تجفيف الدّولار في المنطقة: سياسة أميركية لخنق الشعوب اقتصادياً
منذ 3 أعوام تقريباً، بدأت ملامح أزمة اقتصادية عميقة تلوح في أفق 3 دول عربية متجاورة جغرافياً، ويمكن القول إنها أيضاً متحالفة سياسياً. كانت البداية مع تظاهرات شعبية واسعة في لبنان، احتجاجاً على الفساد وسوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية، ثم لحقت بها سوريا سريعاً، التي شهدت أيضاً، على عكس ما كان متوقعاً بعد استعادة حكومتها السيطرة على مساحات واسعة من البلاد، تدهوراً اقتصادياً تدرّج نحو الأسوأ يوماً بعد يوم، وما يزال كذلك حتى الآن.
ولم يتأخر العراق كثيراً ليدخل أيضاً على خط الأزمة الاقتصادية التي تسبّب بها تناحر معظم الأحزاب السياسية وفسادها، ليصل الأمر إلى الشارع الذي خرج مطالباً بالإصلاح ومواجهة الفساد السياسي والاقتصادي.
لن نفصّل هنا في الظروف والأسباب الداخلية لكلِّ بلد، والتي كان لها دور مؤثر في كلِّ ما حصل، فهذه الظروف أُشبعت على مدار الأشهر الماضية تحليلاً وتفصيلاً، لكننا سنحاول في هذا المقال استعراض واحدة من أخطر السياسات الخارجية التي أثبتت الأيام أنها كانت حاضرة بقوة في تركيبة الأزمات الاقتصادية القطرية لدول المنطقة.
أكثر ما يربط أزمات الدول الثلاث المذكورة أنها ترافقت مع نقص شديد في كميات الدولار، وهو ما تسبّب بمزيد من الضغط على سعر صرف العملات المحلية للدول الثلاث والمستوى المعيشي لسكانها. هذا الإجراء ظهرت تأثيراته بوضوح شديد في كلٍّ من سوريا ولبنان، وبدرجة أقل في العراق، لكنَّ هذا النقص لم يكن بريئاً أو نتيجة لسياسات اقتصادية صرفة.
الوسائل والأدوات
سحب الدولار من المنطقة أو تقليل الكميات المتاحة منه هدف سعت إلى تحقيقه الولايات المتحدة الأميركية، بدلالة اعترافات رسمية صدرت عن مسؤولين أميركيين في عهد الإدارة السابقة والحالية، وذلك تحت عناوين عديدة، منها زيادة الضغط الاقتصادي على دمشق، بعدما تمكَّنت بمساعدة موسكو من استعادة مناطق واسعة من سيطرة الفصائل المسلحة، ومحاصرة عمليات حركات المقاومة في كلٍّ من لبنان والعراق ومصادر تمويلها، ومواجهة النفوذ الإيراني في العراق، وغير ذلك. وقد أسهمت الأوضاع السياسيّة في كلٍّ من لبنان والعراق وجمود السياسات الاقتصادية في سوريا في نجاح واشنطن في تحقيق هدفها المشار إليه آنفاً.
وقد اعتمدت واشنطن في تحقيق هدفها على محاولة تجفيف مصادر الدخل الأساسية من الدولار للدول الثلاث، وسحب ما هو متاح منه في أسواقها، وذلك عبر مجموعات من الإجراءات، منها:
- تقييد عملية تدفّق الحوالات الخارجية إلى الدول الثلاث، وتحديداً سوريا ولبنان، إذ تراجعت خلال السنوات الثلاث الماضية قيمة الحوالات الخارجية المرسلة إلى البلدين بشكل واضح، سواء بفعل العقوبات المالية والمصرفية المفروضة على المصارف السورية أو مراقبة الحوالات المرسلة إلى لبنان، بذريعة "مكافحة تمويل الإرهاب".
والمؤسف أنَّ الإجراءات النقدية الداخلية في كلا البلدين لم تكن على مستوى ذلك التهديد، وهو ما أدى إلى تفاقم أزمة تراجع سعر الصرف المحلي، فالتقديرات غير الرسمية تتحدث عن أن قيمة الحوالات الخارجية المرسلة إلى سوريا عبر القنوات النظامية تصل إلى نحو 2.5 مليار دولار، وهو رقم يمكن وصفه بالمتواضع مقارنة بعدد السوريين الكبير الذي بات موجوداً في الخارج كمهاجرين ولاجئين، تحديداً في أوروبا، أو كعاملين في دول الخليج العربي وغيرها من الدول العربية والأجنبية، مع الإشارة إلى أنَّ التقديرات غير الرسمية كانت تتحدث عن تحويلات خارجية بما يزيد على 4.5 مليارات دولار قبل الأزمة.
- فرض عقوبات معلنة وغير معلنة على الصادرات السورية الموردة للقطع الأجنبي، وعرقلة حركة الصادرات اللبنانية المتجهة عبر الأراضي السورية إلى الدول العربية، من خلال الضغط على الأردن لمنع تشغيل معبر نصيب الحدودي مع سوريا بكامل طاقته، فضلاً عن القرارات التي تصدر بشكل مفاجئ من بعض الدول العربية، وتمنع دخول هذه السلع أو تلك إلى أسواقها الداخلية بذرائع مختلفة.
ويمكن للمهتم بهذا المجال استعراض حركة عبور الشاحنات يومياً عبر معبر نصيب الحدودي منذ تحريره عام 2017، ومقارنتها بفترة ما قبل عام 2015؛ تاريخ سيطرة الفصائل المسلحة في الجنوب السوري على المعبر.
وتشير البيانات الرسمية إلى دخول أكثر من 1797 شاحنة إلى سوريا من المعبر خلال عام 2021، منها 850 شاحنة سورية، و650 شاحنة أردنية. أما عدد الشاحنات المغادرة لسوريا عبر المعبر، فقد وصل خلال العام الماضي إلى نحو 995 سيارة، منها 659 سيارة سورية، و394 سيارة سعودية.
وللإشارة هنا، فإنَّ العمل في معبر نصيب يتوقّف عند الساعة السادسة مساءً تماماً. ورغم مطالبة دمشق بفتح المعبر أمام تنقّل الأفراد ونقل البضائع على مدار اليوم أو تمديد العمل به إلى ما بعد الساعة السادسة، فإنَّ الجانب الأردني اعتذر عن تحقيق ذلك في الوقت الراهن، مع الإشارة إلى أنَّ موعد إغلاق المعبر سابقاً كان عند الساعة الرابعة. وبعد عام 2019، جرى تمديده إلى الساعة السادسة بناءً على طلب الجانب السوري.
- دعم منظومة الفساد الحكومية القائمة في لبنان والعراق والمجموعات الانفصالية في سوريا تدعيماً لحال عدم الاستقرار السياسي التي تمر بها هذه الدول، الأمر الذي من شأنه إضعاف الثقة بالاقتصاد الوطني في هذه الدول، ودفع المستثمرين ورجال الأعمال فيها إلى إخراج أموالهم وأرباحهم من البلاد واستثمارها في مصارف خارجية، غالباً ما تكون غربية، باعتبارها قد تكون في نظرهم أكثر أمناً وبعيدةً عن أي ملاحقة.
وتأكيداً لذلك، تكشف البيانات الصادرة عن المؤسَّسة العربية لضمان الاستثمارات أنَّ لبنان حلّ في المرتبة الثانية في قائمة الدول العربية المستثمرة في المشروعات البينية بنحو 18 مشروعاً، متقدماً بذلك على الكويت ومصر وقطر والسعودية وغيرها، في حين أنَّ العراق الذي يعوم على فرص استثمارية هائلة لم ينجح إلا في استقطاب 4 مشروعات استثمارية عربية، ليحتلّ بذلك المرتبة الثامنة. كما أنَّ المؤشرات الأولية تؤكد خروج العديد من الصناعيين السوريين وفتح استثمارات جديدة في دول عربية ومجاورة.
-السيطرة على حقول النفط والغاز والقمح في سوريا، ومنع دمشق من استثمار ثروات البلاد الرئيسية، وهذا إجراء له فائدتان اقتصاديتان في نظر الأميركيين: الأولى حرمان الحكومة السورية من تحقيق أيّ عائدات أجنبية قد تجنيها من تصدير النفط والقمح، والأخرى دفعها إلى تخصيص ما تجمعه من عائدات بالدولار لاستيراد احتياجات البلاد من المشتقات النفطية والقمح.
وللعلم هنا، فإنَّ سوريا ما قبل الأزمة كانت تنتج ما يقارب 385 ألف برميل يومياً، تكرر منها نحو 220 ألف برميل في مصفاتي حمص وبانياس، وتصدّر الباقي خاماً. واليوم، هي بحاجة شهرياً إلى ما يقارب 250 مليون دولار لتأمين الحد الأدنى من احتياجات البلاد من المشتقات النفطية والقمح.
- من الطّبيعي في ظلِّ حال عدم الاستقرار السياسي والمخاوف من تفجّر الأوضاع الأمنية تراجع حركة السياحة، وتالياً فقدان مورد أساسي من موارد القطع الأجنبي بالنسبة إلى سوريا ولبنان. مثلاً، أرخت حادثة تفجير مرفأ بيروت بظلالها السلبية على الاقتصاد اللبناني، ولا سيما القطاع السياحي، الذي كان يحاول تلمّس طريقه للانتعاش في أعقاب كورونا وتداعيات الأزمة السورية.
ومع أنَّ المؤشرات الرسمية اللبنانية تشير إلى حدوث تحسّن في الموسم السياحي لصيف العام 2022، إذ قدرت إيرادات الموسم بنحو 4.5 مليارات دولار، إلا أنَّ تعمق الأزمة الاقتصادية في البلاد وحال الانهيار التي يعيشها الجهاز المصرفي جعل هذا التحسن غير مؤثر، كما كان سابقاً.
إلى أين؟
تذهب معظم المؤشرات إلى تأكيد أنَّ حال تجفيف الدولار في المنطقة ستبقى على حالها لسببين:
- حال العجز والتخبّط التي تعيشها السياسات الاقتصادية في الدول الثلاث، نتيجة عوامل وأسباب متباينة بين دولة وأخرى.
- ثبات السياسية الأميركية والغربية في التعامل مع أزمات الدول الثلاث ومقاربتها قضايا المنطقة وملفاتها الأساسية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والتحالف الإستراتيجي مع الكيان الصهيوني، بل إن الحرب الأوكرانية وتطوراتها قد تدفع الأميركي إلى التشدد أكثر في تطبيق هذه السياسة، في محاولةٍ لخنق اقتصاديات المنطقة، التي إما اصطفّت دولها مع موسكو كسوريا وإيران، وإما رفضت تلبية مطالب الرئيس جو بايدن فيما يتعلق بأسعار النفط وزيادة المعروض العالمي منه، كالسعودية مثلاً، وهذا يعزّز فرضية إمكانية شمول سياسة تجفيف الدولار دولاً أخرى، وإن بشكل مختلف جذرياً، لجهة الآليات والوسائل.
في مواجهة هذه السياسة الخطرة بآثارها وتداعياتها السياسية والاقتصادية، ليس هناك خيار أمام الدول المستهدفة سوى تكييف سياساتها وإجراءاتها النقدية والمصرفية لتكون قادرة على التحايل على مفردات هذه السياسة وأدواتها، كتشجيع العاملين والمغتربين في الخارج على تحويل حوالاتهم بالعملة الصعبة عبر القنوات المصرفية النظامية، فضلاً عن التوجّه إلى تفعيل سياسات تجارية تقوم على التبادل السلعي أو اعتماد العملات المحلية في المبادلات التجارية الثنائية، ومساعدة الماكينة الإنتاجية على العمل بأقصى طاقتها.
أما الحديث عن إلغاء التعامل بالدولار في التعاملات التجارية، فهو لا يزال بمنزلة شعار غير قابل للتطبيق، وإن كانت هناك دول عدة أبدت رغبتها في ذلك أو اعتمدت بالفعل عملات أخرى في تصدير سلعها وموادها، فالدولار لا يزال عملة دولية يصعب على الدول الصغيرة والنامية اقتصادياً ان تتجاوزه.
زياد غصن