رئيس تحرير جريدة الوطن يكتب عن البطاقة الذكية والفساد
في كل محاولة من الحكومة للسيطرة على الهدر وإيصال الدعم لمستحقيه (كما تقول وتروج) مستخدمة ومبتكرة أساليب مثال البطاقة الذكية لمراقبة عمليات التوزيع والكميات المخصصة، تفتح الباب واسعاً أمام “شرعنة” فساد من نوع آخر يتمثل في تراجع الجودة والغش، من دون أن تمتلك الحكومة أي أدوات لمكافحة هذا الفساد المستجد، وهو يكاد يكون فساداً مشروعاً في ظل تراجع القدرة الشرائية والتضخم غير المسبوق الذي تشهده سورية.
وإذا أخذنا بآخر الدراسات والإحصائيات التي تؤكد أن إنفاق الأسرة الواحدة المكونة من ٤ أفراد، وفي حدوده الدنيا، يجب ان يتراوح بين ١٥٠ ألفاً إلى ١٨٠ ألف ليرة شهرياً، نكتشف أن كل ما يحصل من فساد في سورية بات “مبرراً” إذا صح التعبير، قياساً إلى سلم الرواتب والأجور المعتمد حالياً في سورية.
على سبيل المثال: عامل الأفران، وإذا اعتبرنا أنه يحصل على راتب جيد ويتقاضى ٦٠ ألف ليرة سورية، ونضيف عليها مكافأة وزارة التجارة الداخلية (٥ آلاف أسبوعياً) يصبح دخله الإجمالي ٨٠ ألف ليرة سورية، وبالتالي، سيترتب عليه مرغماً، توفير الفارق من جودة الخبز، أو غشه، والمتاجرة فيه ليتمكن من العيش في الحدود الدنيا فقط، وهذا ما بدا واضحاً خلال الأيام الأخيرة، وبعد تجربة البطاقة الذكية في دمشق وريف دمشق وتراجع نوعية الخبز المنتج، ولن يكون بمقدور الحكومة اتخاذ أي إجراء لأنها لن تجد عمالاً سيقبلون العمل بأجور متدنية من دون أن يلجؤوا إلى الطرق الملتوية لتوفير أقل متطلبات معيشتهم.
الأمر ذاته عاشته سورية في موضوع البنزين والمازوت والغاز، فنسب الربح التي تسمح فيها وزارة النفط والثروة المعدنية في عمليات البيع لا تتعدى الليرات الرمزية، وفِي البنزين على سبيل المثال الربح لا يزال يقاس بالقروش عن كل ليتر بنزين في محطات الوقود، والمطلوب الالتزام بالأسعار تحت التهديد بعقوبات صارمة، على حين أن عمال توزيع المشتقات النفطية، وأصحاب محطات الوقود يحتاجون بدورهم إلى دخل في الحدود الدنيا لتوفير حاجاتهم اليومية، وأرباح منطقية، تأخذ في عين الاعتبار المصاريف والتكاليف التي ترتفع يومياً، ولتحقيق ذلك يلجؤون إلى الأساليب ذاتها في الغش والتلاعب بالدور، بحثاً عن ربح “شرعي” لا توفره الحكومة.
لننظر إلى تجربة صناعة الأدوية التي لم تخضع للبطاقة الذكية، بل فرض عليها لائحة تسعير، وطلب بعدم زيادة سعر الدواء تحت طائلة إغلاق المصنع. ما الذي حصل؟ فقدنا بداية عدداً كبيراً من الأصناف التي كانت تصنع محلياً لتكلفتها العالية وللخسائر الكبيرة التي تعرضت لها المصانع نتيجة منعها من رفع الأسعار.
في الأصناف التي بقيت مستمرة في الإنتاج والتي يبدو أن تكلفتها لا تزال مقبولة ويمكن تحقيق ربح ولو بسيطاً من خلال الاستمرار في الإنتاج والتوزيع، هذه الأصناف لا نعرف إن كانت حافظت على الجودة ذاتها التي كانت عليها قبل الحرب، إضافة إلى أن العديد من المصانع أعادت هيكلة شبكة موظفيها وتخلت عن عدد كبير منهم لتعيد توزيع كتلة الرواتب على عدد أقل وتوفر الحدود الدنيا من الدخل لعمالها، وتبقى ملتزمة بتعليمات وزارة الصحة بعدم زيادة السعر، علما أن الوزارة أدركت بعد حين أن هناك أصنافاً لا يمكن إلا أن يتم رفع سعرها وإلا فستفقد نهائياً من الأسواق، وستضطر الحكومة إلى استيرادها وبالعملة الصعبة، ما يعني زيادة كبيرة في التكاليف وفِي السعر ذاته، وأمام هذا الواقع لجأت الصحة إلى إلزام المصانع بإنتاج كل أصناف الأدوية حتى لو كانت خاسرة، وإلا فسيسحب منها الترخيص، فما كان من المعامل إلا الإنتاج والخسارة في صنف والربح في صنف آخر مع تقليص النفقات والمصاريف، ربما على حساب الجودة، من أجل الاستمرار في العمل.
لنعود إلى مادة الخبز، وإذا حصل أي شخص على ميزة “معتمد” وحسب تصريحات الوزارة فإن المعتمد يحصل ما بين ٢٠٠ إلى ٥٠٠ ربطة خبز وسمح له بربح ١٠ ليرات لكل ربطة لتغطية نفقات النقل. هذا يعني أنه في حال كانت مخصصاته ٥٠٠ ربطة فدخله اليومي سيكون ٥٠٠٠ ليرة سورية، سيطرح منها نفقات النقل وسنعتبر أنها لن تتجاوز ال ١٠٠٠ ليرة وأن لا عمال لديه فيصبح دخله ٤٠٠٠ ليرة يومياً أي ١٢٠ ألف ليرة شهرياً، فهل هذا الرقم يكفي لتلبية احتياجاته واحتياجات أسرته؟ بالتأكيد لا، لذلك فإن معتمدي الخبز هم من أصحاب المحال التي لديها دخل في الأساس واعتبرت أن دخل الخبز هو دخل إضافي وليس أساسياً.
نحن لا نشكك في نيات الحكومة التي تحاول جاهدة من أجل تقليص الهدر وإيصال الدعم لمستحقيه، لكن على الحكومة إذا أرادت أن تحافظ على الجودة وعدالة التوزيع ومنع الغش، أن تعيد النظر في هامش الأرباح المسموح وسلم الرواتب والأجور بحيث تضمن ألا يلجأ أي من المرتبطين بسلسلة إيصال الدعم من المنتج إلى المستهلك بأي عملية غش، ما يعني أن يكون دخل العامل الواحد يوازي ما بين ١٥٠ الفاً و١٨٠ ألف ليرة سورية، مع الإشارة إلى أن راتب الوزير في سورية قرابة ١٢٠ ألف ليرة سورية.
إذاً المشكلة ليست في النيات والتصريحات والتهديد والوعيد، المشكلة في الدخل المحدود الذي يجبر العامل والتاجر على الغش والتلاعب ليطعم عائلته، ومن هنا يجب أن تنطلق الأبحاث وتستثمر الأموال وتعدل القوانين حتى نصل إلى المعادلة التي تمنع أي تلاعب وتحافظ على السعر المدعوم.. فهل من أفكار؟