«نحو قضاء عادل وسريع»...لا بد من اعتبار القاضي الذي يتصيد الأخطاء الشكلية مرتكباً خطأ مهنياً جسيماً
عرضت في مقال سابق مثالاً يدل بوضوح على الخلل الحاصل في العديد من الدعاوى التي يتم فيها تغليب الشكل على الموضوع ما يؤدي إلى إهدار الحقوق وتبديدها بسبب إطالة أمد التقاضي، واقترحت إعادة النظر ببعض القوانين وعلى الأخص قانون أصول المحاكمات المدنية لإزالة الغموض والالتباس الذي يفسح المجال للتفسيرات والاجتهادات التي تأتي خلافاً لقصد المشرع وغايته، وإعادة النظر بالأحكام التي تتعلق بالشكل في إجراءات التقاضي ما يمنع الاستناد إليها واستغلالها لتأخير البت بالدعاوى على حساب الموضوع والحق. واستكمالاً لهذا الموضوع سأتحدث في هذا المقال عن دعاوى المخاصمة التي شرعها قانون أصول المحاكمات وأصبحت مجالاً واسعاً لتعطي لتنفيذ الأحكام القضائية المكتسبة الدرجة القطعية، والتي قد تأتي بعد تنفيذ هذه الأحكام وكذلك دعاوى الانعدام التي تستند إلى ما جاء في الفقه والاجتهاد ولم أجد ما يسوغها بما يتوافق جوهرياً مع قواعد الحق والعدل وقصد المشرع وغايته، وهي أيضاً مدخل لتجاوز الأحكام القضائية المبرمة. نسمع كثيراً عن حالات فساد موصوفة ترتبط بدعاوى مخاصمة ودعاوى انعدام، ونأمل أن نسمع بالإجراءات التي اتخذت للتصدي لهذه الحالات، هذه الإجراءات التي يجب أن تؤدي إلى محاسبة المرتكبين بحزم وعدم الاكتفاء بصرف القاضي من الخدمة، ولا بد من التشدد في المحاسبة مع قضاة الدرجة الأعلى في التقاضي لتكون محكمة النقض بعيدة عن أي شبهة بسبب تصرف خاطئ وغير مسؤول من أحد قضاة غرفها المتعددة. وهذا يفرض على محكمة النقض بكامل هيئتها ومستشاريها العمل على التنقية الذاتية للتخلص من الشوائب والنتوءات التي تسللت إليها في غفلة من الزمن. إنني أدعو إلى إقامة ندوة موسعة تضم كبار القضاة والمحامين وأساتذة كلية الحقوق لبحث كل ما يتعلق بدعاوى المخاصمة ودعاوى الانعدام ومراجعة النصوص القانونية الناظمة لها والاستئناس بتجارب الدول المتقدمة في المجال القضائي والقانوني، والتوصل إلى الصيغة الأنسب التي تضمن حسن سير العدالة وعدم تعطيل تنفيذ الأحكام القضائية المكتسبة الدرجة القطعية. لا بد من إعادة النظر ببعض الأحكام الناظمة لدعاوى المخاصمة، والتأكيد على ما ورد في الفقرة – أ – من المادة (466) من قانون أصول المحاكمات التي نصت على قبول مخاصمة القضاة وممثلي النيابة العامة إذا وقع من القاضي أو ممثل النيابة العامة في عملها غش أو تدليس أو غدر أو خطأ مهني جسيم، وهذا ما يجب التحقق منه قبل الحكم بقبول دعوى المخاصمة شكلاً. ومن ثم فإنه تجب إعادة النظر بنص المادة (472) بما يمنع طلب التنفيذي في القضايا المدنية والتجارية قبل الحكم بقبول الدعوى شكلاً. إن التطبيق العملي لنص الفقرة – أ – من المادة (472) من قانون أصول المحاكمات المدنية بطلب الملف التنفيذي مرفقاً بإضبارة الدعوى الأصلية التي صدر فيها الحكم موضوع المخاصمة، يؤدي إلى تعطيل تنفيذ الأحكام القضائية التي أصبحت صالحة للتنفيذ من خلال سحب الملف التنفيذي بدعوى المخاصمة، وبذلك يستحيل تنفيذ هذه الأحكام ما دام القانون يجيز رفع دعاوى المخاصمة من دون ضوابط وآليات تهتم بالموضوع قبل الشكل. أختم بالتأكيد على ضرورة اعتبار القاضي الذي يتصيد الأخطاء الشكلية مرتكباً خطأ مهنياً جسيماً، وأن القاضي الذي تتكرر أخطاؤه المهنية الجسيمة لا يصلح أن يكون قاضياً. وسنبقى متمسكين بالشعار الذي رفعته المؤتمرات القضائية المتلاحقة: «نحو قضاء عادل وسريع». باحث ووزير سابق