ابن خلدون.. العالِم المسلم الذي سبق آدم سميث (أبو الرأسمالية) بنحو 5 قرون
من هو أبو الاقتصاد الحقيقي؟ في إطار غربلة تاريخ الفكر الاقتصادي باعتباره السبيل لدحض أي سرد مزيف حول منشأ علم الاقتصاد، ومفاهيمٍ كالعرض والطلب والضرائب وتقسيم الاقتصاد، وبالتالي يتاح المجال لتطور الفكر الاقتصادي، ورأب الثغرات في النظريات الاقتصادية التي أدت بالأساس إلى أزمات، مثل أزمة 2008.
نشر موقع «أيفونوميكس» مقالًا كتبه «دانيال أولاه» يدور حول هذا الموضوع. «أيفونوميكس» هي مجلة إلكترونية تهدف إلى إحداث تحول نموذجي في الاقتصاد من خلال إدخال التفكير التطوري ونظم التفكير، ويعرفون أنفسهم بأنهم أحرارٌ، عملهم مدفوع بالحب، و يستغرقون مئات الساعات في عمل بهدف خلق وتعزيز المحتوى الذي يدفع باتجاه تطورٍ قادم في الاقتصاد.
يستشهد الكاتب بما قاله جوزيف شومبيتر، في أكثر الأعمال أصالة في مجال تاريخ الفكر الاقتصادي (تاريخ التحليل الاقتصادي 1952) إن هناك «ثغرة عظيمة» في تاريخ الاقتصاد؛ إذ يسوغ هذا المفهوم الجهل العام في مناهج الاقتصاد تجاه الفكر الاقتصادي بين العصور المسيحية والمدرسية الأولى، مؤكدًا على افتقار التفكير الاقتصادي (العلمي) الإيجابي المناسب في تلك الفترة.
ويرى أنه بسبب تلك الفجوة التي خلقت نفسها، أُهمِل ابن خلدون، أكثر العلماء والسياسيين الأندلسيين بروزًا في كتب الاقتصاد الرئيسية، كتب مثل «سكريبانتي وزامانجي 2005»، و«رونكاليا 2005»، و«روثبارد 2006»، و«بلوغ 1985». عادةً بدأت العديد من تلك الأعمال، وعلى نحو مضلل بتحديد جذور النظريات الحديثة بمناقشتها المذاهب التجارية أو التنوير الاسكتلندي.
حقيقةً، لم تكن أي من تلك بداية التفكير الاقتصادي مطلقًا.
تأسيس علم الاجتماع في القرن الـ14 ميلادي
يسلط ابن خلدون الضوء على أن علم الاجتماع هو علم مستقل أصلي جديد تمامًا لم يكن حيز الوجود من قبل.
ولعل أكبر استحقاق لابن خلدون يكمن في منهجية تفكيره الثورية. فهو رفض تمامًا طريقة أسلافه فصار بذلك أول عالم اجتماع -بأعمق معنى للكلمة – وذلك حسب وصف فونسيكا 1988. قبل ابن خلدون، كان دور المؤرخين المسلمين محصورًا في نقل المعرفة، دون أي تعديل أو تدخل أو إضافة ملاحظات للعادات والأعراف. فهم لم يشككون أو يضعوا مصداقية القصص والأخبار موضع شك، إلا أنهم عوضًا عن ذلك ركزوا على تحليل مصداقية الناقل نفسه بعناية فائقة.
نبذ ابن خلدون تلك الممارسات، مؤكدًا على أهمية الحاجة لطريقة علمية جديدة تسمح للمفكر بفصل المعلومات التاريخية الحقيقة من المزيفة. لكن كيف السبيل إلى تحقيق ذلك؟ يقول ابن خلدون في مقدمته إنه يجب علينا «التحري عن المنظومة الاجتماعية البشرية» وأن تكون لدينا «معايير سليمة» تساعد في تحليل المجتمع عوضًا عن قبول أخباره وقصصه الغريبة للمؤرخين على علاتها، «ومن ثم فإن تنقيته من الزيف، وتصويب أحداثه يشكلان المنطلق الأول لتصور العمران البشري».
علاقته الحقيقية بعلم الاقتصاد!
ابن خلدون
ربما يكون تفكير ابن خلدون مألوف على نحو مخجل بالنسبة للاقتصاديين المعاصرين؛ إذ يقول إن تقسيم العمل هو بمثابة الأساس لأي مجتمع متحضر، ويُعرِّف تقسيم العمل ليس على مستوى المصانع فحسب، بل في سياقة المجتمعي والعالمي أيضًا.
ومن خلال تسليطه الضوء على مثال الحصول على الحبوب في فصل العمران البشري، قائلًا: «فهو أيضًا يحتاج في تحصيله حبًا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد، والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنابل، ويحتاج كل واحد من هذه آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير، ويستحيل أن تفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد، فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له و لهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف»، فإن تقسيم العمل يخلق قيمة فائضة، يقول: «فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه، وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت و لا غذاء ولا تتم حياته».
بينما لم يُكتشف اختراع تحليل العرض والطلب حتى القرن الـ19، إلَّا أن ابن خلدون وصف العلاقة بين العرض والطلب، وأيضًا أخذ في الحسبان دور قوائم الجرد وتجارة البضائع.
إن مثاله في تقسيم عملية الإنتاج نَسِيَهُ تمامًا علماء الاقتصاد، مع أنه لا يقل وضوحًا عن مصنع مسامير سميث؛ إذ كتب ابن خلدون «مثل التخطيط في الأبواب والكراسي، ومثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها وتشكيلها، ثم تؤلف على نسب مقدرة وتلحم بالدساتر فتبدو لمرأى العين ملتحمة»، ولعل الأوضح من ذلك أنه بعكس سميث، لم يميز ابن خلدون بين العمل المنتج والعمل غير المنتج.
إنه من السهل إدراك أن ابن خلدون لم يقدم أفكارًا شديدة الشبه بأفكار آدم سميث فحسب، بل سبق الفيلسوف الغربي بمئات السنين، ومع ذلك أتى ابن خلدون بما هو أكثر من ذلك في الاقتصاد.
يقول الكاتب: إن ابن خلدون حلل الأسواق التي صعدت استنادًا إلى تقسيم العمل، وفحص قوى السوق بطريقة تعليمية بسيطة تشبه كثيرًا سلوك ألفريد مارشال، بينما لم يُكتشف اختراع تحليل العرض والطلب حتى القرن الـ19، إلا أن ابن خلدون وصف العلاقة بين العرض والطلب، وأيضًا أخذ في الحسبان دور قوائم الجرد وتجارة البضائع.
قسم ابن خلدون الاقتصاد إلى ثلاثة أجزاء: الإنتاج والتجارة والقطاع العام، نظرًا لأن أسعار السوق في نظريته تتضمن الأجور والأرباح والضرائب. وفي نفس الوقت حلل سوق السلع والعمل والأرض أيضًا، أفضى هذا النهج المتسق بابن خلدون لاختراع نظرية القيمة، ومن هذا المنطلق يكون العالم المسلم مفكرًا سابقًا على الماركسية، أو كلاسيكيًا. إن فكرته بأن القيمة المنتجة تكون صفرًا إذا كان مدخل العمل صفرًا تبدو كلاسيكية بشكل مدهش وسابقة لعصرها.
كيف خلق الاقتصاد الكلاسيكي الجديد قصة مغايرة مزيفة؟
في نموذج ابن خلدون الديناميكي للتنمية الاقتصادية، تلعب الحكمة دورًا حيويًا؛ إذ إن سياستها – خاصة المتعلقة بالضرائب – ذات أثر عظيم على تنمية الحضارة والعمران، كما أن تغير نمط حياة القبائل البدوية إلى الاستقرار، أدى إلى ولادة الحضارة العمرانية، فضلًا عن أن نمط الحياة المستقرة يهدم تضامن المجموعات الأصلية، ويخلق حاجه لعملاء ومستفيدين جدد، ويرى أن خلق هوية جماعية جديدة مكلفٌ، ويحتاج جيشًا جديدًا أيضًا.
لذلك مع تعميق الحضارة العمرانية، وبفضل تزايد الاحتياجات الفاخرة للدولة الحاكمة، يجب على الحاكم زيادة الضرائب. ففي النهاية، تصبح معدلات الضرائب عالية جدًا بحيث ينهار الاقتصاد. يقول ابن خلدون «إن الجباية في أول الدولة تكون قليلة الأسباب (أي المنابع)، ولكنها كثيرة الجملة (أي ينتج عنها الكثير من الدخل والإنتاج). والجباية في آخر الدولة تكون كثيرة الأسباب وقليلة الإنتاج». كما يصف ابن خلدون الحوافز الجزئية وراء الضرائب أيضًا. ومن ناحية أخرى، يرفض المشاركة الجمركية (الجباية) والحكومية في التجارة؛ لأن السلطة الاقتصادية السياسية للحكومة كبيرة وغير متناسبة.
آرثر لافر مع سبورة يظهر عليها منحنى لافر
تعد تلك الأفكار فريدة من نوعها في العصور الوسطى، لدرجة أن رونالد ريجان (الرئيس الـ40 للولايات المتحدة) نقل عن عمل ابن خلدون قائلًا بأن لديهما بعض الأصدقاء المشتركين مشيرًا تحديدًا إلى آرثر لافر (1940- )، والسبب في ذلك أن لافر نفسه اعتبر ابن خلدون رائدًا في الاقتصاد المعتمد على الطلب، ولاسيما منحنى لافر نفسه، وذلك على الرغم من أن أفكار ابن خلدون ليست ذات قواسم مشتركة كثيرة مع «منحنى لافر». ويرى الكاتب أن السبب يكمن في ضرورة تفسيرها في إطار بعد زمنى بدلًا عن اعتبارها قاعدة للسياسة العامة.
لذا فإن هذا السرد ليس كذبًا فحسب، بل يوضح كيف أن الاقتصاد الكلاسيكي الجديد يشكل تاريخًا اقتصاديًا ليبرر وجوده؛ إذ تعد تلك إفراطات في التبسيط غير تاريخية بهدف خلق قصة التطور المجيد والمباشر نحو الكلاسيكية الجديدة باعتبارها الحالة الأكثر تقدمًا للتفكير الاقتصادي. وفي خضم تلك العملية، تم تجاهل علماء الماضي، أثناء محاولة الاندماج في سياق التاريخ الكلاسيكي الجديد.
الأفكار الكينزية من القرن الـ14 شمال إفريقيا
وأخيرًا، استبقت أفكار الفلاسفة المسلمين أفكار نظريات الاقتصاد الكينزية – نسبة إلى جون ماينارد كينزي – أيضًا، تخبرنا كلمات ابن خلدون أن «الدولة أو السلطان هي سوق الأموال وأصل العمران، فإذا اكتنز السلطان الأموال وحجزها عن الدوران – أي دوران رأس المال، حل بالناس الكساد وتوقف العمل التجاري والاقتصادي وبالتالي قلَّت الضرائب وقلت إيرادات الدولة، فالمال يتردد في دورته بين السلطان والحاشية والرعية.. فإذا اكتنزه السلطان وقع الناس في الكساد ولحق الفقر بالدولة وإيراداتها». تعد تلك حجج قوية على الإنفاق الحكومي في سياق القرن الرابع عشر في شمال إفريقيا.
آدم سميث باعتباره مفكر خلدوني!
آدم سميث
ولا يُقصد هنا الأفكار الخلدونية فقط، وإنما المنهجية وراءها هي حقيقة أصلية؛ لأنها تعتمد على التجريد والتعميم. يقدم لنا ابن خلدون اقتصاد القرن الرابع عشر في شمال إفريقيا وقضايا عديدة ذات صلة، كما يتطرق إلى أسئلة ليس لدينا أي حلول لها حتى في القرن الـ21. يساعدنا ابن خلدون في رأب الفجوة في تاريخ الأفكار، موضحًا أهمية الثقافة الإسلامية في القرون الوسطى، فضلًا عن أنه يساعد في فهم العلاقة بين الاقتصاد الإسلامي وغيره من المدارس الفكرية باعتباره سلفًا نظريًا مشتركًا.
ويرى الكاتب أنه ليس مؤكدًا ما إذا استلهم آدم سميث أو غيره من الباحثين الكلاسيكيين أفكارهم من عمل ابن خلدون عندما طوروا نظرياتهم الخاصة أم لا، إلا أنه يجب أن يكشف الستار عن هذه المعلومة التي فقدت في الفجوة الكبرى وغيرها أيضًا؛ وذلك من أجل اكتشاف سرد جديد أقرب إلى الواقع.
ولكن لماذا نحن بحاجة إلى سردٍ جديدٍ وإعادة اكتشاف ماضينا؟ يقول الكاتب: إن الإجابة بسيطة؛ لتجنب مثل هذه المعتقدات السطحية بأن آدم سميث – أو حتى ابن خلدون – هو الأب الحقيقي لعلم الاقتصاد، أو أن تطور علم الاقتصاد بدأ في العصر الجديد ليتوج بالفكر الكلاسيكي الجديد، أو أن ابن خلدون اخترع بالفعل منحنى لافر، أو أن السوق المالي ينظم نفسه بشكل فعَّال، أو أن الحكومات الكبيرة أثرها سيئ دائمًا على الاقتصاد، وغيرها من المعتقدات. كما يتعين على رجال الإقتصاد أن يمارسوا التأمل الذاتي، فقد أثبتت الأزمة الاقتصادية عام 2008 أن الثغرات في التيار الرئيس يتحول بسهولة إلى أخطاء في السياسة العامة.
ومع اتباع نهج أكثر تعددية تجاه التاريخ الفكري، فإن مرض ألزهايمر الذي أصاب النظريات الاقتصاديات الرئيسة يمكن شفاؤه حقيقة، ويؤكد الكاتب أننا في القرن الـ21 في أمس الحاجة لمثل هذا الشفاء.
ساسه بوست