قبلة شاذة في حديقة عامة تثير موجة من النقاشات
صاحبة الجلالة _ زينة شهلا
تختلف مواقف السوريين من ممارسة المثلية الجنسية سواء في الخفاء أو العلن، حيث تتراوح بين الإدانة والاستنكار أو التسامح وصولاً للإعجاب والتأييد. وبشكل عام، لا تعتبر ممارسة المثلية الجنسية في المدن السورية أمراً عادياً، فهي إن نجت من العقوبات القانونية أو الفتاوى الدينية، فلن تسلم من أحكام اجتماعية شتى، ولعل الصورة التي انتشرت منذ أيام على مواقع التواصل الاجتماعي وأثارت عاصفة من النقاشات والتعليقات أبلغ دليل على ذلك.
فتاتان ترتديان ثياباً عادية (بنطال جينز وكنزة)، تقفان مواجهة وتنظران في عيني بعضهما البعض وتتبادلان قبلة على الشفاه بشكل سطحي، وذلك في حديقة السبكي وسط دمشق. صورة كانت كافية لانطلاق سلسلة من النقاشات بين مؤيدي المثلية الجنسية ومعارضيها، وبين من ينظر إليها على أنها مرض يستوجب التقويم والعلاج، وآخرون يخشون انتشار التصريح بممارستها بشكل علني في بلد يعاني آثار حرب طاحنة تدور رحاها في أرجائه، وتغيب فيه منذ عشرات السنين علانية ممارسة المثلية الجنسية والاعتراف المجتمعي بها أو على الأقل يتم التعامل معها بغض الطرف لعدة أسباب.
تعرف المثلية الجنسية "Homosexuality" بأنها الانجذاب العاطفي والحسي والجنسي بين أشخاص من نفس الجنس، وذلك وفق جمعية علم النفس الأمريكية. وفي اللغة العربية، تُطلق أسماء مختلفة على هذا الفعل الجنسي الممارس بين الذكور والإناث، من قبيل "اللواطة" و"السحاق" و"الشذوذ الجنسي"، في حين يفضل المثليون أن يطلقوا على أنفسهم مصطلحاً أعم هو "مجتمع الميم" والذي يضم إلى جانب المثليين والمثليات مزدوجي الميل الجنسي "Bisexuals" ومصححي الميل الجنسي "Transsexuals". ولئن كان ينظر للمثلية الجنسية في معظم أنحاء العالم على أنها أمر خارج عن الطبيعة واضطراب نفسي، فقد تغير ذلك مع بدايات القرن العشرين، حيث خرجت من تصنيفها كمرض نفسي في الكثير من دول العالم الغربي، وأصبحت توصف على أنها "توجه جنسي" مرتبط بالخريطة الدماغية للإنسان.
وتختلف المواقف من هذه الهوية الجنسية باختلاف المجتمعات، ففي البلدان الأوروبية والأمريكية ازدادت خلال الأعوام الأخيرة نسب تقبل ممارسة المثلية الجنسية، والتي وصلت حد تشريع زواج المثليين والاعتراف القانوني به، كما في كندا وجنوب أفريقيا والعديد من الدول الأوروبية والأمريكية وسط جدالات غير منتهية حول آثار هذا الزواج على المجتمعات أخلاقياً ونفسياً. أما في مجتمعاتنا العربية، فتحظى ممارسة المثلية بأشد درجات الاستنكار على مختلف المستويات، وإن كان الحديث عنها بصوت أعلى قليلاً بات شائعاً منذ أكثر من عشرة أعوام في بعض البلدان وعلى رأسها لبنان.
فالدين المسيحي يعتبر بأغلب طوائفه أن الممارسة المثلية الجنسية لا أخلاقية وخاطئة باعتبارها تتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس، مع وجود وجهات نظر أقلية ليبرالية داخل الدين المسيحي تدعم التوجه المثلي ولا تعارضه.. أما في الإسلام، فتختلف القراءات الفقهية للنصوص القرآنية، حيث يؤكد أغلبها تحريم المثلية الجنسية ويعتبرها خطيئة وجريمة من أعظم المعاصي ويجب أن تنال العقاب، وذلك بحسب آيات قرآنية تتحدث عن "قوم لوط" الذين يدمرهم غضب الله لممارستهم أفعالاً جسدية شهوانية بين الرجال، وهو ما يخالف الفطرة وقوانين الطبيعة والكون، والقليل منها يرى بأن فعل قوم لوط اتسم بالعنف والإكراه الذي يصل حد الاغتصاب، ما يعني عدم ورود حديث صريح عن العلاقة بالتراضي بين شخصين من نفس الجنس، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال وجود تيارات إسلامية مناصرة لهذه الممارسة.
ورغم أن شرعة حقوق الإنسان تحرم التمييز بين الأشخاص على أساس الجنس أو الميل الجنسي، حيث تنص المادة 2 منها على أنه "لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر"، إلا أن القوانين في عدد من البلاد العربية تعاقب على ممارسة الجنسية المثلية، وتتراوح هذه العقوبات بين السجن لسنوات (تونس والمغرب وليبيا ومصر وفلسطين المحتلة واليمن والكويت وقطر وسلطنة عمان) إلى السجن مع غرامات مالية (والجزائر وموريتانيا) إلى السجن والجلد (السودان) إلى السجن وربما القتل بشكل غير قانوني (العراق) أو بشكل قانوني (السعودية). وفي سوريا، تنص المادة 520 من قانون العقوبات السوري على أنه "تحظر إقامة علاقات مجامعة على خلاف الطبيعة، ويعاقب عليها بالسجن بمدة تصل إلى 3 سنوات". وتعتبر البحرين الاستثناء العربي الوحيد، حيث شرعت ممارسة المثلية الجنسية منذ العام 1976، شرط ألا يقل عمر المثلي عن 21 عاماً. كما تشهد بلدان مثل لبنان والمغرب وتونس نشاطاً لجمعيات معنية بالدفاع عن حقوق المثليين والمطالبة بإلغاء القوانين المجرمة لممارسة المثلية الجنسية.
وبالعودة لصورة الفتاتين اللتين تبادلتا القبل بشكل علني وسط دمشق، فقد استدعت الكثير من التحليلات، بدءاً من مصدرها وطريقة انتشارها على وسائل التواصل، وانتهاء بأهدافها وأسبابها وتداعياتها ومدى تمثيلها لظاهرة باتت منتشرة في المجتمع السوري.
لدى سؤال بعض من نشروا هذه الصورة على صفحاتهم على موقع فيسبوك، أجابوا بأنهم لا يعلمون مصدرها الأساسي، وأن الحديث السائد هو حول تسريبها من إحدى المجموعات السرية الخاصة بالفتيات في دمشق، أو نشرها بشكل متعمد من قبل إحدى الفتاتين الظاهرتين في الصورة. أما حول مدى صحة الصورة، فقد أشار البعض إلى أن زاوية الالتقاط يمكن أن تكون خادعة، في حين أكد آخرون بأنها صحيحة دون أدنى شك.
وفي حديث لصاحبة الجلالة، تفرّق المرشدة النفسية والاجتماعية ناديا راضي بين سببين للمثلية الجنسية، الأول بيولوجي والثاني نفسي. ورغم أنها لا ترى بأن المثلية انتشرت بشكل كبير في سوريا في السنوات الأخيرة، إلا أنها تتحدث عن ظواهر أخرى للحرب التي تعيشها البلاد، مثل ممارسة الدعارة وتعاطي المخدرات وارتكاب الجرائم، والتي تتجلى آثارها المدمرة في انهيار القيم والأخلاق الإنسانية والخوف من المستقبل الغارق بالقتل والدمار وإهمال العائلة والبطالة والفقر. كما تعزو المرشدة انتشار المثلية كعارض نفسي في المجتمعات إلى انعدام أو قلة الاختلاط بالجنس الآخر، وانتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع.
وتستبعد المتحدثة أن تكون الصورة المذكورة حقيقية أو مقصودة، فممارسو الجنسية المثلية من المراهقين حسب رأيها يميلون للتخفي والتكتم الشديد والنزوع العدواني لتغطية ما يعتريهم من مشاعر يعتبرونها خاطئة في مجتمع محافظ كالمجتمع السوري.
كما تنوه إلى أهمية التربية المنزلية والتعامل بالشكل الملائم مع شريحة المراهقين، فهم يميلون للتعبير عن ذواتهم بشكل عنيف خاصة في فترات الحروب، وأي انحراف في سلوكهم هو رد فعل عن الألم النفسي الذي يعيشونه والخوف الذي لم يعرفوا غيره منذ سنوات وغياب المثل الأعلى، مما يجعلهم يميلون للهروب المؤقت نحو حالة من عدم التوازن الفكري والفهم الخاطئ للحرية.
بدوره، يرى المحامي والحقوقي والباحث أيمن منعم بأن تركيز رواد مواقع التواصل الاجتماعي انصب على ممارسة المثلية الجنسية في الصورة، دون الاهتمام بخصوصية الفتاتين واحترام حيزهما الخاص. ويضيف المنعم في حديثه لصاحبة الجلالة: "بعيداً عن ميول الفتاتين، من المستهجن ممارسة أي فعل جنسي ضمن فضاء عام، كما لا يجوز تصوير فعل كهذا وامتهانه على مواقع التواصل فهو أمر مرفوض بشكل كلي حتى لو كانت الصورة لشاب وفتاة، وعلى اعتبار أن الفعل الظاهر في الصورة التي نتحدث عنها مستنكر فتصويره جريمة أكبر".
ويضيف منعم في حديثه: "يبدو أنه من المبكر جداً الحديث عن حقوق الأقليات الجنسية في العالم العربي عموماً، في ظل قوانين تنتهك حقوق المرأة وأدنى أشكال المساواة بينها وبين الرجل بمخالفة واضحة للنص الدستوري". كما يطالب المتحدث بعدم اتخاذ الهوية الجنسية كمبرر لتطبيق العنف المجتمعي على المختلف، "فإذا كان التبرير الاجتماعي الأعم للهوية المثلية على أنها مرض يجب علاجه، فهل يجوز إقصاء أو معاقبة أو تعنيف المريض ولو لفظياً؟".
وهنا يؤكد المحامي مسؤولية الاعلام في الابتعاد عن الإثارة والتنميط، عند الاقتراب من قضية بهذا القدر من الحساسية، إضافة إلى وجوب تعرية الفكرة من كمية المعلومات الخاطئة والجهل الذي يحيط بالموضوع. كما ينوّه للدور المحوري الذي يتوجب على للمؤسسات الإعلامية والتربوية لعبه في نشر ثقافة جنسية علمية وحيادية والتي يهدد غيابها جيل المراهقين، حيث تتحول مصادرهم الموثوقة إلى المواقع الإباحية والصحف الصفراء.
وبسؤال أحد القانونيين والمطلعين على هذه القضايا في القصر العدلي بدمشق، أفاد المحامي جلال –والذي فضل الحديث باسمه الأول فقط- إلى أنه لا يمكن الحديث عن ازدياد عدد قضايا المثلية الجنسية خلال السنوات الأخيرة في محاكم بداية الجزاء بدمشق والبالغ عددها اثنتي عشرة محكمة، وذلك لغياب الإحصائيات الدقيقة.
وأضاف المتحدث: "قد يلاحظ ازدياد أعداد الرجال المتهمين بممارسة المثلية الجنسية، أما النساء فغالباً ما يتم التكتم على اتهامهن بذلك مراعاة لخصوصية مجتمعنا الشرقي".
وأشار المحامي في حديثه لصاحبة الجلالة إلى تطبيق المادة 520 على كل من يثبت ممارسته المثلية الجنسية، حيث تتراوح مدة العقوبة بحسب الحالة، وتصل إلى ثلاث سنوات كحد أقصى. ويشرح بأن هذه القضايا تستغرق وقتاً طويلاً، وذلك بحسب الأدلة المتوافرة، والتي تختلف بين القبض على الفاعلين متلبسين، أو اعترافهم بممارسة المثلية، أو وجود شاهدين على ذلك، أو احتمال وجود قاصر في الدعوى مما يحولها إلى جناية، كما قد يتطلب الأمر إجراء فحص طبي للمتهمين وملابسهم لإثبات الواقعة.
ويرى أحد سكان دمشق ويدعى أمجد بأن فعل المثلية الجنسية هو حرية شخصية لا يجب الاعتداء عليها، وإن كان يعترف بصعوبة ممارسة هذا الفعل بشكل علني في بلداننا العربية.
أما محمد، وهو طالب في كلية الأدب العربي، فيستنكر الضجة التي أثارتها هذه الصورة، "قد يكون موضوعاً ذا أهمية للبعض لكني أستغرب أن يتحول لقضية شأن عام في أقل من ساعات على تسريب الصورة أو نشرها بشكل متعمد"، ويعتقد بأن مآسي أخرى مثل قضية النازحين الذين يفترشون الحدائق والطرقات أو الأطفال المشردين في شوارع المدينة هي ما يستحق أن يثير التعاطف أو الجدل في دمشق اليوم.
وبين تأييد واستنكار لهذه الصورة وغيرها، يحتاج مجتمعنا السوري اليوم إلى قدر أقل من العنف في التعاطي مع أي ظاهرة، في وقت يبدو بأن العنف بمختلف أشكاله بات وسيلة الأغلبية للتعبير عن آرائهم، سواء في الحياة الواقعية، أو تلك الافتراضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.