هل يعيش 80% من السوريين «العبودية العصرية»؟
يفتح أحمد ابن 13 عاماً، عينيه صباحاً بعد ليلة باردة قضاها على أحد أرصفة جرمانا كما يفعل كل يوم… ليبدأ نهاراً مخيفاً يحاول خلاله كسب طعامه بأي وسيلة، ينقل أمتعة… يمسح سيارات… يساعد في تنظيف محل ما… في المحصلة: بضع ليرات لا تسد الرمق وكثير من الإهانات والاستغلال والتحرش! سلمى ليست أفضل حالا، تزوجت بعمر أحمد تقريباً وأنجبت أول طفل لها وهي بنت 15 عاماً، تحملت آلام الحمل والولادة وتربية الطفل وهي لاتزال في مرحلة النمو، كل يوم يمر على سلمى كابوس فرضته ظروف قاسية، فالزواج الذي أجبرها عليه أهلها بحجة «السترة» كان نقمة لن تفارقها أبداً… أما باسل وهو أب لأربعة أطفال يعمل منذ مطلع الشمس حتى آخر الليل ليحاول تأمين إيجار بيته وقوت أولاده بأحسن الأحوال، متعرضاً للاستغلال الجسدي والمعنوي كل يوم… لا تزال العبودية من المشكلات التي تتعرض لها الإنسانية، لكنها باتت تحمل اسماً جديداً «العبودية العصرية»، وتتجلى في استغلال الطاقات الجسدية سواء في العمل أو بالزواج القسري. سورية كان لها نصيبها، ولو بنسبة قليلة، وبحسب تقرير مشترك لعدة منظمات دولية منها منظمة العمل الدولية، ومنظمة الهجرة الدولية، حول مؤشرات الرقّ لعام 2018، التي تؤكد أنه يوجد أكثر من 40 مليون «عبد» بالمفهوم العصري حول العالم. وتبلغ أعداد العبيد في الدول العربية بالمفهوم العصري حوالي 529 ألف فرد، بمعدل 1% من إجمالي عدد العبيد حول العالم، وينتشرون غالباً في عُمان، وسورية، العراق، اليمن، والإمارات، حيث يخضع 67% منهم للعمل بالإكراه، ونحو 33% للزواج القسري. وتحتضن الدول التي تعاني من حروب، مثل سورية، والعراق، واليمن، حوالي 76% من إجمالي أعداد العبيد في الدول العربية. نسب حقيقية… على الرغم من أن نسبة سورية من العبيد العصريين قليلة مقارنة بالكثير من الدول، إلا أن المقاييس المعتمدة لتصنيف هؤلاء العبيد تجعلنا نشكك في النسبة ونعتبرها قليلة، فالعبودية العصرية هي عدم قدرة الأفراد على مواجهة العوامل التي تؤدي لتعرضهم للاستغلال مثل التهديدات، والعنف، والإكراه، والخداع، واستغلال الطاقات الجسدية، سواء بالعمل القسري أو بالزواج القسري. فما هي النسبة الحقيقية «للعبيد» في سورية وفق هذه المقاييس؟ يقول الخبير الاقتصادي الدكتور سامر أبو عمار أن مفهوم العبودية العصرية هو مفهوم حديث عالمياً، وبحسب المفاهيم المبدئية حول هذا المصطلح من الممكن القول إن ثلاثة أرباع العالم يعيشون العبودية العصرية، مؤكداً أن لديه تحفّظ حول أن 40 مليون شخص فقط في العالم يخضعون للعبودية العصرية، فهذا رقم متواضع وضئيل جداً مقارنة بالواقع، مرجعاً سبب تحفظه على الرقم، أن الدساتير في ثلاثة أرباع دول العالم لاتزال دساتير متخلفة، وتتيح الاستغلال، إضافة إلى الدين والعادات والتقاليد التي تسمح أيضاً باستغلال المرأة، فهذه العوامل جميعها تمنع المرأة بشكل خاص من القدرة على حماية نفسها من أي استغلال من الممكن أن تتعرض له. ويشير أبو عمار إلى أنه من الممكن القول إن 80% من السوريين اليوم يعانون من «العبودية العصرية» سواء من ناحية استغلال النساء، أو استغلال العاملين، فالعمل قسراً، والاضطرار للعمل لساعات طويلة وأوقات متأخرة من اليوم. كله يدخل في سياق استغلال حاجة العامل لدخل إضافي ليستطيع تأمين حاجاته الأساسية. من جهتها تؤكد الباحثة الاجتماعية حنان ديابي أيضاً أن نسبة العبيد العصريين ليست نسبة حقيقية، فالحقيقة أكبر من ذلك لاسيما في سورية، خاصةً بالمقارنة مع آخر الدراسات التي كشفت أن 89% من السوريين تحت خط الفقر، ما يعني أن هناك مشكلة بالدخول والمصاريف، ما يجبر المواطن على العمل لساعات طويلة، وبالتالي يسهل استغلاله في العمل، لافتة إلى أن النساء أكثر عرضة لهذا النوع من الاستغلال أو ما يسمى «العبودية العصرية»، لأن هناك عوامل متجذرة لها علاقة بالتعليم والمهارات والتدريب ومحو الأمية. العمل بالأسود من جهتها، ترى المحامية والصحفية رهادة عبدوش أن المصطلح جديد قديم، أي أنه غير مستعمل لكنه موجود في كل أنحاء العالم، التي لا تحمي حقوق الانسان ولا تتمثّل لقيمها، وسورية إحدى هذه الدول التي عانت من هذه المشكلة قبل الحرب وتفاقمت مع الحرب، ومن الطبيعي أن تتفاقم المشاكل الكامنة في الحروب والنزاعات والكوارث. مضيفة: في سورية منذ عشرات السنوات يوجد ما يسمى العمل في الظل، ويسمى بالدول الأجنبية العمل بالأسود، وهو العمل من دون غطاء قانوني وبظروف غير قانونية وطبعاً غير إنسانية. وعَمِل الأطفال بأسوأ أشكال العمالة التي حددتها الاتفاقيات بسبعة أعمال كلها موجودة في سورية، عدا الركوب على الإبل، حيث عمل الأطفال في المقالع والنفايات والتبغ والزراعة وصيد السمك. وتؤكد عبدوش أن الكبار يعانون أيضاً من الاستغلال بالعمل بالساعات والأماكن والأجور والإجازات، عندما يعملون في معامل أو منشآت غير مرخصة، أو مرخصة لكنها لا تسجل كل عمالّها. وكذلك العمل بشكل خاص مثل «اللفايات» والزراعة وجميع أشكال العمل غير المنظم، والذي لا يخضع لقوانين ويسمى العمل بالظل. كلام مغلوط! في المقابل هناك من يرفض إطلاقاً إعطاء هذا المصطلح للسوريين، رغم كل الأوضاع الصعبة التي يعيشونها على الصعيد المادي أو الاجتماعي، فيرى عضو مجلس الشعب وضاح مراد، أنه لا يوجد ما يسمى «عبودية عصرية» في سورية، صحيح أن الرواتب والأجور متدنية ولا تتناسب مع الجهد المبذول والوضع الطبيعي، إلا أننا في حالة حرب وهذا ما أوصلنا إلى هذا الوضع المؤقت. ويرى مراد أن ذكر سورية في هذه الدراسة كإحدى الدول التي فيها «عبودية عصرية»، غير مقبول وهو كلام مغلوط والدليل على ذلك أنه لا يوجد لدينا مشردون ينامون تحت الجسور وعلى ناصيات الطرق!! غير أن الواقع -من أسف- يثبت عكس ما يقوله النائب مراد، فالأطفال والكبار المشردون ينامون بالفعل في الشوارع، وفي مدينة صغيرة كـ «جرمانا» بريف دمشق على سبيل المثال لا الحصر، يمكن أن يصادف العابر عشرات الحالات لأطفال ينامون في العراء وعلى الأرصفة والحدائق، فما بالك في مدن تعاني أوضاعاً أكثر سوءاً؟! الفقر هو السبب تنتشر العبودية العصرية بشكل أساسي في البلدان الفقيرة، والمناطق التي تعاني من الحروب والنزاعات، لكنها في الوقت ذاته تزداد أعدادها في الدول المتقدمة اقتصاديا أيضاً. وفي حسبة بسيطة يوضح أبو عمار الواقع المرّ الذي يعيشه السوريون والذي يجعلهم عرضة للاستغلال بكل سهولة، يقول: خط الفقر العالمي يشمل جميع الأفراد الذين تقلّ دخولهم عن 1.9 دولار يومياً، أي أن يكون الدخل لأسرة مؤلفة من خمسة أشخاص وسطياً لا يقل عن 10.45 دولار يومياً، أي 313.5 دولارات شهرياً، فعلى الأسرة أن لا يقل دخلها عن ذلك، حتى تستطيع القفز خلف خط الفقر وتلبية احتياجاتها الأساسية من طعام وسكن. وعلى مستوى سورية -يوضح الخبير الاقتصادي- يجب أن يكون دخل الأسرة لا يقل عن حوالي 157 ألف ليرة حتى لا تصنف بالفقيرة، وكل السوريين الذين دخولهم تحت هذا الرقم سيجدون أنفسهم مضطرين للعمل القسري من أجل تلبية احتياجات أسرهم، من خلال العمل لأكثر من 8 ساعات، وهذا طبعا ممنوع دوليا ويندرج تحت بند الاستغلال، فهو استغلال للحاجة إلى تأمين متطلبات الحياة. الزواج القسري «للستر» أشار التقرير السابق إلى أن نحو 71% من العبيد هم من النساء والفتيات، والباقي من الذكور، حيث بلغ عدد المتزوجات بالإكراه 15.4 مليون امرأة، وعدد العاملين قسرا 24.9 مليون شخص، بموجب العبودية الحديثة. ويعدّ 5 أشخاص من أصل كل 1000 شخص حول العالم من ضحايا العبودية العصرية، حيث تُصنف العبودية في المناطق التي تنتشر فيها بكثافة وفق فئات مختلفة، مثل «العمل قسرا»، و»الإجبار على الزواج». وهنا يوضح أبو عمار: بما أن 80% من السوريون اليوم حسب العديد من الدراسات، هم تحت خط الفقر، فهم عرضة للاستغلال في العمل، ولن تنجو النسبة المتبقية من هذا النوع من العبودية، كون جزء منها من النساء المعرضات للزواج القسري أو الاستغلال الجسدي. ويؤكد أبو عمار أنه ورغم أن دستورنا حضاري مقارنةً بكثير من الدساتير العالمية، إلا أننا بحاجة إلى منظومة قوانين تكون قادرة على تمكين الفرد، من رد الاستغلال عن نفسه والحؤول دون وقوع هذا الاستغلال. ومن جانبها ترى ديابي أن مجتمعنا المحافظ دفع بعض الأسر للجوء إلى تزويج بناتهن بشكل قسري خلال الحرب، بحثا عن «الستر»، وذلك نتيجة للفقر والجهل والحرب، حيث أنهكت سنوات الحرب الطويلة البلد، وأثرت بشكل مباشر في تدني نسب التعليم، خاصة تعليم الإناث، وانتشار الزواج القسري كان سببه، إضافة للعامل الاقتصادي، الحفاظ على الفتيات خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيمات المسلحة لاسيما «داعش»، حيث كانت الأسر تخاف من ترك بناتها دون زواج فيكنّ عرضة للزواج من المقاتلين، الذين قدموا من كل حدب وصوب ومن مختلف الجنسيات، تقوم عائلاتهن بتزويجهن من معارفهم وأقاربهم، ولو بشكل قسري بحثاً عن أقل «الشرين»، حيث يوجد كثير من الأمهات المتعلمات لدرجات عالية اضطررن لإجبار بناتهن على الزواج بعمر 15 سنة بسبب الظروف التي فرضت عليهن، حيث قامت العديد من العائلات خلال الحرب بأفعال لا تؤمن بها. وتضيف الباحثة الاجتماعية أن الزواج القسري ازداد أيضا خلال الحرب، ونتيجة لكثرة حالات وفاة الأب أو فقدانه، فكان التزويج الإجباري يتم من قبل الجد أو أحد الأعمام، وهذا ما زاد الوضع سوءا، خاصة مع عدم قدرة الأم على التدخل لأنها ليست الوصية الشرعية على أبنائها وفقاً لقانون الأحوال الشخصية!! مبينة أنه في النهاية مفهوم «العبودية العصرية» واسع ومتشعب وأكثر من يعيش هذه العبودية فعليا هم النساء والفتيات، خاصة في المناطق التي كانت خارج سيطرة الدولة وبالتالي خارج القانون. ولعضو مجلس الشعب رأي آخر حيث ينكر أيضاً ازدياد الزواج القسري ويرفض شمله ضمن «العبودية العصرية»، فيقول: قبل الحرب يوجد في سورية شريحة تعاني فيها النساء من الزواج القسري لكنها لم تصل لتصبح ظاهرة وتدخل ضمن دراسات. ويكتفي وضاح مراد أن يعبر عن تفاؤله في أن هذه هي السنة الأخيرة في عمر الأزمة، وأننا سنشهد العام القادم تحسنا على صعيد العمل وعلى جميع الأصعدة الأخرى. في المقابل ترى عبدوش أن المشاكل في البداية لا تبدو واضحة لكن حلولها موجودة، وتنتهي بأن تصبح واضحة وحلولها مستحيلة، ونحن وصلنا إلى هذه النقطة، فلدينا في سورية قوانين عمل مهمة، وقد صادقت سورية بالفعل على كل اتفاقيات العمل وحقوق الإنسان والطفل والمرأة، لكن التطبيق صفر!! الحرب السبب… الحرب هي التي تتحمل الذنب الأكبر فيما وصلت إليه سورية من استغلال، سواء في العمل أو حتى في الزواج! ويؤكد ذلك الخبير الاقتصادي، يقول: الحرب هي السبب الأساسي للوضع الذي نعيشه اليوم ، فليس في سورية نضوب بالثروات أو بالإمكانيات، إنما لدينا فقر في السياسات والنظم السياسية التي تسمح للمواطن أن يعبّر عن رأيه ورغبته في العمل الذي يحبه، فالنظام الاقتصادي السائد وهو تشكيلة اقتصادية اجتماعية سياسية، تعيشها جميع الدول السائرة في طريق النمو والمتخلفة، وبالتالي لا تتيح هذه النظم للمواطن فرصة لدفع عوامل الاستغلال في العمل أو حتى الاستغلال الجسدي، ويزيد هذا الوضع سوءا قلة الوعي والتعليم في بعض المناطق، فوجود أنظمة حماية اجتماعية ومؤسسات تضغط على الحكومات لتصان هذه الحقوق ويخف استغلالها هو في غاية الأهمية.. وبالعودة إلى الأرقام المذكورة في التقرير يقول أبو عمار، الرقم في الدراسة يدل على أن الاستغلال في الدول العربية هو أقل من الاستغلال في البلدان الأخرى، وهذا أمر إيجابي خاصة أن الدول العربية الواردة في التقرير تعاني من الحرب. أما بالمقارنة مع الواقع يرى أنه وبحسبة بسيطة من يعيشون العبودية العصرية في سورية، هم بالآلاف، بينما في الواقع العدد أكبر من ذلك بكثير، فمليونا عامل في القطاع العام ومثلهم في القطاع الخاص بشكل تقديري راوتبهم حتى لو عملوا عملا إضافيا لن تتجاوز 100 ألف ليرة، وستبقيهم تحت خط الفقر وتعرضهم بالتالي للاستغلال. طعام ومأوى… في النهاية العبد بالمفهوم «القديم»؛ هو الشخص الذي كان يتم تسخيره بأعمال مختلفة، طيلة النهار وجزء من الليل، مقابل الحصول على الطعام والمأوى، فكم سوري اليوم يعمل طيلة النهار وجزء من الليل للحصول على طعام ومأوى فقط؟ الأ]اك