هل كانت الحكيمة الجاهلية هند بنت الخس عاشقة مثلية؟
إنّ التاريخ الساحر والغامض لعصر الجاهلية يستمر في إبهارنا حتّى اليوم. أنتجت لنا هذه الحقبة التاريخية شعراً ونثراً رفيع المستوى، ترك أثره على تطوّر الأدب العربي في المنطقة، وقدم لنا قصصاً وحكايا عن شخصيات نعرف القليل عنها، وننسب لها أشعاراً وأخباراً، مع أننا نبقى على يقين بأن حقيقتها وظروف حياتها ستبقى ملفوفة بضبابية وغموض. رغم قلة الأدلة الملومسة، اشتهرت بعض الأسماء، كانت هند بنت الخس الإيادية من بين الأكثر إثارة بينها، بسبب فوضى المعلومات التي وصلتنا عنها. تؤكد أغلبية الروايات المعنيّة في حياة بنت الخس وجود شخصيتين تحملان هذا الإسم، يفصل بينهما الموقع الجعرافي: الأولى هي هند الإياديّة التي عاشت في الجزيرة العربيّة والأخرى هي مباركة بنت الخص التي تحدد آثارها في جنوب غرب الجزائر، بحسب ما جاء في "أسطورة بنت الخس"، لرينيه باسيت (1905). يقال بأنّ مباركة بنت الخص أميرة هلالية من بني عمران، تولت سيادة قبيلتها بعد حكم والدها. تنسب لفترة حكمها عدد من الآثار، كما أنها تركت تراثاً شعبياً غنيّاً في المغرب العربي يروى على ألسنة الأجداد والأحفاد على مر الزمن. أمّا بالنسبة لموضوع المقالة، فهو هند بنت الخس (التي يشار إليها كبنت الخص كذلك)، والتي تذكرها المصادر كفصيحة جاهليّة عرفت بذكائها وكانت من أشهر من عرفوا كخكماء عند العرب (يمكن الرجوع لموسوعة الإسلام، النسخة الثالثة، مدخل "هند بنت الخس"). تذكر كتب التراث هند بن الخس، أو هند بن الخص، أو ابنة الخص، في أخبار كثر عن الحكمة والمحاججة، وعن مواضيع فيها فصل في خصامات حول الحقوق والحيوانات والمراعي، فكما يبين د. ياسر عبد الحسيب رضوان في كتابه "هند بنت الخس الإيادية نثرها ونظمها"، يرد ذكرها في بلوغ الأرب للألوسي، وفي الأمالي لأبي علي القالي، وكتاب الإبل للأصمعي، والبيان والتبيين للجاحظ وغيرها من أشهر كتب الأدب. وهناك إجماع على فصاحتها، فأصبح اسمها مضرباً للمثل بين الناس فإذ أراد أحدهم وصف شخص بالدهاء، كان يقال: "يا ابن الخس أو ابنة الخس!"، كما عرفت بقوة شخصيتها وفصاحتها، فكما قال الألوسي: "وكانت تُحاجي الرجال". شهد الأديب العربي الكبير الجاحظ بحكمة هند، فقال: "ومن أهل الدهاء والنكراء (الفطنة) ومن أهل اللسن واللقن، والجواب العجيب، والكلام الفصيح والأمثال السائرة، المخارج العجيبة، هند بنت الخس، وجمعة بنت حابس". كما ذكرها الميداني في مجمع الأمثال كإحدى حكيمات العرب. الإشكالية التي تحيط بأخبارها تقدم الكتب هند بنت الخس بطرق مختلفة، فكانت الفصيحة والشاعرة شخصية مثيرة للجدل. وتصور الأخبار التي وصلتنا عنها، أنها أبدت مهارتها وسرعة بداهتها بأجوبتها الذكية لطالبي النصيحة، وكان يقصدها الناس من شتّى زوايا الجزيرة العربيّة وكانت هند تنصحهم بما هو الأفضل بخصوص مواضيع عديدة ومتنوعة كقيمة القطيع وخصوبة المراعي. ولكن عند تناول تفاصيل حياتها، نجد ثلاث صور متضاربة لشخصيتها: الأول، تشير إلى أنها كانت مستقلة، لها نظرتها الخاصة التي تتخطّى تقاليد مجتمعها بما يتعلّق في الزواج والارتباط، حيث يقال أنّه عندما سُئلت عن أيّ الرجال أحبّ إليها، أجابت: “السهل النجيب، السمح الحسيب، الندب الأريب، السيد المهيب”. وحينما قيل لها "ألا تتزوجين؟" أجابت: "بلى، لا أريده أخا فلان، ولا ابن فلان ولا الظريف المتظرف ولكن أريده كسوباً إذا غدا، ضحوكاً إذا أتى". ولكن هناك صورة أخرى تقدم عنها، وهي أنها قد أقامت علاقة مع مولاها، وعندما سئلت عن السبب، أجابت: "قرب الوساد، وطول السِّواد" أيّ الفرصة تجعل من الإنسان لصّاً، كما ورد في كتاب الغراب والصقر، لحسن الشريدي (2014). لكنّ الصورة الثالثة، والأشهر، هي ما روي عن علاقات هند بنت الخس، في كتاب "جوامع اللّذة"، الذي سلّط الضوء على الثقافة الجنسية عند العرب. يذكر في الكتاب قصّة حب بينها وبين وامرأة مسيحية في العصر الجاهلي تعتبر أول علاقة مثليّة مؤرخة بين امرإتين في التاريخ العربي، وبطلتا هذه الرواية هما: هند بنت الخس وعشيقتها، بحسب زعم الخبر، هند بنت النعمان. يقال أنّ هند بنت النعمان كانت مخلصة لبنت الخس لدرجة أنّها قصّت شعرها قصيراً وارتدت رداء أسود وعاشت حياة زاهدة بعد ممات "الزرقاء". هذا لأنّ هند بنت الخس لقّبت بالزرقاء، والسبب مزدوج فهناك من أخطأ وخلطها بزرقاء اليمامة، وهناك من سمّاها الزرقاء إشارة إلى لون عيونها. تروي أيضاً بعض الكتب أنّ هند بنت النعمان بنت ديراً وأطلقت عليه اسم "الزرقاء" في ضواحي الكوفة، حباً وتقديراً لذكرى عشيقتها، بحسب "مثلية النساء في الشرق الأوسط"، لسمر حبيب (مجلة العرب، العدد 9). تداول الكثير من شعراء العرب قصة الحب المزعومة بينهما، منهم همام بن غالب المعروف بالفرزدق، فقال وهو يخاطب جرير بن عطية: وفيت بعهد كان منك تكرماً كما لابنة الحسن اليماني وفت هند وهناك من يقترح تأثر أدباء الغرب بمغامرات الزرقاء الرومنسية، فيقال أنّ الملحمة الفرنسية “إيد وأوليف" (Yde et Olive) كانت مبنية على حياة بنت الخس ومن المحتمل أنّ اللاحقة “ادية” في اسم هند (الإياديّة) أصبحت Yde في اللّغة الفرنسيّة، بحسب كتاب "نساء عرب مثليات وشبه مثليات"، لسحر عامر (2009). لا توجد الكثير من المعلومات عن حياة هذه الفصيحة الجاهليّة لكننا نستطيع الاستنتاج من النبذات المكتوبة عنها أنّها كانت شخصيّة مثيرة للاهتمام والجدل. اجتمعت بالحكيم قلمس الكناني في سوق عكاظ فاعتبرها نظيرته؛ وأبدت حكمة كبيرة ومعرفة عميقة عن النفس البشرية وأخلاقيات مجتمعها، ففي أبيات الشعر المنسوبة إليها تقول: لقد أيقنت نفس الفتى غير باطل وإن عاش حيناً أنه سوف يهلك وكم من أخي دنيا يثمّر ماله سيورث ذاك المال رغماً ويترك عليك بأفعال الكرام ولينهم ولا تك مشاكساً تلحّ وتمحك ولا تك مزاحاً لدى القوم لعبة تظل أخا هزء بنفسك تضحك تخوض بجهل سادراً في فكاهة وتدخل في غيّ الغواة وتشرك لأن سيرة هند تعتمد شذرات من المعلومات، يصعب تجميعها في صورة متكاملة، يبقى لنا، كقراء للتاريخ، مجال واسع من الحرية لإعادة خلق قصتها، وتفسير هذه المتناقضات. المصادر: "هند بن الخس"، في موسوعة الإسلام، النسخة الثالثة؛ الدين والجنوسة والثقافة في العالم قبل العصر الحديث، براين بريت وأليكسندرا كافل (2007)؛ الغراب والصقر، حسن الشريدي (2014)؛ في البحث عن الزوج/ة المثالي/ة، نادية الشيخ (2002)؛ نساء عرب مثليات وشبه مثليات، سحر عامر (2009)؛ أسطورة بنت الخس، رينيه باسيت (1905)، مثلية النساء في الشرق الأوسط، سمر حبيب؛ مجلة العرب، العدد 9؛ هند بنت الخس الإيادية نثرها ونظمها، لياسر عبدالحسيب رضوان. رصيف 22