يعتبر الصفر أساس الرياضيات؛ فمن دونه لا تتم عمليات التفاضل والتكامل ولا المحاسبة المالية، كما أن غيابه سيجعل إجراء العمليات الحسابية البسيطة أمراً مستحيلاً؛ لذلك فإن تطور الصفر عبر القرون جعله واحداً من أعظم الإنجازات العلمية.
وفيما يلي، نستعرض معاً تاريخ اختراع الصفر من البداية وحتى الوصول إلى شكله الحالي.
النشأة في بلاد الرافدين
يعد السومريون أول من استخدموا نظام العد لإحصاء مخزوناتهم من السلع منذ نحو أربعة إلى آلاف عام، وكان نظاماً موضعياً، فقيمة الرمز تعتمد على موضعه بالنسبة للرموز الأخرى، وانتقل هذا النظام فيما بعد إلى الأكديين عام 2000 قبل الميلاد، ثم إلى البابليين عام 300 قبل الميلاد.
والبابليون هم أول من استخدموا رمزاً للدلالة على غياب رقم من مكانه في العملية الحسابية؛ إذ استخدموا رمز الوتد المزدوج المائل؛ للدلالة على عدم وجود رقم في هذا المكان عند كتابة الأرقام بالرموز المسمارية على الأقراص الحجرية، وعلى الرغم من أن هذا الشكل هو بداية الصفر، فإنه بعيداً عن الصفر المعروف حالياً.
وطورت حضارة المايا الصفر عام 350م، واستخدموه كشاغل مكان في نظام التقويم لديهم، ولكنهم لم يستخدموه في المعادلات، وكانوا يستخدمون رمز الصدفة؛ للدلالة على غياب الرقم أو الفراغ.
مخطوطة "بخشالي" أكدت أسبقية الهنود في اختراع الصفر
مخطوطة "بخشالي"، هي مخطوطة رياضية هندية تضم أكثر من 70 ورقة صُنعت من لحاء شجرة "البتولا"، عثر عليها أحد المزارعين بحقله في قرية "بخشالي" بالقرب من مدينة بيشاور الواقعة في باكستان حالياً، وذلك عام 1881م.
تضم المخطوطة مئات الأصفار على هيئة نقاط، ومُدون بها ملخص للقواعد الرياضية والأمثلة التوضيحية وبعض المواد الأخرى المتعلقة بالجبر والهندسة، ومنها على سبيل المثال الكسور والجذور والدخل والإنفاق والفائدة والنسبة والتناسب والضرب التبادلي، وقد نُقلت هذه المخطوطة إلى مكتبة "بودلي" التابعة لجامعة "أكسفورد" بإنكلترا في عام 1902م.
ظهرت الأصفار في المخطوطة كعناصر لبناء الأرقام الكبيرة؛ لأن عدم وضعها كان سيغير العدد أساساً، كالفرق بين العددين 201 و21، فنجد أن الصفر كان له تأثير في تغيير قيمة الرقم، ولكن قيمته هو تظل كما هي لا تساوي شيئاً.
حاول العلماء تحديد عمر مخطوطة "بخشالي"، من خلال النظر في أسلوب الكتابة واللغة، فوجدوا أنها كُتبت باللغة "السنسكريتية" البوذية الهجينة، وتوصلت دراسة يابانية إلى أن تاريخ المخطوطة من المرجح أن يرجع إلى الفترة ما بين القرنين الثامن والثاني عشر.
اشترك مجموعة من الباحثين من مكتبات "بودلي" التابعة لجامعة "أكسفورد" ووحدة معالجة الكربون المشع التابعة للجامعة نفسها، في مشروع تحديد عمر المخطوطة، واستخدموا فيه طريقة التأريخ بالكربون المشع المستخدمة لتحديد عمر المواد العضوية، وأوضحت النتائج أن المخطوطة لم تكن نصاً واحداً، لكنها احتوت على العديد من النصوص.
وكانت نتيجة التأريخ متباينة لـ3 أجزاء من المخطوطة، أقدمها يرجع إلى الفترة ما بين عامي 224 و383م، ولكن الجزأين الآخرين كانا أحدث من ذلك، وتحديداً ما بين 680 و779م، و875 و993م.
أثبتت تلك الدراسة للمخطوطة أن الهنود اخترعوا الصفر ما بين القرنين الثالث والرابع الميلادي، وأكد الدكتور ماركوس دي سوتوي (في جامعة أكسفورد)، أن الصفر المستخدم حالياً ما هو إلا تطور للنقاط الموجودة في مخطوطة "بخشالي".
أولى مراحل تطور الصفر
أول من أضاف الصفر إلى العمليات الحسابية عالِم الرياضيات والفلكي الهندي "براهماغوبتا" عام 628م، وذلك باستخدام النقاط أسفل الأرقام كإشارة إلى الصفر في كتابه Brahmasphutasiddhanta أو كما يُطلق عليه العرب كتاب "السند هند".
وقد كتب "براهماغوبتا" القواعد القياسية للوصول إلى الصفر من خلال عمليات الجمع والطرح، كما أظهر نتائج العمليات الحسابية مع الصفر، ولكن خطأه الوحيد كان القسمة على صفر، فكان يظن أن الناتج صفر، ولكن في الرياضيات الحديثة يكون قيمة غير معروفة أو لا معنى لها.
وصوله إلى العالَم العربي
نقل تجار العرب في رحلة جلْبهم التوابل من الهند نصوص "براهماغوبتا" إلى بغداد عام 773م، وأصبح الصفر جزءاً من نظام الأرقام العربية القائمة على النظام الهندي.
وفي القرن التاسع الميلادي، أسس عالِم الرياضيات "محمد بن موسى الخوارزمي" المعادلات الجبرية أو الصفرية، وكان أول من دعا إلى استخدام دائرة صغيرة في مكان العشرات إذا لم يكن بها رقم، وذلك في أثناء إجراء العمليات الحسابية.
انتقاله إلى أوروبا
بعد الفتح العربي لإسبانيا، انتقل الصفر إلى أوروبا، وبحلول القرن الثاني عشر بدأت ترجمة أعمال الخوارزمي بإنكلترا. وبعد ذلك في عام 1202م، بنى عالِم الرياضيات الإيطالي "فيبوناتشي" متسلسلته على أساس الخوارزميات، وكان الصفر أول أرقامها.
انتشر استخدام الصفر في الحسابات بين التجار بأوروبا، ولكن زعماء الدين في القرون الوسطى رفضوا استخدام الصفر؛ لأنهم رأوا أنه رمز شيطاني؛ لأن الله في كل مكان؛ لذا فالعدم هو الشيطان، وتشككت الحكومة الإيطالية أيضاً في استخدام الصفر، ورغم ذلك استمر التجار في استخدامه بشكل سري في حساباتهم اليومية.
جاء بعد ذلك عالِم الرياضيات الفرنسي "رينيه ديكارت"، مؤسس نظام الإحداثيات الديكارتي، فوضع النقطة (0،0) كأساس للإحداثيات. وفي عام 1600م أدخل العالمان "نيوتن" و"لايبنتس" مفهوم الاقتراب من الصفر من خلال النهايات، فنشأ بذلك علم التفاضل والتكامل، والذي بفضله بدأ علم الفيزياء والهندسة.
هاف بوست