المفتي.. الرجل الذي لبس الكفن حياً
مضت ثلاثة عقود على بداية علاقة قدرية هي من أكثر العلاقات إدهاشاً في حياتي، وقبل ثلاثة عقود لم أكن لأتخيل أن هذا اللقاء سيمتد أكثر من الوقت الذي استغرقه اللقاء الأول… قبل ثلاثة عقود لقيت الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون في حلب، وهي من المرات القليلة التي أسمع فيها شيخاً معمماً، ويملك هذه اللغة المطواعة، وهذا التوجيه الرفيق الرقيق، وهذه الابتسامة الساحرة التي تزرع فيك التفاؤل وروح اليقين بالإنسان وعلة وجوده.. وبعد سنوات وجدتني أقصده من جديد، فأوحى إليَّ أنني ما غادرته، وتيقنت من أنه لم يذكرني، لكنه بتتابع الأسئلة الذكية أخرجني من الحرج وأعطاني صفة الصديق القديم.. فازدادت مكانته عندي وصار التواصل أكثر قوة… إلى أن عقد مؤتمر للمرأة في دمشق، فأوكل إليَّ الأستاذ وضاح عبد ربه رئيس تحرير «الاقتصادية» مهمة أن أحاور الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون بما أنني على صلة به.. وكانت لحظة الاشتعال التي جعلتني واحداً من أسرته وأحد أفرادها… ومنذ ذلك اليوم أسعى لديه بأن أحرر سيرته الذاتية، فيهز برأسه، وفي اللقاء الثاني يتجاهل طلبي، فأعرف أن الموضوع لم يأخذ لديه الموقع الذي أحب. العلم المتجذر عندما دخلت بيت سماحته في حلب أول مرة راودتني مشاعر شتى، فالمكتبة العامرة، والأسرة التي تحيطه بتهذيبها، والكرم غير المحدود، والعز الذي يدل على أصالة متجذرة غير طارئة.. وبدأت أحاديثنا تتواتر بين بيته العامر ودارة الإفتاء بحلب، وفي كل جلسة كان الشيخ الوالد أسبغ الله عليه رحماته هو مدار الحديث، هذا الأب المثال في علمه وزهده وتوجيهه، وكم وقفت عند شخصيته فهو الموجه والمربي والشيخ، وهو الوالد الحنون المحب، وهو المرشد الذي لا يقبل مجاملة، ولا يفتأ يعيد على مسامع شيخنا نصائحه، ومن يجلس إلى سماحته ولو لوقت قصير، فإنه لا بد سيسمع اسم الشيخ وأقواله، وشيئاً عن أفعاله، لأنه يسكن تفاصيل شيخنا، وكلماته تهديه، وخاصة في احترام الآخر، وقد روى لي الكثير من احترامه للمشايخ والعلماء في حلب والشام، وفي العالم الإسلامي. فالشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون شيخ ابن شيخ، وعالم ابن عالم، ومتصوف ابن متصوف، وله رأي مهم في التعليم الشرعي وآلياته، وما هو عليه، ويشارك في ذلك والده الجليل الذي ينتقد الشدة والقسوة في تقديم هذا الجانب المهم من الدين.. وأقف عند الشيخ الجليل الراحل لأنه علامة وهداية في حياة سماحة المفتي وعلمه وعمله في الشأن العام. وللإشارة إلى العلم المتجذر الذي نهل منه سماحته، وأتمه على أيدي العلماء الأجلاء في الأزهر ليعود شعلة من علم وعمل في الشأن العام ولا أقول السياسي، لأن الشأن العام هو من مهام عالم الدين، ومن الواجب عليه ألا يعتكف في معبده أو صومعته منتظراً الآخر ليأتي إليه، بل عليه هو أن يسعى للآخر، ولإيجاد صلة وثيقة مع الآخر الذي يختلف عنه، ولا خلاف بينهما. الدكتور حسون والآخر والحب حين بدأ سماحته مهامه بعد أن كان خيار السيد الرئيس بشار الأسد لتولي مهام الإفتاء بدأت مروحة علاقاته تتسع، وبالاتجاهات كافة تأكيداً لانخراطه في الشأن العام، وترسيخاً لدور عالم الدين الحقيقي، وقد بالغ السادة المشايخ في انتقاد هذا العمل مع يقينهم بضرورته الماسة، لكنهم غير قادرين على فعله بما ملكوا من قدرات وعلم، وبما يملكون من قبول لدى الآخر، ومن عجز في الرؤية! ولو عدنا إلى مرحلة سابقة فسنكتشف رؤية الدكتور حسون، فهو لم يفعل ذلك حين صار في موقع الإفتاء بل كان يفعله عندما تولى إفتاء حلب، وقبل ذلك وبصفته العلمية والشخصية، فكم شهدت الكنائس والمساجد من فعاليات كان وراءها؟ وكم تعزز دور المؤسسة الدينية في الفعاليات الاجتماعية، وفي أكثر من مرة صادف أن كنت برفقته في حلب وهو يؤدي هذه المهام، وهو يقول: «ليس مطلوباً مني أن أنتظر السائل عن الفتوى» فهو لا يؤمن بالعالم الذي يجلس وحيداً بعيداً متعالياً حفاظاً على هيبته. وعندما تولى سماحته مهام الإفتاء، وهو في أوج رجولته وقوته وعطائه استمر على نهجه في الحديث مع الآخر وعنه، وناله نقد كثير، حتى في الفعاليات الاجتماعية والثقافية لم يتردد سماحته في المشاركة بكل فعالية يسمح له الوقت بحضورها، بل كلما طلب إليه تحدث، لا ليعظ، وإنما ليحدد معالم الطريق والحياة، وهذا ما ساء كثيرين من محبي الحياة الرتيبة الهادئة المنعزلة، ولم نسمع من أي منهم رأياً بديلاً، وكل ما سمعناه هو من باب الانتقاد لوجه الانتقاد، وعدد منهم ناقشته، فلم أجد لديه رأياً مخالفاً لرأي سماحته، لكنه يحاول تفسير اجتهادات سماحته تفسيرات خاصة ليقلبها عن حقيقتها! إن سماحته يؤمن بالحياة والشأن العام، ويؤمن بعمل الإنسان لمصلحة أخيه الإنسان لذلك وجدناه منذ مرحلة مبكرة وبإيحاء وتوجيه من السيد الوالد مؤمناً بوحدة الدين وتعدد الشرائع. العلم والتحصيل والتناغم أول كتاب استرعى انتباهي في مكتبة سماحة المفتي العام كتاب ضخم وفي مجلدات عدة بلغت عشرة مجلدات هو موسوعة (الإمام الشافعي) ولأنني لم أقتن ذلك الكتاب، ولم أكن قادراً على اقتنائه، استهديته من سماحته، فلم يحملني إياه من حلب، وفي أول زيارة له- وهو مفتي حلب- إلى دمشق قدّم ذلك الكتاب النفيس، وهو الذي يضم تراث الإمام الشافعي كله، وعند قراءة الكتاب، وقد فعلت، نجد سيرة الإمام الشافعي وفقهه وتطور هذا الفقه، واجتهاداته العديدة، إضافة إلى دراسة وافية وضافية لمحققه الدكتور حسون… والاختيار كما نعرف يدل على المختار، وقد اختار سماحته الإمام الشافعي بدافع روحاني، فهو الإمام الواسع العلم، الكثير الاجتهاد، المنفتح على الجميع، وهو فوق ذلك يمثل المظلومية العلمية التي عرفها التراث العربي والإسلامي دون سواه، والإمام الشافعي سافر واغترب وطلب العلم، وحورب وعذب واضطهد بشتى الأساليب بسبب آرائه واجتهاداته، ويسجل الجميع بما في ذلك العلمانيون للإمام الشافعي أنه عمل على التقريب، وتتلمذ على علماء من شتى المشارب، وكان له تلامذة من مختلف المدارس الفقهية.. وليس من عبث اختار الدكتور حسون الإمام الشافعي وموسوعته لتكون طريقه إلى العلم وشهادة العالمية، وكلما تحدثنا في أمر حول آرائه، كان يقول لي: لقد حصل للإمام الشافعي كذا وكذا.. وكأنه يقول لي اخترته لدراسته لا للشهادة العلمية، بل لتمثل حياته، وكما كان الشافعي منارة في آرائه كذلك سماحة المفتي هو منارة في علمه وظهوره واجتهاداته التي من الصعب أن يأتي بها صاحب مصلحة. هذه المدرسة القائمة على الاجتهاد والرأي والدفاع عن الرأي هي المدرسة التي نهل منها الأستاذ الدكتور أحمد بدر الدين حسون، لذلك استحق أن يكون خيار السيد الرئيس لما تحمل هذه الشخصية من مقدرات عالية على التجميع لا التفريق، وعلى الاجتهاد لا التحنيط وهذا لا يروق لمن رأى في نهج المدرسة الدينية شيئاً من الثبات، وكثيراً من المصلحة عندما تتحول المؤسسة الدينية إلى مؤسسة كهنوتية شريكة للسلطة في التسلط على الناس ومقدراتهم، وعلى عقولهم بالدرجة الأولى وهو الأهم، المدرسة التي ينتمي إليها سماحة المفتي وكثيرون هي مدرسة الإمام الشافعي المزهرة بالعلم والاجتهاد والأخذ من كل نبع علم، والفرق الوحيد أن أولئك يجهلون مدرسة الإمام، وسماحة المفتي تمثلها، ولا يعنيه أن يلقى من هذه الآراء التي تلتصق بالنص المقدس ما يلقى، وكان مثال التسامح في كل محطة، كما كان صاحب المدرسة ورائدها الإمام الشافعي، فأين تمثلت هذه المحطات من التسامح عند سماحة المفتي؟ سمات عن الإيذاء والقتل لن يكون العالم عالماً، سواء كان العلم دينياً أو دنيوياً إلا إذا كان متسامحاً يصفح عن الناس الذين أخطؤوا في حقه بشكل مباشر، والمشكلة تتضاعف مع علماء الدين، فهم القدوة الذين من المفترض أن يكونوا على درجة عالية من الصفح والمسامحة.. فهل سمعتم بذاك العالم الذي يتخمنا بالحديث عن الغضب، وليس الشديد بالصرعة وإنما من يملك نفسه عند الغضب؟ أسمعتموه ومن ثم رأيتم كيف يكون مثالاً شديداً للغضب، يستل لسانه وقلمه وكل ما يمكن للرد بغضب!؟ أرأيتم ذاك الذي يتحدث عن العصبية ويدعو إلى زوالها واعتماد العقيدة ثم تجده أكثر الناس عصبية لقوميته ودينه ومذهبه ومنطقته؟! كلنا رأينا.. ولكن سماحة المفتي العام الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون مختلف تماماً، فكم ارتكبت من هفوات في بداية مسيرتي معه ولكنه لم يذكرني بواحدة منها، ناهيك عن أن يقتص لهذه الهفوة! وهناك أشياء لا يعرفها الناس، لكنني أريد أن أوضحها، وهي ترى النور أول مرة على الورق… فعندما حظي سماحته بثقة السيد الرئيس وتولى مهام الإفتاء العام على ما فيها من مسؤوليات، جاء من حلب العظيمة إلى دمشق الخالدة، وما بين مدينتين عظيمتين كان نشاط سماحته، والسادة العلماء، وأبناء المؤسسة الدينية، والمتطفلون على المؤسسة الدينية يعلمون أنه كان بإمكان سماحته أن يؤسس لمدرسة أو جماعة أسوة بالجماعات المعروفة والمطوّبة من الجهات الوصائية، وأن يتزعم مدرسة دينية حقيقية، لكنه لم يفعل، ولم يقبل، وسألته أنا تحديداً عن إمكانية الاستفادة من المؤسسة ذات التبعية لسماحة المفتي العام الراحل أحمد كفتارو، فأجابني هذه مؤسسة تحمل اسماً ومعهداً له المشرفون عليه، وليس من الجائز أن أنشغل به عن المهام التي جئت من أجلها، فأنا جئت للإفتاء العام لسورية، لا لتأسيس جماعة تتنافس علمياً وبطرائق شتى مع الجماعات الأخرى، فإن أشرفت على أي جماعة فسأصبح تابعاً لها مدافعاً عنها! ولننظر إلى العلماء والمشرفين على المؤسسات الدينية الآخرين الذين يتولون مواقع لدى جماعات ويقبضون الرواتب، لذلك هم يسيرون أمور الأماكن التي يشرفون عليها ويرجون لها على حساب الأماكن الأخرى، بينما سماحة المفتي يلبي دعوة أي جهة إذا دعي، ولا يتولى غير موقع الإفتاء.. وعلى الرغم من ذلك وجد من يحاول أن ينال منه ومن منهجه، وذاك الذي ينال ينغمس مع جماعات على حساب أخرى.. وسماحة المفتي بكامل الرضا لأنه يمارس إفتاءه لكل الناس، بما في ذلك من ينتمون إلى شرائع أخرى غير الإسلام. ويوم الخميس الفائت كنت في زيارته الدورية عندما حضر الوفد الإيطالي، وشهد الإعلاميون الذين رافقوا الوفد وكل من حضر بأن رئيس الوفد الذي ينتمي إلى حزب برلسكوني أخذ رأي سماحته في قضايا، وقال له: إن صرت مسلماً فلن آخذ إلا رأيك شيخي.. هذا ألا يدل على السماح، وعلى الإقناع؟ وعن سماحه وترفعه أذكر مثالين يعرفهما كل الناس، وشهدت الشاشات عليهما:
- زيارته لدرعا في بداية الأحداث عام 2011، هذه الزيارة التي لم يقم بها سواه من علماء الدين المسلمين والمسيحيين على السواء، والتي كانت بمبادرة خاصة منه، ولا يمكن لأحد أن يجبر أحداً على القيام بها.. أتذكرون سماحته وهو يحمل كفناً ويتقدم من أهل درعا لحل المشكلات قبل أن تتفاقم؟ كان من الممكن لهذه المحاولة أن تحقن دماء لو وجدت آذاناً مصغية.. وقد سمعت بعض المتقاعسين عن الفعل والمبادرة ينالون من هذه الزيارة، والجواب ببساطة هو أليس من الممكن أن ينال سماحته أذى في هذه الزيارة؟ فهل يعقل أن يدفع نفسه إلى المخاطر وهو غير مؤمن بما فعله؟ والجواب أيضاً: لو استجاب الناس لاستغاثاته فماذا كانت النتيجة؟
- لا يجلس سماحة المفتي مع أحد، وهو مستعد لإفحامه وإقناعه، وإنما يجلس معه ليسمعه أولاً، ثم يعرض هو ما لديه، وينتهي الحوار من دون رفع صوت، لأن الغاية ليست المحاججة والإقناع، بل الغاية هي أن يفهم الآخر ديننا، وأن نفهم رأيه.
- لا ينطلق سماحة المفتي من سوء النية، فهو رجل ملك من السياسة والكياسة ما يجعله قادراً على تقبل تقلبات الآخرين، وقد حضرت لقاءات له مع أناس لا يحملون له من الود ما يحمل، وهو يعلم، وهو يجالسهم ويحاورهم بأدب جمّ، وبألقابهم الرنانة، وهو يعلم أنها ألقاب خلبية، لكنهم يحبونها، ولو انتهت هذه الجلسات كما بدأت تسمعه يقول: هكذا أمرني إسلامي ورسولي، وهذه مهمتي التي حملني إياها السيد الرئيس، فلو كنت أمارس شعائري ولا أحمل مهمة من حقي أن أتصرف بشخصانية ومزاجية، لكن ما أحمله يجعلني ملكاً للآخر ولو لم يكن يحمل لي الود، فالمهمة تكليف خارج حدود الحب والعاطفة.