الزجاج المعشق هوية سورية.. اختصت به الشام وفي مختلف العهود ليقدم الذوق الفني
تعد صناعة الزجاج التقليدية بسورية عامة وبدمشق خاصة، من أهم الصناعات التقليدية التي تستدعي اهتمام السائح، فلا يكاد السائح يحط رحاله بدمشق، إلا ويهرع مسرعاً إلى معمل أو فرن للزجاج، يعيش لحظات حية مع الصناع وهم يعملون بدأب وأناة وبراعة. ولعل من أهم أسباب اهتمام المستشرقين والباحثين بهذه الصناعة، إنما يعود إلى أن أول اكتشاف للزجاج في العالم كان ببلاد الشام، فضلاً عن ذلك، فإن المتاحف السورية، تزخر بنفائس فريدة من المنتوجات الزجاجية التي تعود إلى مختلف العهود الكنعانية والرومانية، وسائر العصور الإسلامية. وقد عد الثعالبي هذه الصناعة من خصائص الشام، وضُرب بها المثل القائل: أرق من زجاج الشام.. واستمر ذلك حتى بين الحرب العالميتين حيث تعرضت صناعة الزجاج هذه إلى كَبْوات عدة نتيجة لظروف الحرب، لكن هذه الصناعة استعادت نشاطها بعد الحرب العالمية الثانية، وتابع الصناع نشاطهم وفقاً للأساليب المتوارثة، مع التلاؤم ما أمكن مع متطلبات السوق المحلية والمجاورة، نتيجة لما يتمتع به أولئك الصناع من أصالة الممارسة، وتذوق لروح الصنعة، واستعداد لمسايرة تطور متطلبات السوق. أتى مؤسس هذه الصناعة، من عائلة القزاز إلى دمشق، من مدينة الخليل في فلسطين، فاستوطن حي الشاغور بدمشق، وأنشأ فرناً لهذه الصناعة بمنزله، عمل بهذا الفرن مع أفراد أسرته، ثم تعددت الأفران بهذا الحي، وما لبثت أن انتشرت بشمالي سورية، وبرع صناعها في بلدة أرمناز الذين كان لهم دور مرموق في تغطية حاجات المناطق الشمالية من سورية، من المنتوجات الزجاجية فشاركوا بذلك زملاءهم الدماشقة، وإذا كانت أفران الزجاج منزلية بأول أمرها، فإن هذه الأفران بعد أن كثر الطلب على منتوجاتها، ما لبثت أن توسعت وانتقلت إلى خارج المنزل، وقد كان فرن الزجاج يتكون من حوضين مبنيين من الآجر الناري (المتحمل للحرارة) هما: حوض الانصهار وحوض التصفية، وسقف هذين الحوضين منخفض ومقبب بعض الشيء، وفوقه مساحة تعلو إلى نحو 100 سم وهي مسقوفة بالتوتياء المغطاة بطبقة من الطين أو نحو ذلك، ويتخذ هذا المكان لتخمير القطع الزجاجية التي جرى صنعها، من قطر ميزان وأباريق وأراكيل (نراجيل). وبين الحوضين المذكورين شقوق ينساب عبرها الزجاج المنصهر من حوض الانصهار إلى حوض التصفية، ويطلى الحوضان المذكوران من الخارج، بالطين المكون من التراب الناري والقش المعروف بالتبن. وعلى ارتفاع يقارب 60 سم من المحيط الخارجي للفرن، توجد فتحات (طاقات)، يتناسب عددها مع عدد العاملين على قطف عجينة الزجاج وصنعها قطعاً تدخل بالاستعمال. فبعد أن يغسل الزجاج المكسر وينقى، يفرز وفقاً لألوانه ثم يلقم به الفرن على شكل طرحة عبر فتحة يطلق عليها اسم الدوار، أما مقدار الطرحة، فهو حسب اتساع حوض الانصهار، وعندما ينصهر الزجاج فإنه يسيل من حوض الانصهار إلى حوض التصفية عبر الشقوق المشار إليها، وفي هذا الحوض (التصفية) تترسب الشوائب من رمال وحصى وتصبح عجينة الزجاج قابلة للتصنيع. وما إن انتقلت أفران الزجاج من المنزل، إلى أماكن خاصة بها حتى أصبح بإمكان هذه الأفران تلبية حاجات قطاع أكبر من الناس، وقد صاحب ذلك تطور بنوعية الوقود المستعمل من كسبة الزيتون المعروف باسم الجفت إلى المازوت أو الفيول، فضلاً عن الكهرباء، وقد تطلب هذا الأمر، أن يكون العمل في فرن الزجاج مستمراً ليل نهار لأن إيقاف العمل بالليل يؤدي إلى تبرد عجينة الزجاج، ما يزيد في نفقات الإنتاج وبالتالي هدر الوقت لإعادة تسخين الزجاج وجعله عجينة صالحة للعمل، ولذلك أصبح العمل بفرن الزجاج على دفعتين، دفعة من منتصف النهار إلى منتصف الليل، ودفعة أخرى تعمل من منتصف الليل إلى منتصف النهار، وقد شمل ذلك الصناع والأجراء، ومن يرافقهم من العاملين، ولكل من هؤلاء عمل خاص ينفرد به، أما عدد العاملين بفرن الزجاج فيرتبط باتساع وكبر الفرن، كما يرتبط بعدد الفتحات (الطاقات) التي يقطف منها عجينة الزجاج، بغية صنعها وفقاً للطلب. وكان من العاملين بفرن الزجاج ما يعرف بالصانع ثم المسطر ثم المخدم، فالصانع هو العنصر الأساسي الذي يعمل على قطف عجينة الزجاج من الطاقة المفتوحة على تلك العجينة، ثم يعمل على نفخ تلك العجينة ومعالجتها حتى تصبح آنية صالحة للاستعمال. أما المخدم فإن عمله ينحصر في تسهيل عمل الصانع، بمناولته بعض أدوات العمل، وكذلك فتح القالب الخاصة بالقطعة التي تحيد الإنجاز، ومن ثم إغلاق ذلك القالب على تلك القطعة، حتى إذا جرى نفخها يفتح المخدم للصانع ذلك القالب، وفي جميع الأحوال فإن عمل المخدم إنما ينحصر بحدود العمل ضمن مكان العمل، ولا يتعداه إلى خدمات أخرى خارج المعمل. أما المسطر فيقوم بتداول القطع الزجاجية المنجرة من الصانع، بوساطة ما يعرف بالسفّول، وهو قضيب معدني، وقد يكون قطعة خشبية طويلة يدخلها المسطر ضمن الآنية المنجرة، ليقوم الصانع بفصلها عن ما يعرف بالبولين، ومن ثم يعمد المسطر إلى وضع تلك القطعة بالقسم الأعلى من الفرن لتبرد ببطء وبالتالي تكون تلك القطعة صالحة للاستعمال. يجلس الصانع أمام الكوة (الطاقة) المفتوحة على عجينة الزجاج وهذه الكوة تكبر أو تصغر وفقاً لحجم قطعة الزجاج التي هي قيد الصنع، وعلى ذلك فإن من الممكن القول: إن الطاقة التي تصنع عليها كاسة الشاي، أصغر من الطاقة التي يُصنع عليها القطرميز أو نحو ذلك، أما عدد فتحات فرن الزجاج، فهي تتناسب مع حجم الفرن وبالتالي عدد الصناع العاملين بالفرن، وأمام هذه الطاقة حجر صقيل، ويكون فتح الطاقة بوساطة دواسة يتحكم بها الصانع. إذا جلس الصانع مقابل الطاقة، فإنه يدوس على الدواسة فتفتح الطاقة، ومن ثم يعمد الصانع إلى إبعاد الطبقة السطحية من عجينة الزجاج عن الطاقة بوساطة ما يعرف بالغزالة، فإذا كان له ذلك يشرع بقطف أو كرخ ما يريد من عجينة الزجاج عبر الطاقة، ويكون ذلك بأن يلف هذه العجينة على أنبوب معدني طوله (80-120 سم) وقطره (8-12) مم. فإذا قطف الصانع ما يريد من عجينة الزجاج فإنه يضع على فخذه قطعة معدنية تعرف بالملقط، وهو يبرم ذلك الأنبوب المعدني المعروف باسم الحديدة على ذلك الملقط الذي على فخذه محاولاً تنقية العجينة مما شابها من حصى صغيرة أو نحو ذلك، بوساطة مقص لهذه الغاية، وبعد ذلك يقوم الصانع بدمج العجينة المذكورة على الصفيحة الحجرية التي عند مدخل الطاقة، ويشرع بنفخها عبر الأنبوب المذكور (الحديدة) وهو يحاول تسخين العجينة كلما بردت، ليسهل عليه نفخها، ولا يخلو عمله من أرجحة العجينة الزجاجية واقفاً أو جالساً، وإذا كانت القطعة التي يصنعها بحاجة إلى قالب فإن المخدم يفتح له ذلك القالب، فينفخها الصانع لتأخذ شكل القالب ومن ثم يفتح له المخدم القالب، ويعمد الصانع بعد ذلك إلى فصل القطعة عن الحديدة فيلصق أسفلها بأنبوب معدني يطلق عليه اسم البولين، وقد يساعده المسطر بذلك إذا كان حجم القطعة التي يصنعها الصانع أكبر من أن تدار على الحجر الصقيل الذي أمام الطاقة، وبعدئذ يعمد الصانع إلى تحمية أو تسخين فوهة القطعة ليقوم بفتحها على الشكل المرغوب بوساطة أداة كالملقط يطلق عليه اسم التربيع. إذا أنجزت القطعة، يقوم المسطر بتناولها من الصانع بوساطة أداة خشبية أو معدنية طويلة هي السفود تدخل في فوهة القطعة المذكورة، ومن ثم يضع المسطر هذه القطعة بالقسم الأعلى من الفرن حيث يمكن أن تبرد تدريجياً لتكون صالحة للاستعمال. تفردت المصنوعات الزجاجية بتوفير الأدوات اللازمة للاستعمال المنزلي والحاجات الخاصة لبعض الأشخاص، ولكن توافر الأدوات المنزلية من مواد غير قابلة للكسر، كالبلاستيك جعل بالإمكان الاستغناء عن الكثير من هذه الأدوات، واستبدالها بأخرى من البلاستيك أو الألمنيوم أو نحو ذلك. ونجم عن ذلك كساد للعديد من المنتجات الزجاجية التقليدية، وبالتالي فإن العديد من أفران الزجاج التقليدية في دمشق أخذت تخط طريق النهاية، وهذا الوضع جعل العديد من العاملين بحرفة الزجاج التقليدية يعملون على تطويع إنتاجهم ما يتوافق وحاجات الحياة اليومية المتجددة للأدوات المصنوعة من الزجاج، وذلك مع المحافظة على الأصالة في الأسلوب التقليدي القائم في أساسه على نفخ عجينة الزجاج وتشكيلها أدوات تصلح للاستخدام. فقام عدد من معلمي حرفة الزجاج بإنتاج تعديلات ما تزخر به الدور والمتاحف من الأدوات والتحف الزجاجية، ومن ذلك الزهريات والقناديل والمشكاوات والثريات الحديثة، وغير ذلك مما تتطلبه الحياة المعاصرة للصالونات والدور الفارهة والفنادق السياحية، ومحال العرض الكبرى. كان من أميز أولئك المجددين لحرفة الزجاج التقليدية السيد حسن القزاز (أبو نذير) عميد آل القزاز وشيخ كار حرفة الزجاج التقليدية في دمشق، وقد أثرت أعماله المحافل والمعارض والندوات الدولية، بدعوات من اليونسكو، وفرنسا والسويد وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، كان بكل من هذه الدول يبني فرنه التقليدي، ويشرع بالعمل أمام الجميع، كان بكل دولة يلقى الاستقبال والترحيب البالغين، وقد حدثني لدى زيارتي له سنة 2004 أن الجالية العربية في واشنطن استقبلته وصحبه استقبالاً يشعر بالاعتزاز والولاء والمحبة للوطن. ومما قاله لي: إنه على استعداد لصنع الكريستال المعاصر بالفرن التقليدي إذا توافرت له الحماية المناسبة من المتطفلين على نفخ الزجاج. ولا بد من الإشارة إلى أن الالتزام بنوعية الإنتاج التي توافق الأذواق المعاصرة مع توخي الجودة بنوعية الإنتاج، نجم عنه تناقص بعدد أفران صناعة الزجاج التقليدية، حتى أصبح عدد هذه الأفران فرنين، الأول بشرقي التكية السليمانية في سوق المهن التقليدية في دمشق والفرن الآخر بمنطقة باب شرقي في دمشق، ويعمل بكل منهما عدد من الصناع المهرة الذين توارثوا الكار (الحرفة) كابراً عن كابر. وبالتالي فقد انحصر الإنتاج بصنع أنواع القناديل على مختلف أشكالها وأحجامها، وكذلك المشكاوات والتعاليق والفوانيس وأشكال عناقيد العنب والمزهريات والمشربيات والأباريق. ولعل أهم ما تميز به فرن سوق المهن اليدوية، ما يطلق عليه اسم: الطقم الشرقي الذي يتكون من كازين ضوئيين، ومزهريتين ومطبقيتين بغطاء لكل منهما، وهذا الطقم يماثل الطقم الذي كان يتغاوى ويتفاخر به أصحاب القصور والدور الفارهة في دمشق، حيث كان هذا الطقم يصمد على البيرو المصدف والمطعم بالعاج والفضة والقصدير، وهو من صنع الحاج حسن القزاز (أبو نذير) شيخ كار حرفة الزجاج الذي تحدثنا عنه، وقد زينت قطع هذا الطقم برسوم من ماء الذهب لزخارف نباتية من عروق وأزاهير، وكتابات لآيات من القرآن الكريم فضلاً عن الأمثال والحكم. وقد استخدمت في إعطاء قطع ذلك الطقم الألوان المناسبة من العديد من الأكاسيد ومنها أكاسيد النحاس والحديد والكوبالت، كما استخدم الذهب من عيار (K) وكذلك الفضة روباص، وبالطبع فإن تعرض كل قطعة للشي بحرارة تصل إلى 600 درجة جعل مادة الزخرفة تنصهر وتتماثل مع الزجاج بنسيج واحد، لما في ذلك من دقة وذوق وأناة، من أناس مختصين اتخذوا عملية صنع الزجاج بطريقة النفخ التقليدية، وهم على درجة عالية من التفنن والإبداع. وهذا بالطبع جعل الناس من المواطنين والأشقاء العرب والأجانب يقبلون على اقتناء تلك المصنوعات الزجاجية كهدايا تذكارية، أو لتكون تلك القطع ما يزيّن أثاث الدور وديكوراتها، ويزين ردهات الصالونات الكبرى، أكان ذلك في سورية أم في الأقطار العربية والدول الأخرى، فضلاً عن هذا لا بد من التوقف قليلاً عند حرفة الحفر على الزجاج التي تكمل منجزات حرفة الزجاج التقليدية، والحفر على الزجاج عمل فني تفرد به السيد الفنان المبدع (لويس صراف وزوجته) وهما من أهالي حارة حنانيا في باب شرقي في دمشق. كان الصراف يرفض تلقين حرفته في الحفر على الزجاج والحرف الأخرى التي كان يتفرد بها إلى أحد، حتى أولاده، بحجة أنه لم يكن يستطيع أن يأكل أو يشبع من ذلك حتى الخبز، وقد قمت بزيارته برفقة وزير الثقافة السورية آنذاك، فكان ضمن هذه الزيارة أن قنع الصراف بتلقين ما يدّخر من معارف وفنون. ويكون الحفر على الزجاج بطلي القطعة الزجاجية المراد الحفر عليها بمادة الشمع ثم يرسم على ذلك الشمع ما يراد نقشه أو حفره على الزجاج، ومن ثم تدهن القطعة بمادة الأسيد، ما يسبب تجويف الزجاج، ثم يعمد إلى إملاء أو دهن المكان بماء الذهب، وبعد أن يزال ما تبقى من الشمع على القطعة يوضع بها الضوء المناسب وتعلق، وتكون الزخارف على الأغلب بالخط الكوفي المشحر لحكم وأمثال تتناوب مع وحدات زخرفية ورسوم لعروق نباتية ودوائر متشابكة في مركزها رسوم زنابق وأزهار، وغالباً ما يكون هذا الحفر على المشربيات والأباريق والقناديل والمشكاوات. الوطن