البلاط الأسود.. رواية تكشف كيف يتلاعب المال والسلطة بالإعلام
تتصدى رواية (البلاط الأسود) للروائي والصحفي المصري ناصر عراق لقضية تلاعب رأس المال بالإعلام، واستغلاله في توجيه الرأي العام، وكذلك علاقة الأمن بالإعلام، وهو ما يقدمه المؤلف في قالب اجتماعي وسياسي يمتد على مدى نحو ربع قرن. الرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في 311 صفحة من القطع المتوسط هي الأحدث لعراق، الذي حصد العام الماضي جائزة كتارا للرواية العربية عن رواية (الأزبكية)، التي سبقتها أعمال منها (العاطل) و(أزمنة من غبار) و(من فرط الغرام) و(تاج الهدهد) و(نساء.. القاهرة.. دبي) و(الكومبارس). تبدأ أحداث الرواية في 1991 من عند صالح رشدي الطالب في السنة النهائية بكلية الإعلام، والذي توفي والده وترك له عبء أسرة صغيرة من أم وشقيقين، فاضطر للعمل في العطلات الصيفية حتى يدبر مصاريف الحياة. وبمرور الوقت تتضح المفارقة بين اسم بطل الرواية (صالح) وصفاته، فهو تواق للمال والشهرة حتى ولو على حساب أقرب الناس إليه. وكان أول من دهسه قطار رغباته المجنونة خاله عبد المقصود الجنايني، فأبلغ عنه جهاز أمن الدولة متهماً إياه بالانتماء إلى الجماعات الإرهابية. يكتسب صالح ثقة الأمن، ويصبح عينا له على الجماعة الصحفية والمجتمع بشكل عام، فتتحقق رغباته رويداً رويداً، ويصبح صحفياً في مؤسسة قومية عريقة، ويترقى سريعاً بعد إثبات جدارته في التجسس على زملائه ورؤسائه بالعمل. وتتشابه شخصية بطل القصة مع رئيس تحرير صحيفة مصرية خاصة، تردد أنه قام بإبلاغ الأجهزة الأمنية عن خاله، الذي كان قيادياً بإحدى الجماعات الإسلامية، ثم تم تعيينه بإحدى الصحف القومية الكبرى، ومن خلال علاقته القوية بالأجهزة الأمنية أسس صحيفة مستقلة ذات انتشار واسع، ارتبطت بشكل مباشر مع أحد رجال دولة مبارك، وأصبح رئيساً لتحريرها حتى كتابة تلك السطور. وخلال تلك الفترة تقارب من الإسلاميين عقب ثورة يناير، وأصبح عضواً بالمجلس الأعلى للصحافة، وتبنَّت صحيفته سياسة التمجيد في حكم الإخوان المسلمين، إلى أن انقلب الفريق عبد الفتاح السيسي، الذي كان وزيراً للدفاع حينها، على الرئيس محمد مرسي، فقام بتأييد الانقلاب ودعم العسكر، وشنَّ هجوماً عنيفاً طوال السنوات الأربع الماضية على الإخوان المسلمين وشباب ثورة يناير. ويستعرض ناصر عراق، الذي تخرج في كلية الفنون الجميلة، وعمل مديراً لتحرير جريدة اليوم السابع كيف اقترن بطل روايته بزميلته في الدراسة (منال الصياد)، التي استغلّ حداثة سنها فضغط عليها للزواج بشقة أسرتها، واقترض منها ثمن الشبكة، لكنه بعد أن يصبح فرداً من الأسرة يعيث فيها فساداً. وفي أجواء تعيد إلى ذهن القارئ رواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب) التي تحولت فيها ولاءات الصحفي رؤوف علوان وشعاراته، تزداد شهوة المال والشهرة في رأس الصحفي الفاسد، صالح، بعد تحالف رجل الأعمال رامي الحلواني مع جهاز أمن الدولة، لتكتمل أضلاع المثلث: الإعلام والسلطة ورأس المال. ويؤسس الحلواني مع صالح صحيفة مستقلة باسم (لحظة بلحظة)، تساند نظام (الرجل الكبير)، كما أحبَّ مؤلف الرواية تسميته والتمهيد لتوريث ابنه الكبير حكم البلاد. تنساب الرواية بعد ذلك في خطين متوازيين، يسردهما صالح ومنال بالتبادل، فيتابع القارئ الخط السياسي على لسان صالح، بينما تتبنى منال سرد الخط الاجتماعي. تهبّ رياح التغيير دون توقع في 2011، فيسقط نظام (الرجل الكبير) ويتحول صالح وصحيفته إلى تأييد التيار الإسلامي، ثم يصبح من مناصري أول رئيس مدني منتخب، بل يصبح اسمه مطروحاً لتولي منصب وزير الإعلام. مرة أخرى يسقط النظام بعد عام واحد، ويأتي نظام جديد فيغير صالح جلده وسياسة صحيفته المستقلة، فيلعن التيار الديني ويمجد في حركة (تمرد) وشباب مصر الواعي الواعد. استطاع صالح على مدى 25 عاماً التغيُّر والتبدل ومواكبة كل التغيرات مثل لاعب سيرك محترف، لكن جرائمه كانت تطارده في الأحلام التي تحولت مع الوقت إلى كوابيس، كان بطلها خاله الذي انتهت حياته بالإعدام، ولحقت به شقيقته أم صالح، التي ماتت كمداً على أخيها المظلوم. تنتقل كوابيس صالح من عالم الخيال إلى أرض الواقع، متجسدة في (حذيفة) ابن خاله، الذي كان رضيعاً حين اعتقل الأمن أباه، وأصبح اليوم شاباً ضخم الجثة ذا لحية سوداء وملامح تشبه الأب الراحل. على مضض يتقبل صالح طيف الماضي الأليم، الذي زاره بعد أن توفيت زوجة خاله، وأوصت ابنها بالذهاب إلى قريبهم الصحفي الشهير بالقاهرة، فيصدر صالح قراراً بتعيينه في صحيفته المستقلة، حتى يكون دوماً أمام عينيه ويأمن جانبه، لكن هيهات.. تأتي الضربة القاسمة من صاحب الحق الذي عاد لينتقم لأبيه. الرواية جاءت سلسة لا تحمل عُقداً تحير القارئ أو منعطفات مثيرة، إلا إذا ظل القارئ منشغلاً بمطابقة سمات صالح رشدي الشخصية والمهنية على عشرات الصحفيين، الذين صعدوا بسرعة الصاروخ وسقطوا سريعاً، خلال السنوات الماضية. حتى النهاية تأتي متوقعة بانتصار الخير على الشر، والانحياز للحق على حساب الزيف والفساد، لكن بقراءة أكثر تأملاً للتفاصيل يدرك القارئ كيف نجح المؤلف في مزج العام بالخاص، واستعراض أوجه القصور الذي شاب الإعلام قبل انتفاضة 2011 في مصر، والتغيرات المتسارعة المتناقضة في السنوات القليلة التالية. هاف بوست