عقلانية الاختلاف والانفتاح في الحب الصوفي
«أدين بدين الحب أنّى توجّهَت ركائِبُه، فالحبُّ ديني وإيماني»/ محي الدين بن عربي
كُتب الكثير، وما زلنا نكتب، وسنكتب إلى أبد الآبدين عن الحب بكل تجلياته؛ الحب الأفلاطوني، الحب الشاذ (الانحرافات)، الحب الأمومي، الحب الأخوي، الحب العذري، حب الأصدقاء، الحب الجنسي(الإيروس)، وبالتأكيد عن الحب الإلهي عند أهل التصوف ودرجاتهم فيه.
هل نكتب عن شيء ينقصنا؟ أم نحاول ذلك لكونه عصيّاً على الفهم رغم أنه بسيط كالماء؟. بل إننا نكرر في مجالسنا وحواراتنا، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ضرورة الحب والمحبة بين الناس، ورغم ذلك قليل من البشر استطاعوا أن يتغلبوا على أنفسهم، وأن يصلوا بها إلى مرتبة الحب الحقيقي!. لكن هل هناك شيء اسمه «الحب الحقيقي»؟ أليس كلٌّ منّا يعد أن ما لديه هو «الحب الحقيقي» بالنسبة له؟.
ولعلّ خلْقَ العوالم كلها مبنيٌّ على الحب، فلولا الاتحاد حبّاً بين ذرتي الهيدروجين وذرة الأوكسجين لما وُجِد الماءُ، البحرُ، المحيط، الدّمُ الذي يجري في عروقنا. ولولا الحب بين الأرض والسماء لما وُجدت الخلائق. وقد يكون العصب الرئيس للأديان التوحيدية وغير التوحيدية هو الحب، أو بدقة، كما صوَّرتْه تلك الأديان لنا: صراعٌ بين الخير/الحب، والشرّ/الكره.. بين الحياة والموت.. بين الخلود والفناء، أفلا يُقال: الخير محبّة، والمعرفة محبّة، والحقّ محبّة؟!.
لكن للمتصوفة في عوالم الحب والمحبّة رأيهم الخاص، وتفرّدهم في تصوّر الحقّ، والخلق، وهوية الذات الإلهية التي لا يمكن معرفتها باللغة أو بالإدراك العقلي، فبحسبهم «سُبحانَ مَنْ لم يجعل سبيلاً لمعرفته إلا العجزَ عن معرفته»، لأنهم يقرّون بعد كل مجاهداتهم وإشراقاتهم ومكاشفاتهم «القلبيّة» بأن «العجزَ عن الإدراك إدراكٌ»، وأنه كلما أمعنّا في التعقّل؛ عجزنا عن إدراك الحقّ، أي عن إدراك الأسرار الإلهية وغوامضها التي لا تُكشَفُ إلا بالوحي.
الشيء المؤكد هو أننا لا يمكن أن نفصل التصوف عن الإسلام، إذ إنه نشأ في رحم بيئة إسلامية، ويقوم أساساً على تأويلٍ خاص للنص القرآني، تأويل يقوم على تفسير وشرح للآيات القرآنية بطريقة الرموز ومفاهيم الإشراق والنور الإلهي الذي يفيض من «الخالق» على النفوس البشرية، التي تزداد صفاءً ومحبّة وشوقاً، وتزداد بذلك «إدراكاً وتجليّاً وكشفاً» في مقامات المعرفة والمحبّة. وإذ أصِلُ إلى مفهوم المعرفة، فلا بد أن أستعيد وأستعير، بتصرّفٍ شديد، ما قدمه لنا المفكر الألمعي علي حرب في كتابه «الحب والفناء» (دار المناهل/بيروت 1990)، فالمعرفة عند الصوفيين «لا تتمّ بالبحث والنظر، بل بالرياضة الروحية والمجاهدة. لا تقوم على ترتيب الأدلة، وإنتاج النتائج، بل هي ذوقٌ وكشفٌ، والمعرفة الذوقية أكثر وضوحاً وأشدّ يقيناً من المعرفة النظرية»، فالأخيرة «تُنتَجُ بالتصوّر والدليل، وبالتصوّر تُدرَكُ صورة الأشياء» فقط؛ بينما «المعرفة الذوقية هي إدراكٌ مباشرٌ للشيء وتحقّقٌ منه بالذات»، و«ما يُدرَكُ بالبرهان ليس سوى أسباب المحبة وشروطها أو لوازمها وآثارها، أما المحبة بالذات فلا تُبلَغُ بلفظٍ، ولا يكتنهها تصوّرٌ».
هذا الشرح الموجز والدقيق يوصلنا إلى ما كان يردّده الصوفيون على مدار تجاربهم ومواجدهم ودرجات سكْرهم بالعشق الإلهي فـ«النظرُ أعجزُ من أن يَعرِفَ الأحوال، فكيف بمعرفة المحبة التي هي أصل الأحوال وغايتُها»، والنُطقُ قاصرٌ عن استيعاب تجربة الحب، رغم أن المتصوفة الكبار تركوا لنا فكراً وأدباً وشعراً إشراقياً روحياً راقياً، ومشحوناً بالانفعالات والدلالات اللغوية المتحركة والمتجددة واللا متناهية، فـ «كلما اتّسعت الرؤيا، ضاقت العبارة» بحسب قول محمد بن عبد الجبّار النفّري، أي إن اللغةَ ضيّقةٌ وعاجزةٌ عن أن تحمل ثقلَ المعاني القادمة من الغيب. وفي الحديث عن التصوف لا بد من الإشارة إلى أن الصوفية متعددة بتعدد الأديانِ المختلفةِ في المظاهر لكن الواحدة في الحقيقة والجوهر، لأنها كلُّها تسلك طريقاً إلى غاية واحدة هي الله (سبحانه)!.
وهذا ما يقوله الشيخ محي الدين بن عربي (1165-1240): «عقَدَ الخلائقُ في الإله عقائد/وأنا اعتقدتُ جميعَ ما عقدوه»، فالمهم في التصوف هو وحدانية الخالق رغم تعدد الخلق، ووحدة الدين رغم تعدد الشرائع، كما أوجز ذلك الدكتور سهيل عروسي في كتابه «التصوف بين الفقه والإيديولوجيا/إصدارات الهيئة العامة السورية للكتاب 2016). واللافت في دراسة عروسي هو بعض التفسيرات التي يوردها والقائلة إن التصوف هو فكرٌ ومنهجُ معارضةٍ للظلم والاستبداد بوسائل فكرية وطقوسِ ممارسةٍ «من داخل الإسلام وليس من خارجه»، وأنه دعوة للتأكيد على الضمير الفردي وحريته في البحث عن خلاص، للإنسان عموماً وللصوفي خصوصاً، خارجَ البنية الأيديولوجية والسيكولوجية والثقافية والأخلاقية المهيمنة، عبر تجربته الجوّانية/الذاتية.
لذلك تحضرني تجربة رابعة العدوية كما تحدث عنها علي حرب، بعيداً عمّا انتُقِدتْ به من أوصافٍ أطلقها، عليها وعلى أهل التصوّف، أولئك المعادون لهم. ولعلّ قراءته من أهم وأجمل ما قيل في تفسير تجربتها وأبعادها النفسية والاجتماعية، إذ يرى أن تصوّفَ رابعة لم يكن مجرّد عزلة وانزواء؛ بل هو انخراطٌ في العالم بطريقة فاعلة على نحوٍ ساطع، متحوّلةً بذلك إلى مركز استقطاب، يحاورها العلماء، ويستمع إليها أهل الفكر في زمانها، ويستمتع بكلامها أهل الذوق والعرفان، ثم «إن تصوّفها لم يكن احتقاراً للبدن أو تطهّراً من أدران المادّة (…) بل لقد تحولت من مجرّد عاشقة، إلى باحثة عن حقيقة العشق، فانتهت عاشقةً للحقيقة». وهي بذلك، والكلام لحرب، «تنقّلت بين شكلين من أشكال ممارسة الذات، أي تحوّلتْ من لذة الجسد إلى لذة الفكر والنص، من مُتَعِ الإيروس إلى مُتَع اللوغوس».
وأحسبُ أنه من الضروري جداً إيرادُ ما استخلصَه الباحث حرب ببراعة مدهشة في دراسته الأنطولوجيّة (الوجودية) لأحوال رابعة العدوية العشقية، أولاً: «إن علاقة المرء بغيره هي وجهٌ لعلاقته بذاته… فمَنْ لجَمَ هواه تحرّر من الارتهان للغير، ومن يَسوْسُ نفسَه ينجح في سوْسِ غيره، وبالعكس من لمْ يكنْ سيّدَ نفسه صار عبداً لغيره»، ثانياً: «إن علاقة المرء بذاته ليست مجرّد علاقة بيولوجية جنسية، ولا هي مجرّد علاقة نفسانية إغوائية، وبالطبع ليست هي علاقة روحانية تطهّرية، إنما هي علاقة بالوجود والحقيقة (…) وعلاقة المرء بوجوده هي علاقة لها بعدها الإبداعي، أي علاقة صُنْع وإيجاد وابتكار، فالإنسان كائن لا ينفكُّ عن تخيّل الوجود (…) فالواحدُ يهوى الجسد والسلطة والمعرفة؛ لكنْ وحدَهُ البعدُ الإبداعيُّ هو مصدر الفرح الحقيقي لأنّ به يكون اجتراح الإمكانات، واجتياز الحدود أي استحقاق الوجود… فالإنسان كائنٌ يفيضُ عن كل اللغات والمقولات، وعن كل الأحكام والشرائع، وعن كل المؤسسات والاستراتيجيات، وينفتح على إمكانية وجودية للتفكير والفعل والتأثير».
عقلانية الاختلاف
وفي رأيي يبقى هناك سؤال مهم وجميل يضيء جانباً على درجة من الأهمية في الدراسات التي تناولت التجربة الصوفية بطرقها وتاريخها كلّه، خاصةً في الردّ على منتقدي وكارهي التصوف، هو السؤال الذي صاغه الدكتور ثامر الغزّي من جامعة القيروان في تونس، في مقال بعنوان «العبارة تحاصر الإشارة: عقلانية الاختلاف»، إذ إنه يتناول موضوعة «العقل» عند الصوفيين كما يلي: «هل التمثّل الصوفي فعلاً مضادٌ للعقلانية؟ وهل هو إلغاءٌ للعقل وتعطيلٌ له؟ أم هو نوعٌ من العقلنة غيرُ مألوف؟!»، ويجيب الغزّي بأن الصوفية كانوا أقرّوا بعجز العقل عن إدراك الحقّ، فكلّما أمعنّا في التعقّل (انكشفَ) لنا عجزُنا عن إدراك الحقّ، وحين يقول ابن عربي: «العقل أفقر خلق الله فاعتبروا.. فإنه خلف باب الفكر مطروحُ/إن العقول قيودٌ إنْ وثقتَ بها..خسرتَ فافهم فقولي فيه تلويحُ»، فهو لا يعني أبداً، كما يمكن أن يفهم قارئٌ عجول، بأن هذا إلغاءٌ لكل نظرٍ عقليّ(…) بل هو تأسيسٌ لعقلٍ آخر نوراني «يعلَمُ فيعملُ فيرِثُ عِلْمَ ما لمْ يُعْمل».
نعم، يُقرُّ الصوفيةُ بمحدودية العقل عن تحصيل «المعرفة بالخلق» إلا أنّهم يدعون لبناء «ذوقٍ خاص» لدى الصوفي، يجعل حياته «سَفَراً متجدداً»، وهذا ما يفسّر تمجيدهم لـ«الحيرة»، أو بحسب ابن عربي، ضرورة «أنْ يهتدي الإنسان إلى الحيرة، فيعلم أن الأمرَ حيرةٌ، والحيرة قلقٌ وحركةٌ، والحركة حياة»، لأن الاستزادة من التحيّر هي إدامةٌ للتجلّي، الذي يصون الصوفيَّ من الحجاب المستقرّ، فـ«المعرفة التي لا تتجدد هي أكثر الحُجُبِ تهديداً لمسارٍ يعوِّلُ على التجلّي المستمر»، إنها إذاً دعوةٌ لمعرفة تتجاوز الجمود والانغلاق في الدين إلى معرفةٍ تتجدّد «بتجدّد الأنفاس»، أو كما يشرح الفكرة المغربيُّ خالد بلقاسم في سياق حديثه عن «الصورة في خطاب ابن عربي بين التوالج والتجلّي»، إذ يقول: «الجمود يتعارض مع آلية التجلّي التي من شأنها الانفتاح على الاختلاف، تحصيناً للدين الإسلامي من الانغلاق والتقييد وإلغاء الغير».
هكذا يصبحُ الانفتاحُ على معرفة الذات في هوية المختلِف والمغاير؛ شطْباً للانغلاق، وتربيةً للنفس على الحبّ الذي يجعلنا نقبل جميعَ المعتقدات، وما أحوجنا إلى هذا الفهم في زمنٍ راهنٍ يضيق بنا كما تضيق أيديولوجيات دينية/سياسية وافدة من ممالك الرمال تحاصرنا براياتها ودمائها السوداء!.
الفلسفات تتقاطع إذاً، والأديان كذلك، كما هي جواهر الأشياء في الكون، واللغةُ أيضاً لها تقاطعاتُها لأنها رحِمُ الأفكار أو وعاؤُها، أو كما يقول هيدغر: «اللغةُ مسكن الوجود»، ولذلك فالمتصوفون أولوا اللغة برموزها وإشارتها أهميةَ قصوى، لأنها تُخرجُ المعاني إلى حيّز النور، أو هي بمنطوقهم تجْمعُ الموجودات في الواحد الأحد، حيث «يتساوى الشيءُ ونفسُهُ مساواةَ الألِفِ للألف، أو الواحد للواحد»، وإن كانت اللغة عند الفلاسفة هي وعاء الوجود، فهي عند العشّاق الصوفيين المدارُ الذي يتجاوزُ به الصوفيُّ ذاتَه ليتّحدَ بالكينونة، وهي ذروةُ ما ينطقون به من مواجدَ وتأملاتٍ وتراكماتٍ معرفية لا يعقلها العقلُ، إنما تعاشُ بمجاهدةٍ النفوس ليصلوا بها إلى التجلّي. ولذلك كانت الكلمات في مفهومهم تتعدى مدلولاتِها اللفظية، لتصبح رمزاً يدلّ ويشير إلى شيء آخر، قد يكون نقيضه أحياناً، كلفظة (الموت) التي تعني حياةً أخرى وليس الفناء!. ومن رموزهم أيضاً: النور، المرأة، الطير، الماء، المعراج، والخمر الإلهي، والتي مع الزمن بدأت تتحول، إضافة لذاك الإرث الضخم من الكتابات الصوفية، إلى مجرّد نصوص مختصرة ومجتزأة على شكل مقولات «شعرية» نثرية موضوعة خارج سياق التجارب الصوفية العظيمة التي أنتجتها، أو التي قال خلالها الصوفيون الكبار تلك الشذرات، ولأنها اختُزِلتْ من قبل المريدين أنفسهم، ثم من المعجبين، وبعدها حوِّرت من قبل المشككين المبغضين للصوفية، وصلتنا اليوم تلك الإشارات والأشعار الصوفية على شكل «بوستات» فيسبوكيّة مرفقة بصور لا علاقة لها بالقول أو الإشارة، بل البعض يضعها في صفحة «أقوال عالمية» مع حكم لفلاسفة آخرين لا علاقة لهم بالبعد الصوفيّ، ما يخلق تشويهاً للسياق التاريخي الذي قيلت فيه، وللرؤية المعرفية التي يمكن أن يستشفّها الإنسان من مجمل التراث الصوفي. وأعتقد أن «قواعد العشق» التي سُمّيت كذلك، سواء في الأدبيات الصوفية أو كما رسمتها الروائية «إليف شفق» في روايتها «قواعد العشق الأربعون» المبنيّة على أقوال جلال الدين الرومي وعلاقته مع شمس تبريز، لم توضع لتكون قيداً لا فكاك منه، أو خطّاً لا بد من المشي فيه لمن يريد آخرةً وثواباً وأجراً عظيماً، بل هي، كما تُصاغُ الروحُ الصوفيّة؛ سباحةٌ بين فيوضات الكون في أعلى مستوى من التحرّر الروحي، لحظةَ يُرتَقُ الجسدُ/الخرقة إلى جسدِ الأكوانِ، ويُخاطُ إليها بفعلٍ ربّانيّ هو الحب
تشرين