نصوص مثخنة بالطعنات!
انتهت صلاحية التشكيك بمشروعية قصيدة النثر، ومع ذلك فإن اتهام هذه الكتابة بالهراء والسطحية، لايزال يتردد في يوميات النقاد بسبب قلة الشغل والبطالة الإبداعية التي تعني أن التعميم القتّال أسهل بكثير من النبش بين المدوّنات والصفحات الاختصاصية ويوميات الأفراد الذين يكتبون شيئاً مختلفاً وجديداً من الشعر!.
جدل الخمسينيات المتعلق بمشروعية هذه القصيدة يعود كل فترة إلى الواجهة، وهذا يعني عملياً أن قصيدة التفعيلة قد دخلت الموت السريري، ولم يعد لديها ما يستحق الوقوف والتأمل بالنسبة إلى النقاد أنفسهم أصحاب الحكم السابق، تلك القصيدة التي شاخت وانتهى عمرها الإبداعي تبدو اليوم بانتظار إعلان الوفاة وتعليق النعوة بشكل نهائي، وهذا أمر واضح من مطبوعات الشعر في دور النشر التي تميل بمجملها إلى كتابة النثر سواء سمّيناها قصائد أو نصوصاً سردية.
ربما لو كان اللوغو المرفوع على واجهة فضاء الكتابة النثرية حمل عنواناً آخر غير القول إن هذه الكتابة هي قصائد مكتملة النمو، لهان الأمر على مجمل الطرابيش المحكومة بالاعتياد وإدمان الحليب من عند «أمٍّ أوفى»، لكن القضية تبدو أكبر من مجرد ميل إلى الموسيقا المستلهمة من «نوتة» أقدام النوق وحداء العيس، فهي ترتبط مباشرة بالماضوية العربية التي تقول إن السابقين قد اخترعوا كل شيء بما فيها الذائقة، وليس علينا مجرد التفكير بالاختراع خارج النمطية المرسومة لأن ذلك يعني خروجاً من العباءات الكثيرة التي يرتديها البشر اليوم من دون أن يشعروا أن خيمات كبيرة تكلل رؤوسهم وتمنع عن أدمغتهم الأوكسجين عندما يحاكمون المستقبل استناداً إلى ذائقة الموتى ومومياءات الصور المنبوشة من القبور!.
قد تشبه هذه الحالة، ما قالته رائدة قصيدة التفعيلة نازك الملائكة التي جزمت أن تفشل هذه القصيدة المستنبطة من صلب الشعر العمودي، لأنها في الحقيقة مجرد ابنة ضالة ستعود إلى بيت الطاعة، فهذه النبوءة التي لم يتحقق منها شيء، تشبه استشرافات كثيرة مازال يردّدها المهتمون حول تلاشي النثر وتشظيه في فنون أخرى لا تمت للشعر بصلة، لأن القواعد سبق أن اخترعها الأجداد ولا مجال لإكساء هذا البيت من جديد رغم معالم الرطوبة والاهتراءات الكبيرة في المكان.
المراهنة على كتابة «الفيس بوك» ليست ضرباً من الجنون، تلك الكتابة الزرقاء المثخنة بالطعنات والاتهامات المسبقة، ستتربع فوق عرش الكتابة في المستقبل سواء رغب الماضويون الاعتياديون أم رفضوا، وسواءً حاول البعض إنعاش تلك الصور الصفراء التي تحتضر في مشافي النقد عبر تعريضها للصدمات وتعليق سيرومات الطاقة فوق جسدها من أجل أن تنهض من «وعكتها» مع أن كل الفحوصات والتحاليل تؤكد أن هذه الكتابة تنازع الآن داخل المخيلات وقد قطعت شوطاً طويلاً على طريق سكرات الموت!.
عملياً، تعد الذائقة العربية متخلفة عن النص العالمي مسافة قرن كامل من التجريب وتشغيل العقل النقدي والحفر في آبار الإبداع، ففي كثير من الأماكن والصور والمفردات، يبدو النص العربي يقف عند حدود شعراء مهمين مثل آن ساكستون وسيلفيا بلاث وقبلهم والت ويتمان، وليس الدوران في فلك شعراء قضوا من قرن كامل من الزمن تقريباً، إلا دليلاً على المأزق الذي يحدث بالنص سواء قلنا إنه نثري أم مفعّل أم منصوب على أعمدة بيوت الشعر.. القصة هنا على ما يبدو نقدية تنويرية تتعلق بمجمل ما يحتويه صندوق الذهن من ذاكرة وفنون وخيالات وعلوم، وهي في مجملها تحتاج «نفضة» تشبه ما جرى في الغرب الذي لم يخرج من القبلية إلا بعد سيل من التجريب والشكّ ونشر كل أنواع الغسيل أمام ما نسميه شمس العقل!.
النص العربي مسكين للأسف، فهو إن نجا من المخاطر الكثيرة التي تحدق فيه من كل صوب، سيتأخر عملياً عما أنجزه النص العالمي في الثقافات الأخرى مسافات طويلة من الزمن حتى لو قلنا إن النبوءات في القصائد يمكن أن تسبق الموت والصراعات الطائفية والقبلية وتلك القهقرى الهائلة التي حولت الذهن إلى ذاكرة فقط!.
"تشربن"