مصطفى علي: أحارب بأصابعي كل ما يسيء لبلدي وللفن!
بعباءة الراهب استقبلني الفنان مصطفى علي، وهو ابن سورية وساحلها، في محترفه حيث تحاصرك الأساطير والتوابيت، التي يتناسخ فيها الزمن بلحظات من الزمن الفرعوني، إلى الفينيقي، إلى الوقت المسجّى بغمازة الجسد. بين منحوتاته تطوف بلون شبحي، تمر بتدمر والغوطة ومرفأ بيروت واللاذقية إلى روما وتونس وإيطاليا وفرنسا حيث أقام أغلب معارضه ومشاركاته الفنية. وهذا حواري معه وأنا أدور معه بين منحوتاته:
• الفراغ حولك وتزاحمك حشودُ تماثيلك لترتدي أنفاسك وتملأ تجاويفك بخصوبة عرائسك الخشبية… كيف تلتقط روحك بين منحوتاتك؟
•• تماثيلي أشاركها الشرب والحب. أرصد فيها الشجاعة لأكون فتى الحرية والخيال. بعشتار ورؤوس البرونز وأحصنتي المجلجلة أنكأ الجراح، وأضيء عتمة الجوارير وأعرضها للضوء. أكسر حواجز المجاملة وأوجِعُ، لأصبحَ حلواً، لأبدع وأجعل العالم أكثر قابلية لمعاشرة الحياة.
• بهذا السحر الجميل والحنين لبداية الطين والمنبع.. هل حلم الطفل بداخلك أن يكون النحات اليوم، وذاك الطفل هل هو راض عنك؟
•• منذ كنت طفلاً أغرمت بضفاف النهر، أركض أجمع الطين وأصنع تماثيل صغيرة. منذ الطفولة أدهشتني التماثيل وخاصة الأشكال صاحبة الثلاثة أبعاد. ألمُّ الطميَ من أطراف النهر وأصنع أشكالاً. وعرفت حينها أني سأتمكن يوماً من تحقيق حلم ذلك الطفل الصغير بأن يصبح مبدعاً ونحاتاً.
• بمفهومك عن فن النحت كيف تستطيع أن تحمي نفسك من التورط بمنحوتاتك وإلى أي مدى منحتك ألماً وقسوة؟
•• إني لست فقط متورطاً بمنحوتاتي بل مندمجاً لحماً وخشباً ومعدناً. بها أفصحُ عن الوجع والقهر بصرخة عشتار، أبوحُ بالحب.. بتفاصيل جسد الأنوثة. أنتمي لجيل يرصد اللامرئي، وألمس التابو الكلاسيكي، وأحرصُ في الوقت نفسه على حماية حميميتي وخصوصياتي. وهذا ما يعينني على اختراق حصون الآخرين.
• قدّمت عمل «الغوطة المهشمة» كمنحوتة خشبية يسكنها هشيم الحريق والدمار والتي استغرقت معك جهداً من سنة ١٩٨٩إلى عام ١٩٩٩ متنبئاً عبرها بأزمة الحرب الحالية في سورية.. كيف يسكنك هذا التنبؤ الذي يحوم حولك؟
•• الفنان يشبه العرّاف الذي يتنبأ ويتوقع. كان مشغلي الأساسي في الغوطة وتماثيلي هناك تملأ المكان. كنت رغم ذلك أشعر باستلاب العقل، واستلاب التفكير، حين تهاجمُ الطبيعةُ، فالطبيعةُ ستردُّ وتهاجمكَ. الغوطة دُمِّرت من التلوث البيئي، إلى الزحف العمراني العشوائي والمنظم، وأخطر تدمير كان التلوث السلفي الوهابي ليجعلوا منها مركزاً للحركات الأصولية. منحوتتي «الغوطة ودمارها» بدأتُ بها عام ١٩٩٨وانتهيت عام ١٩٩٩ وكانت مؤشراً لما سيحدث فيما بعد. الفنان يتنبأ بالإرهاب ولكن ليس لديه صلاحيات لوضع الحل. في الغوطة زحف سلفي تدميري مجرم، للفنان قدرة السيطرة على مناقشة «متعصّب»، وإنارة العقل. وأنا أؤمنُ بقناديل مضيئة قادرة بنقطة ضوء الوصول لأعتى مساحات الظلام. والإنسان الذي يُعمِلُ عقلَه ليس كافراً وإنما متنور، الإيمان غير الاستلاب. التنور هو ما ينفع الإنسان في وطنه.
• الشغف بالخشب والبرونز وتطويع الحجر والكروم.. كيف تحمل لمعانك كفنان وكيف تجاريه؟
•• سؤال جميل صديقتي. الأفكار مثل الخلق، طينٌ ولحمٌ ودمٌ. أشكالي نحيلة وجوهرية.. وهنا وجدت البرونز. وبعلاقة الدمار والحياة طوّعت الخشب والحجر. ففي أقواس قزح وجدت الكروم، بالخشب والطين والبرونز والكروم نحت هشاشة عوالم. حيث الفكرة تبحث عن المادة وعن عرق حياة وحياء.
• يقال إنك صاحب طباع صعبة، غامض منزوٍ، منطوٍ معتكف في محترفك، نزق، وقد استغربتُ ذلك من خلال لقائي معك.. كيف تستطيع كفنان وإنسان ألّا تكون غريباً عن الآخرين؟
•• منذ حققت نجاحاتي وساعدت في نجاح آخرين. أبعدتني الصدمة ببعض البشر عن متناول الناس، لأنزوي في محترفي وأصادق منحوتاتي. «الدكتاتور» في مصطفى علي يحضرُ بين الأكثرية والعبيد، وبين أصحاب الوفاء والصدق أكون الطفل الذي يعدو ويضحك ويتعثر على سجيته.
• في منحوتاتك خوف وقوة، انهيار وقيامة، ولادة وموت.. كيف تخترق حصون الآخرين فتنقضُّ كصيادٍ برقّة فنان؟
•• نحتُ القساوة متعة. أنحتُ القبح، وأنحتُ الجمال، أعانق الأرض، وأحضن السماء، ألمسُ نعومة الأنوثة، وأقبّل تجاعيد الشيخوخة. شركائي الضوء والعتمة… حجم الألم لديّ كبير، والفرح ومضاتٌ قصيرة في حياتي.
• ذكرتَ نقطة الضوء في مساحات الظلام، كيف تؤمن بالفن رغم ألمك لما يحدث له الآن؟
•• الفن صياغة فكرية، ونظرة إبداع، خاصة حين أضاءت دماغي لمعة برق جملة قالها سيادة الرئيس بشار الأسد: «التغيير عن طريق الفن».. الفن أقوى وسيلة للنصر، وانتصار الحضارات يعبّر عنه بالفن. وللأسف الفن في الأزمة في سورية في حالة انحدار بسبب القائمين عليه، وليس بسبب الأزمة!.
• الفن يوثق حروباً ويشعل صومعة أمل.. بماذا تختم لقاءنا؟
•• هناك طواويس وطبول وأزمات حروب وتجار شعوب ساهموا في تدمير الوطن سورية. والفنان الصادق برمحه وروحه يقاوم يبقى في وطنه لآخر لحظة، ويقوم بما عليه القيام به. وأنا أصنع بيدي الذهب وأفكاري تصنع الذهب. وأقدم ما عندي وأحارب برمحي وأصابعي كل ما يسيء لبلدي وللفن، وأدفئ بعباءة الراهب القاسية ما أستطيع من جراح وطني. الفنان يضيء عقلاً وقلباً ليخلق ما يتاح للضوء بأن يلمح ما يفعله. شرارة تكفي لقيامة. لدي إيمانٌ بالفن كإيماني بذلك الطفل الذي في داخلي بأنه لا يشيخ، ولايزال يجمع الطمي ويشعر بأن كل شيء قادر على الاكتشاف والحياة.
تشرين