في اللاذقيــة: شــاب ســـوري يدّعــي امتلاكـه ســر النبــي سليمــان.. وفــي حمــص مشعــوذون يطــردون الجــن عبر اغتصــاب الضحايــا والتحــرش بهــن!
انتشرت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة التنجيم بشكل كبير في المجتمع السوري، ولم تعد تخلو منهم منطقة أو قرية، فهم منتشرون في الشوارع العامة ينادون الناس للتبصير والتنجيم كأنّهم يبيعون البطاطا في سوقٍ للخضار، حتى أصبح بعض المنجمّين أشهر من «نور على علم» يقصدهم الناس لأغراض مختلفة. لم تقتصر مسألة التنجيم عند السوريين على الفضول في معرفة الغيب، بل تعدَّتها لتصبح عادة خطيرة لها خلفيات مفضوحة في النصب والاحتيال والابتزاز. ولا شيء يضحك أكثر من أن تستمع لكل منجِّم وهو يدلي بتوقعاته بحسب الاتجاهات السياسية التي إما يتبعها هو، أو يتبعها الشخص الذي يستضيفه. وبات الحديث عن «الأسياد» و»الخدام» و»الجن السفلي» و»الجن العُلوي» حديثاً عادياً لا أحد يخافه بعد أن كان معظم الناس يستعيذون منهم بعبارات: «دستور من خاطركم»، لا نؤذيكم ولا تؤذوننا»، وغيرها. كشف مصير المفقودين: نصب واحتيال قبل حوالي ثلاث سنوات، وتحديداً في الشهر الخامس من عام 2015 عند إخلاء مستشفى جسر الشغور في ريف إدلب بعملية عسكرية معقدة، انقطعت الأخبار عن الطبيب باسل إسماعيل اختصاصي جراحة عينية. كان باسل قد فُرز إلى المستشفى بعد خمسة أيام من التحاقه بالخدمة العسكرية، وبعد عجز أهله عن معرفة أية معلومات حول مصير ابنهم، بدؤوا باللجوء إلى كل من يقال عنه أنه يستطيع معرفة شيء عن المفقودين، ممن يدّعون المعرفة من باب ديني أو غيره، تقول أخت المفقود باسل في حديثها مع «الأيام»: زرنا أكثر من خمسين شخصا حتى الآن من دون جدوى، منهم من يقول أنّه حي يرزق، ومنهم من يقول أنّه استشهد، لكن من دون ورود أي معلومة حقيقية عنه أو عن مكانه، أحد المنجمّين الذين ذهبت إليهم يتواجد عنده شاب وفتاة يطلب منهم المنجم إغماض عينيهما ويقرأ عليهم كلمات غير مفهومة، طالبا معلومات عن الشخص، ليبدأ جسدهما بالارتعاش بطريقة غريبة والحديث عن باسل، منجم آخر طلب مبلغ 10 آلاف ليرة بحجة أنه سيقوم بعمل «كتيبة» كي لا يتعرض للأذى ! قراءة الفنجان: رزق وفير مقابل مبلغ بسيط! تتفحّص أم سالم فنجان القهوة وتصمت لثواني معدودة، تنظر إلى المرأة المقابلة بتمعّن وتعاود النظر في الفنجان دقائق قليلة، وتبدأ حديثها حول ما رأت من خطوط القهوة الجافة المرسومة على سطح الفنجان الداخلي، تفسّر كل شكل على أنّه رمز إلى شيء ما يتعلق بحياة المرأة، فالمفتاح حسب أم سالم يشير إلى باب فرج سيفتح عما قريب، والأفعى تدل على النميمة، والعين إلى الحسد المحيط بها، بعد مدة ربع ساعة تقريباً تطلب أم سالم من المرأة التي أرادت التبصير أن تضع أصبعها في قعر الفنجان وتبصم فيه لترتسم سمكة، وتبشرها بأن رزقة كبيرة تنتظرها، تبتسم المرأة التي يبدو من ملابسها أنها متعثرة مادياً وتنطق بعبارات الحمد والشكر لله والدعاء لأم سالم بالصحة وطول البقاء، فالرزق بات على الأبواب وكل هذا مقابل 3000 ليرة فقط، يبدو أنه أمر مغرٍ، رزقة كبيرة مقابل ثلاثة آلاف ليرة فقط. يومياً يقصد أكثر من 20 شخصا أم سالم وتضطر لشرب القهوة معهم جميعاً إلا أنّها تقول «الرزق يلزمه التضحية»! حلا تنتظر موت أبيها! حلا (25 عاما) من محافظة طرطوس، قصدت قبل حوالي أربع سنوات امرأة تعتمد على التبصير بالكف، قالت يومها إن هناك شخصا قريبا منها سيصاب بمرض في رأسه، وأن أبيها سيموت خلال خمس سنوات، شاءت المصادفة بأن يصاب أحد أقربائها (عسكري في الجيش السوري) برأسه خلال خدمته العسكرية ما تسبب باستشهاده، واليوم تنتظر صبا – برعب حقيقي- مرور خمس سنوات خوفاً من تعرض والدها لمكروه أو موت كما قالت البّصارة. تقول صبا « أنا نادمة حقّاً، تخيّل أنني أعلم باحتمال موت أبي في أي لحظة ولا أستطيع فعل شيء، علماً أن الموت حق على الجميع إلا أن كلام البصّارة جعلني أشك في كل شيء». جريمة الشعوذة في القانون السوري الشعوذة جريمة يعاقب عليها القانون السوري، وهي إحدى الجرائم المخلة بالثقة العامة، والمقصود بالثقة العامة عند فقهاء القانون هي انعقاد عهد وميثاق بين أفراد المجتمع على عدم الخيانة ببعضهم البعض، وهذا الميثاق مفترض افتراضاً بين أفراد المجتمع الواحد، ومن يخالفه يعدّ ناقصاً ومخلاً بهذا الميثاق، المحامي عصام إبراهيم يقول في حديثه مع «الأيام»: يجرّم القانون السوري ويعاقب على الأفعال التي تقع على الثقة العامة، ومنها ما أورده في الباب الثاني «القباحات» من قانون العقوبات الفصل السادس «المخالفات التي تمس بالثقة العامة» في المواد /752/ إلى /754/ حيث أن المادة الأخيرة وهي المادة /754/ هي التي بينت الأفعال التي تعدّ من أفعال الشعوذة محددة العقوبة لمرتكبي هذه الجريمة، وقد نصت المادة على أن يعاقب بالحبس التكديري وبالغرامة من خمس وعشرين إلى مائة ليرة من يتعاطى (بقصد الربح) مناجاة الأرواح، والتنويم المغناطيسي والتنجيم وقراءة الكف وقراءة ورق اللعب وكل ما له علاقة بعلم الغيب، وتصادر الألبسة والعدد المستعملة، ويعاقب المكرر بالحبس حتى ستة أشهر وبالغرامة حتى مائة ليرة، ويمكن إبعاده إذا كان أجنبياً. مشايخ التنجيم: تحرش واغتصاب! قبل حوالي أربع سنوات ذاع سيط رجل في حمص على أنّه يعمل بسحب الجن من أجساد البشر، وعلى وجه الخصوص ادّعى أنّه يسحب الجن من الأعضاء التناسلية للشخص المسحور، إحدى الفتيات (نتحفّظ عن ذكر اسمها) ترددت إلى الرجل الذي يسكن حي المهاجرين لغاية معرفة إذا ما كانت ستتوفق في امتحان الشهادة الثانوية، وبعد عدة جلسات عمد الرجل إلى اغتصاب الفتاة بحجة توفيقها بدراستها، ما استدعى والدها إلى إخبار الجهات المختصة بالجريمة واعتقال الرجل بتهمة الاغتصاب، ومنذ ذلك الوقت لم يعرف شيء عنه، أما هبة، وهي فتاة عشرينية من حمص أيضاً فقد تعرضت لمحاولة تحرش من رجل آخر يدعى «أبو يوسف» يسكن حي السبيل ويعمل على اللمس لمناطق خاصة بالجسم، تحت ذريعة سحب الجن من جسد الفتيات، طلب رؤيتها عبر فتاة تسكن في حيّها تساعده على اختيار فتيات جميلات، إلا أنّ هبة رفضت رفضاً قاطعاً، كما هددها بأنّه قادر على إجبارها على المجيء إليه زاحفة ليلاً، لكن لم يحدث شيء كهذا أبداً . «سر النبي سليمان» يظهر في اللاذقية ! على إحدى مجموعات موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» أثار منشور لحساب أطلق على نفسه «خاتم سليمان عليه السلام» حديث الصفحات والأهالي في اللاذقية، حيث ادّعى صاحب المنشور أنّه يعمل بحكمة وعلم النبي سليمان، وأن لديه برهانه. الأمر الذي استدعى سخرية نشطاء «فيسبوك» خاصة أن صاحب المنشور عمل على نشره في عدة مجموعات تعنى ببيع الأشياء المستعملة (سوق اللاذقية المستعمل)، إلا أن صاحب الحساب خاطب غير المؤمنين بهذه المواضيع بعدم المتابعة والقراءة لأنه موجَّه لمن له دراية وعلم بأمور غيبية، متستراً بحجة أنّه هناك من لا يؤمن بوجود الله في هذه الأيام، لذلك من الطبيعي ألا يؤمن بوجود هذا العلم لدى شخص. «الأيام» التقت الشاب واستطلعت الأمر عن كثب، لتتفاجأ أن مهند من مواليد 1990 يعمل في محل لبيع «إكسسوارات الأجهزة الخليوية وبيع «الوحدات» والتصوير»، من دون ملاحظة أي شيء خارق للعادة كما يدّعي الشاب، على الرغم من أنّه يكرر عبارة «لدي براهين ودلائل» بالقدرة على جلب الرزق و فتح النصيب وجلب المحبة والمودة وكشف إن كان هناك مسّ جن للشخص، إضافة إلى إزالة ما أطلق عليه «السحر الأسود»، وخلال تواجدنا في المحل دخلت فتاة برفقة والدتها تريد معرفة موعد نصيبها بالزواج، فدوّن «المنجم» اسمها واسم والدتها وبدأ بـ «الخربشة» على وريقة صغيرة بعد الاستعانة بحاسب محمول، والكلام عن صفات عامة من دون تحديد موعد زواج الفتاة الأمر الذي أثار استياءها والخروج دون نتيجة. علم الاجتماع: التنجيم وهم وتسخيف للعقل علم الاجتماع يقول إن التنجيم ظاهرة قديمة، وليست وليدة الأزمة، يلجأ الناس إليها لتفسير أمر معين، وهي مبنية على التخمينات والدجل والاستغلال المادي للأشخاص بحجة معرفة ما يخفي الغيب لهم، وفي هذا السياق توضح الدكتورة في علم الاجتماع بجامعة تشرين بشرى عوض لـ «الأيام» أن أسباب انتشار التنجيم بالدرجة الأولى هو الجهل وانعدام الوعي، وأن من يقصد المنجمين غالباً ليس لديه الثقافة الكافية لكشف أن ذلك دجل، كما أشارت إلى سهولة الوصول للمنجمين، خاصةً بعد الانتشار العلني والتسويق لأنفسهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وإعطائهم مساحة من الصدق من قبل البعض، أما الفضول لدى الإنسان الذي يدفعه لمحاولة معرفة الغيب فهو سبب رئيسي أيضاً. وعن انتشار المنجِّمين خلال السنوات الأخيرة، تقول عوض إن الأزمة في سورية سبّبت الكثير من الحالات المجهولة في المجتمع مثل فقدان الناس لأبنائهم في الحرب أو في حالات الخطف، أو معرفة إذا ما كان الشاب يرغب بالزواج من فتاة وسط الرغبة الجامحة لدى الفتيات بمعرفة موعد الزواج، وسط ارتفاع معدلات العنوسة بشكل كبير. وأكدت عوض أن التنجيم مجرد استغلال لعقول الناس وتلاعب بمشاعرهم، كونه غير مبني على أي منطق أو علم، وبالتالي أي شيء غير مبني على علم لا يصدّق، وكَأكاديميين عبرت عوض عن الرفض القاطع للظاهرة خاصة أن المجتمع السوري لا يحتاج إلى «الخزعبلات»، بل إلى علم ومنطق وعقل يدحض أي محاولة استغلال لأي شخص فيه، في وقت ينتظر أبناؤه للنهوض به من جديد، مؤكدة أن المستقبل الواعد هو طريق الإنسان الذي يرسمه بتعبه من خلال فهمه لتفاصيل الحياة وتطوير الذات واللجوء لكسب العلوم بمبادئ وأخلاق سامية. الطب النفسي: المنجمّون يتسببون بيقينية زائفة الحاجة إلى اليقين أو بمعنى آخر القدرة على التوقع هي أحد الأهداف والدوافع الأساسية عند البشر، وهي تُناظِر في الحقل الاجتماعي الحاجات البقائية البيولوجية كالأكل والشرب والجنس، كما «يوضّح الاستشاري النفسي في منظمة الصحة العالمية د. تيسير حسون» في حديثه مع «الأيام» ويضيف بأن الدماغ لا يطيق الشك وهو نوع من أنواع الألم لديه، أما عن اليقين فبات معروفاً من دراسات علم الأعصاب الاجتماعي بأن الدماغ يلتمس اليقين ويستخدم من أجله نفس الدارات الدماغية التي تلتمس الطعام والجنس والمكافآت البدائية الأخرى، وكما أن الإدمان على أي شيء عندما يتحقق اليقين يشعر الإنسان بالمكافأة . ويشرح د.حسّون أن القدرة على التوقع ومن ثم الحصول على المعلومات التي تلبي تلك التوقعات هو ما يجعل من الألعاب العقلية كالكلمات المتقاطعة ممتعة، فهي تمنح دفقة صغيرة من خلق مزيد من الثقة، واعتماداً على الحاجة الأساسية في اليقينية ثمّة من يبيعنا إدراك المزيد منها، فهناك ممارسات متعددة مكرَّسة لحل الارتيابات الكبرى مثل المنجِّمين والمشعوذين والمتنبِّئين وقارئي الكف والفناجين، فهؤلاء جميعاً يلعبون على شكوكنا العميقة في معرفة الغد من خلال الإيحاء بمعرفتهم وقدرتهم على التنبؤ وتلطيف قلقنا بيقينية زائفة. «وحتى مقدار صغير من عدم اليقين يولد استجابةً خاطئة في القشر الجبهي، وهو ما يؤدي إلى أخذ الانتباه باتجاه آخر بعيداً عن أهدافنا، والتركيز باتجاه الخطأ» كما يوضح د. حسون، مشيراً إلى أنّه إذا كان ثمة شخص لا يخبرنا الحقيقة أو يتحدث بشكل غير منسجم يمكن أن يشتغل ضوء الإنذار «خاطئ» في القشر الجبهي على نفس شاكلة الكومبيوتر عندما يحدث خطأ، والأمر الذي نستطيع ملاحظته هو ارتفاع الضغط النفسي في حالتنا السورية بسبب استجابة التهديد المستمرة والناجمة عن غياب القدرة على التوقع واليقينية، وبطبيعة الدماغ يجب أن يفكر إلى الأمام ويتصور المستقبل ويخطط كيف ستكون الأمور، ليس كل لحظة فحسب بل لزمن أطول، أما الأمر المهم الآخر فهو أننا نتعطش للمعلومات من أجل المعلومات فقط! ففي كثير من الأحيان لا تجعلنا تلك المعلومات أكثر كفاءةً وتكيفاً، وإنما فقط تخفض إحساسنا بعدم اليقينية، وهذا التعطش المعلوماتي يشرح كيمياء الإدمان، فهو يؤدي إلى فورة دوبّامين عندما تكتمل الدائرة المعلوماتية ونشعر شعوراً جيداً ولكن لا يعني أن ذلك جيد طوال الوقت. وهنا يبقى التساؤل: هل أرخت الأزمة السورية بظلالها، وبكل مسبباتها وتداعياتها، على شباب سوري متعلم و»مثقف» بات يتعلَّق بـ»قشة أمل» في ظل كل منغّصات الحياة من فساد وفقر وإرهاب… إذاً والحال كذلك: هل نتوقع أن يخرج منجّم -وسط المئات منهم- ليحدد اليوم الذي سيعيشه الشعب السوري بسلام؟! الأيام