث إذا نظرنا إليه من أنه معلول من الله، والعالم قديم إذا اعتبرنا أنه وجد عن الله منذ الأزل من غير تراخ في زمن، فهو محدث بالإضافة إلى الله، وقديم بالإضافة إلى أعيان الموجودات.
ويوضح أن العالم قديم، أي ليس له بداية، لكنه موجود مع الله، معلول له، مساوق له غير متأخر عنه بالزمان، مساوقة المعلول للعلة، مساوقة النور للشمس، فتقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة، لا بالزمان، كما توضح الأستاذة محمدي رياحي رشيدة في دراستها المعنونة العقلانية والتراث العربي الإسلامي، "ابن رشد: هذا الاهتمام المتجدد".
وكذلك لم يعتبر ابن ميمون أن عدم الإيمان بقدم العالم إلحاد بالغ الخطورة، مع إيمانه بما جاء في التوراة بقدم العالم، حيث ضعف من قيمة الاتجاهين، دون الميل إلى أحدهما بشكل قاطع.
ففي كتابه الرئيس "دلالة الحائرين"، يقول: ليس هربنا من القول بقدم العالم من أجل النص، الذي جاء في التوراة بكون العالم مُحْدَثاً، لأن النصوص التي تدل على حدوث العالم ليست بأكثر من النصوص التي تدل على كون الإله جسماً ("دلالة الحائرين" من تحقيق الدكتور حسين أتاي).
وعلى النقيض يرى أن كل ماذكره أرسطو وأتباعه في الاستدلال على قدم الكون ليس له براهين قطعية، بل له حجج تلحقها الشكوك العظيمة.
الصفات والتجسيد والدولة الموحدية
في القرآن آيات أخذها البعض على ظاهرها فجسدوا الله، مثل آية "الرحمن على العرش استوى"، التي فسرها البعض بمعناها المادي. وفي العهد القديم وصف مماثل لله أيضاً، مثل ما جاء في سفر التكوين: "وظهر له الرب عند بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وهو جالس في باب الخيمة وقت حَرِّ النهار".
كان ابن ميمون وابن رشد من الذين حاربوا هذا الاتجاه، منزهين الله عن التجسيد.
وربما وافق ذلك هوى دولة الموحدين التي كانت تحكم الأندلس، حيث كان ابن رشد من المقربين لحكامها، في أغلب الفترات، فقد عرف عنها معاداتها التامة لهذا الاتجاه، وجاء ذلك في إطار تشكيل هوية الموحدين من خلال تغيير ورفض كل ما يمثل نهج المرابطين الذين حكموا قبلهم، والذين اعتمدوا فكرة التجسيد حتى أنهم وصفوا في كتابات الموحدين لاحقاً بـ"المجسمين".
مما يدل على موقف ابن رشد ما قاله في كتابه "فصل المقال وتقرير مابين الشريعة والحكمة من اتصال" بأن من يتكلم بالاستواء على العرش دون تأويل وقع في الكفر.
في المقابل، رفض ابن ميمون أن تكون صفات الله زائدة على ذاته، وقال بسلب الصفات عن الذات لإثبات الكمال، حيث رأى في كتابه "دلالة الحائرين"، أن وصف الله بالسوالب والتنزيهات هو الوصف الصحيح الذي لايلحقه شيء من التسامح، فلا يجب أن نقول إن "الله حكيم" لكن يمكننا القول بأن "الله غير جاهل".
وأضاف أن وصف الله بالإيجابيات فيه خطر جسيم، قد يؤدي إلى التجسيم؛ رافضاً نسب صفات الوجود والوحدانية والقدم إلى الله، لأن نسب الصفة إلى شيء قد يشكك في احتمالية انفصالها عنه.
هل يعلم الله بالجزئيات؟
اختلف بعض العلماء حول "علم الله"، فقال بعض الفلاسفة كابن سينا أن الله يعلم الكليات فقط، ولا يعلم بالجزئيات، التي تخص تفاصيل حياة البشر الدقيقة، فكفّرهم آخرون، كأبي حامد الغزالي، الذي يرى أن الله يحيط بعلمه الكليات والجزئيات.
وتصدى ابن رشد للأمر، منكراً على الطرفين ما اتجها إليه، معتبراً أن علم الله ليس جزئياً؛ لأن الجزئيات لا نهاية لها، ولا يحيطها علم، وكذلك فإن علمه ليس كلياً، لأن من يتصف بالعلم الكلي، يتصف بالجزئي، إذ أن الكل يحيط بالجزء، فالله يعلم ولكن ليس بعلم من جنس علمنا، فهو يعلم بالأشياء وفقا لـ"علمه القديم"، لا بالطريقة التي يقيس عليها الجمهور وعلى رأسهم الغزالي، والتي تقيد علم الله بالحادث وقت حدوثه من مخلوقاته، بحسب "تهافت التهافت".
ويتفق ابن ميمون مع ابن رشد فيما وصل إليه، في أن علم الله قديم، ولا يرتبط بالحوادث الجزئية وقت حدوثها.
وجاء في دلالة الحائرين: "زعموا أن علم هذه الأشياء ممتنع في حق الإله من جهات، منها، أن الجزئيات إنما تدرك بالحواس، لا بالعقل، والله لا يدرك بحاسة. ومنها أن الجزئيات لا تتناهى والعلم إحاطة، وما لا يتناهى لا يحاط به علماً. ومنها أن العلم بالحوادث وهي جزئية، بلاشك، يوجب له تغيراً ما، لأنه تجدد علم بعد علم. وبحسب دعوانا نحن معشر المتشرعنين، أنه 'علمها قبل كونها'".
هل تحشر الأجساد؟
كتب ابن ميمون مقالة "حول قيامة الموتى"، وصف فيها من يؤمن بقيامة الموتى بأجسادهم المادية بـ"مغفّل بالمطلق"، وأن اعتقاده "سخافة".
وقال،إن أولئك الذين زعموا أن الآيات في التوراة العبرانيّة التي تشير إلى أن القيامة مجازيّة ليس إلا، كانوا ينشرون "السخافات" والعبارات "المحرّضة على الثورة"، مؤكداً أن الإيمان بالقيامة حقيقة أساسيّة في اليهودية، ليس هنالك اختلاف بشأنها، لكنها ليست قيامة جسدية، وإنما قيامة للروح، لأن كل ما بعد الموت هو عالم روحاني صرف.
ويبدو ابن ميمون هنا متأثراً بابن رشد، الذي يرى أن الأجساد حين تموت تتحول إلى صور جسدية أخرى؛ فإن الجسد يتحول من صورة إلى أخرى، ومن غير المنطقي أن يبعث بالصورة التي يفسرها بعض العلماء، كما يشير ابن رشد.
ويتابع في "تهافت التهافت" أن النفس على عكس الجسد، خالدة، مشيراً إلى تشبيه القرآن لأمر النوم بالموت، في آية: "الله يتوّفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى".
وفي الآية دليل على بطلان فعل النفس ببطلان آلتها وهي الجسد، الذي يبدو أثناء النوم وكأنه ميت، لكن النفس لا تموت، وهكذا في الموت، يبطل فعل النفس ببطلان آلتها بالموت، لكنها لا تبطل لأنها لا تموت.
ويؤكد ابن رشد أن ما سبق يشير إلى أن الأرواح هي التي تعذب أو تنعم، ولكنه لا يرى بأساً في التشبيه الجسدي للبعث، لأنه يفيد الناس، ويحثهم على الفضائل، محاولاً توفيق الأمر، بأن اعتبر أن الأرواح المنعمة تحل في أجساد تنعم بها يوم القيامة، والعكس.
كلام للعوام وآخر للفلاسفة
كان ابن ميمون يرى أن تأويل النصوص المقدسة لايذاع منه إلا القليل الذي يكفي لفهمه، وأن يكون ذلك للشخص الذي لديه الاستعداد فقط، كما يبين محمد يوسف موسى في كتابه "بين الدين والفلسفة".
وفي دراسة له بجامعة دمشق، درس الباحث عصام غصن عبود رأي ابن رشد في "فصل المقال" بأن الشريعة توجب الفلسفة وآلتها المنطق، لكن هذا لا يعني تغيير الأخلاق الدينية السائدة، لأن الفلسفة ليست لكل الناس؛ فالأخلاق الدينية السائدة بين الجمهور يجب أن تبقى خشية إفساده، وذلك لأن كلا من الفلسفة والمنطق يعتمدان على القياس البرهاني الذي يحتاج إليه الفيلسوف، بالإضافة إلى الموهبة والتعليم الخاص.
واستشهد ابن رشد بالآية "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، ولهذا اعتبر ابن رشد أن أمر التأويل حكر على الراسخين في العلم، باعتبار أن حرف الواو بين "الله" و"الراسخون" للعطف.
ما مضى من تلاق بين الفيلسوفين لم يكن صدفة، ولكن لحرص ابن ميمون على التعلم من ابن رشد، وربما كان الدليل على ذلك ما في رسالة إلى تلميذه يوسف بن يهودا، بين عامي 1190 – 1191، قال فيها: لقد تناولت في هذه الأزمنة جميع ما ألف ابن رشد عن كتب أرسطو، خلا كتاب "الحس والمحسوس"، وقد رأيت أنه وفّق لإصابة وجه الحق ــ بحسب ما ذكر إيرنست رينان.
دفعت أفكار ابن ميمون عدداً من مشايخ الإسلام إلى اعتباره مفكراً إسلامياً، كالأزهري الشهير مصطفى عبدالرازق، الذي قدم لكتاب بعنوان "موسى بن ميمون" ألفه ولفنسون، وتعرض لأثر ابن ميمون في الفلسفة الإسلامية.
رصيف 22