مسنّون في «سوق العمل» بمهن لا تحترم شيبتهم! وآخرون تقتلهم الوحدة!
قد يكون العمل لدى البعض سبباً رئيساً لاستمرارهم في الحياة، بشكل يشعرهم بالسعادة، حتى لو أنَّ ما بقي من العمر أقل بكثير مما مضى، ولكنَّ آخرين تدفعهم الحاجة إلى متابعة العمل حتى سني عمرهم الأخيرة، وبأشغال لا تليق بعمرهم، بل لا تكفيهم قوت يوم واحد، ومنهم من يكوم العمل ملاذاً لهم للابتعاد عن وحدتهم. الحاجة أمّ الاختراع! الحاجة المادية المفروضة على بعض المسنين تجبرهم على العمل بمهن تعدّ مرفوضة اجتماعياً، يكون التسوّل سيّدها، وتلميع الأحذية أفضلها، للانتقال إلى اختراع أنواع وأصناف من المأكولات على بسطات أرصفة دمشق. صلاح. ك، رجل في الستين من عمره، قال إنه اخترع مأكولات جديدة، ليستطيع تأمين لقمة أطفاله؛ حيث ابتكر طريقة لشواء الخبز المحشو بمواد غذائية، مثل المرتديلا والجبنة وغيرها. وقد لاقت هذه الأصناف، بحسب قوله، رواجاً لدى الناس، لكنها متعبة جداً كما يقول، فضلاً عن بقائه على الرصيف في شارع الثورة أكثر من عشر ساعات يومياً، معرَّضاً لكلّ عوامل الجو الباردة والحارة. تحسين، الرجل السبعيني الذي يسير بشكل يومي (بحسب قوله) أكثر من 8 ساعات حاملاً بسطة تلميع الأحذية الثقيلة، لا يرتاح إلا لدقائق، حين يناديه أحد ليقدم له خدماته. ويوضح تحسين أنَّ عمره لم يعد يساعده على العمل كالسابق، ونظرات بعض المواطنين باتت تزعجه، لأنهم لا يعلمون ما يعانيه من فقرٍ ولا يدرون سبب اضطراره للعمل بهذه المهنة رغم السن المتقدم. العنوان العريض لأيّ عمل لا يلاقي احترام الناس يكون «التسوّل»، بعد أن امتلأت الشوارع بمتسولين من مختلف الأعمار. وكان لكبار السن الغلبة، نظراً إلى ما يشعره الناس حين ينظرون إليهم، فبعضهم يضطر إلى المساعدة بعد تقديم المتسوّل العجوز لائحة بالأمراض التي أصابته وكميات الدواء التي يحتاج إليها. ويبرَّر أحد المتسولين، دون أن يذكر اسمه، أنَّ عمره تجاوز 74 سنة، وهو مضطر إلى إيجاد أمراض كثيرة يلقيها على المارة ليستثير عطفهم؛ علّهم يحنّون عليه ببعض الـ»الفراطة»، التي تجمع في آخر النهار وتشكل مبلغاً جيداً، من دون أن يلاقي أيّ عذاب اجتماعي أو يتحرك لديه أيّ شعور بالنقص، فالحاجة أجبرته على حدّ قوله. وقف الاعتبار الذاتي الدكتور هيثم علي (الاختصاصي في الطب النفسي) يؤكد أنه «في حال كان عمل الرجل المسن عملاً غير لائق في مرحلته العملية، فقد يؤثر ذلك سلباً في حالته النفسية، أي ما يسمّى في علم النفس «وقف الاعتبار الذاتي» للشخص، إضافة إلى أنَّ المسنين يحبون أن يكونوا موضع اهتمام المحيطين بهم، وفي حال كانت مكانتهم الاجتماعية غير لائقة يصبح لديهم انكسار في الكبرياء والكرامة». كما أوضح الاختصاصي النفسي أنه «عند الوصول إلى مرحلة العجز والموت يبدأ المسن بالشعور بأن عمره ذهب من دون أن يقدّم شيئاً مهما وأنه لم يترك بصمة في المجتمع؛ ما يزيد حالته النفسية تراجعاً ويزيد لديه الإحساس الدائم بالفشل والإحباط». خوفاً من دار المسنين يضطر كثيرون من كبار السن إلى العمل في أعمال لا تليق بهم، لكنَّ ظروف المعيشة الصعبة تقف أمام تفكيرهم بمدى ملاءمة عملهم لعمرهم. وعن هذا يتحدث محمد.ع (أبو احمد)؛ فيقول: «منذ أكثر من 10 سنوات أعمل في شركة خاصة بصفة مستخدم، ولا أنكر بأني أشعر بغصة أمام أولادي من طبيعة عملي، خاصة أنَّ هناك بعض الأشخاص في الشركة لا يراعون كبر سني. وأنا لست أباً فقط، بل جدّ لأكثر من أربعة أطفال، ولكن أحاول أن أتناسى نظرات الناس القاسية والنظرات المتعاطفة، وأقول في قرارة نفسي: يكفيني أني أعمل عملاً شريفاً ولا أحتاج أن يصرف عليّ أولادي، فأنا «لم أمت لكن رأيت من مات»، وهنا يقصد محمد خوفه من أن يخذله أولاده بإيداعه في مأوى للعجزة. ولعل أبو أحمد محق في خشيته من الذهاب أخيراً إلى مأوى العجزة، وعبارته «لم أمت ولكني رأيت من ماتوا» تحمل الكثير عما يحدث في مأوى العجزة لجهة الوحدة التي يعيشها المسن، والخذلان الذي يشعر به من أقرب المقربين إليه. مها واحدة من هؤلاء، حيث تعيش في دار المسنين، تجلس على مقعد خشبي تتأمل وجوه المارّة والنزلاء، والابتسامة تعلو وجهها، لكنها تخفي وراءها ألماً وحسرة سرعان ما يظهران حين سؤالها عن سبب وجودها هنا، وعن أقاربها، فتجيب: لدي ثلاث بنات وولدان، لكني لا أعلم عنهم شيئاً، لربما قد متُّ في حياتهم، ولهذا السبب لا يزوروني! لأبو زياد، قصة مختلفة، فهو من اختار اللجوء لدار المسنين بعد سفر أولاده خوفاً من الوحدة، يقول: «كنت دائماً منذ صغر سني أخاف أن أموت وحيداً، ودائماً تراودني أحاسيس بأنني عندما أكبر سأموت ولن يعلم أحد بموتي، لهذا السبب بعد سفر أولادي خفت أن تتحقق أسوأ مخاوفي، فقررت اللجوء إلى الدار رغم معارضة أولادي لي». وحيدون… عرضةً للموت! وجهة نظر أبو زياد أكدتها هيئة الطب الشرعي في سورية من خلال تصريح لها أن هناك حالات دائمة لوفيات رجال كبار بالسن وحيدين في المنزل، لا يعلم بهم أحد إلا جيرانهم بعد مرور عدة أيام على حالة الوفاة، وتكون نتيجة الرائحة التي تفوح خارج المنزل بعد وفاتهم. ويقول الدكتور زاهر حجو رئيس هيئة الطب الشرعي، إن أكثر هذه الحالات تكون نتيجة احتشاء قلبي، بسبب الحزن والاكتئاب الذي يعيشه المتوفي بسبب الوحدة والاشتياق لأسرته. ومن الناحية الاجتماعية، تؤكد دراسات حول الموضوع أن الوحدة عند الكبار لها أثر مدمّر على حياتهم وصحتهم، مشيرةً إلى أنَّ كبار السن معرضون لمخاطر الوفاة بسبب العزلة والعيش في وحدة بنسبة 14% مقارنةً بالشخص العادي. وربطت دراسات سابقة العزلة الفرديَّة بمجموعة من المشاكل الصحيَّة مثل ارتفاع ضغط الدم وضعف الجهاز المناعي، والاكتئاب، والنوبات القلبيَّة والسكتات الدماغيَّة. الايام