أبناء الحرب خلف مقاعد الدراسة: عنف مستتر و«جرائم» لم تعد مؤجلة!
منذ اندلاع الحرب في سورية، مثّل الأطفال بالنسبة للفصائل المسلحة بذوراً يمكن تنميتها لعنفٍ مستدام، وقنابل قابلة للانفجار عند الطلب، فهرعت الفصائل المسلحة إلى تجنيد الأطفال ضمن معسكرات تدريب على القتال، وتجهيز أطفال كانتحاريين، كما حدث في منطقة الميدان في دمشق، عندما أقدمت طفلة على تفجير نفسها في قسم الشرطة تلبية لرغبات والدها الذي ينتمي إلى تنظيم «داعش»، وإقدام أطفال على تنفيذ عمليات ذبح وقتل، ومشاركة في أعمال العنف، إلا أن العنف الذي زرع في الأطفال لم يقتصر على مناطق الحرب، بل تسلل وتجذّر في المناطق الآمنة أيضاً، سواء عبر «السوشال ميديا»، أو بسبب الإهمال، أو بسبب الفقدان وغيرها، ما وضع الجيل الذي نما خلال الحرب في مهب ريح الجريمة، والتي قد تكون عاتية مالم يتم تدارك الأمر. جريمتان… في أسبوع! خلال أسبوع واحد فقط، ضجّت الصفحات السورية على مواقع التواصل الاجتماعي بحكايتين لطالبين فقدا حياتهما على يد زملائهما في محيط العاصمة دمشق. وفي وقت اعتبر كثيرون الحادثة الأولى (وفاة طفلة تبلغ من العمر 10 سنوات في مدرسة قرية البيطارية التابعة لدوما، على يد زميلها خلال عراك بينهما في الصف) قضاءً وقدراً، جاءت الحادثة الثانية كجريمة متكاملة، حين أقدم ثمانية طلاب في المرحلة الثانوية على قتل زميلهم، وإخفاء جثته في منطقة نائية، في مدينة الرحيبة قرب دمشق. الجريمة التي شهدتها الرحيبة، ونشرت تفاصيلها على مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أن ترسم ملامح سلوكيات تجّذرت في نسبة لا يستهان بها من الأطفال، حيث قام الأطفال أو المراهقون الثمانية بقتل صديقهم لأنه، من وجهة نظرهم، «نذير شؤم»، خصوصاً بعد وفاة أحد أصدقائهم المقربين على دراجة نارية، كان الطفل الضحية يجلس خلفه، الأمر الذي وثّق نظريتهم الغريبة بدليل قاطع، ليأتي القرار بقتله والتخلّص منه، وفق ما تم نشره حول تفاصيل الجريمة. عنف حقيقي… بعدة أشكال على أبواب المدارس، يمكن ملاحظة تجمعات الأطفال (الذكور على وجه التحديد) ضمن حلقات أو أمام مدارس الإناث، كما يمكن بسهولة العثور على أدوات حادة وأسلحة بيضاء لدى قسم منهم، الأمر الذي تناولته الكثير من وسائل الإعلام، إلا أن ما يجري داخل أسوار المدرسة يمكن أن يعطي صورة أوضح، وأكثر واقعية، وموثقة، عن العنف المتجّذر في جيل نشأ وترعرع في ظروف الحرب، حتى وإن كان بعيداً عنها جغرافياً. إلهام محمد، رئيسة دائرة البحوث في تربية دمشق، والتي تشارك في برنامج خاص لمكافحة العنف عند الأطفال، أشارت خلال حديثها لـ «الأيام» إلى أن العنف ظاهرة حقيقية وليس مجرد تخوفات، وتوضح أن العنف اتخذ عدداً كبيراً من الأشكال التي يصعب حصرها وتأطيرها ضمن عنوانين أو ثلاثة. تقول محمد: «لدينا عدد كبير من أشكال العنف المنتشر بين الأطفال، التنّمر، العنف اللفظي والجسدي، عدم قبول الآخر، العنف الكيدي الذي يتمثل بمحاولة الطفل إيذاء زميله عن طريق الشكوى الكيدية أو دفعه لارتكاب مخالفة سيعاقب عليها، بالإضافة إلى التحرّش الجنسي، وغيره من أشكال العنف». خلال حديثها، تؤكد رئيسة دائرة البحوث في تربية دمشق أن العنف لا يقتصر على جنس واحد، فهو منتشر بين الذكور والإناث، وإن اختلفت أساليب التعبير، كذلك، «لوحظ انتشار التحرش الجنسي بين الذكور والذكور، الذكور والإناث، الإناث والإناث، وهي ظاهرة نحاول معالجتها بشتى الوسائل»، وفق تعبيرها. «بطاقة العنف»… العنف المتفشي بين الأطفال، دفع وزارة التربية إلى تبني استراتيجيات، وإطلاق مشاريع خاصة لمعالجة هذه الظاهرة، فقامت بتوزيع «بطاقة العنف» على جميع المدارس، وهي بطاقة خاصة يتم تسليمها إلى المرشد النفسي أو الاجتماعي الموجود في المدرسة، حيث يقوم بمراقبة سلوكيات الطلاب، وتدوين أعمال العنف التي شاهدها، وآلية وقوعها، والضرر الذي تسببت به، بالإضافة إلى محاولة فهم دوافع الطفل، والظروف التي عاشها، أو يعيش فيها، لمحاولة معالجة هذه الظاهرة. وبالإضافة إلى «بطاقة العنف»، تعمل وزارة التربية على متابعة برامج عدّة لمكافحة ظاهرة العنف، بينها برامج الدعم النفسي والاجتماعي، وتشكيل فرق خاصة في المدارس للدعم النفسي والاجتماعي، حيث يتكون الفريق من نحو 5 مدرسين في كل مدرسة، يعملون ضمن برنامج علمي على معالجة العنف الموجود بين الطلاب، وهو مشروع في مراحله الأولى ولم يصل بعد إلى جميع المدارس. وفي وقت تؤكد فيه محمد أن العنف موجود حتى في المناطق التي لم تشهد أعمال عنف طيلة فترة الحرب، توضح أن كثيرا من الأطفال شاهدوا العنف عبر التلفزيون أو مواقع التواصل الاجتماعي، أو فقدوا أقرباءهم، أو فقد أصدقاؤهم أقرباءهم، الأمر الذي ساهم بتغيّر واضح في سلوكياتهم، مقارنة بالأطفال قبل اندلاع الحرب. ومن الملاحظات المهمة المتعلقة بالعنف في المدرسة، تشير رئيسة دائرة البحوث في تربية دمشق إلى أنه، قبل اندلاع الحرب، كانت فترة المراهقة عن الأطفال هي التي تشهد انتشار العنف في بعض الأحيان، إلا أننا الآن بتنا نلاحظ العنف في مراحل عمرية صغيرة. وفي وقت تشير فيه محمد إلى أن البرامج التي تتبعها وزارة التربية ساهمت بالحد من العنف، وعالجت وفق ما رصدته هي شخصياً مشاكل واضحة في بعض المدارس، إلا أن معالجة الظاهرة يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد برامج، حيث يتعلق الأمر بمتابعة الحالات في منازلها، وتوعية الأهل الذين يساهمون بزرع العنف في أطفالهم، بالإضافة إلى خلق أجواء صحية في المدارس، فالازدحام الشديد في الصفوف والمدارس يساهم في تكريس العنف، نتيجة ضيق المساحة وعدم قدرّة المدرسين على التواصل مع جميع الأطفال، بالإضافة إلى عدم وجود مساحة صحية كافية للعب في الباحة، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى التنمّر في محاولة كسب أكبر مساحة ممكنة. وأمام المشهد المعقّد للأطفال، والسلوكيات العنيفة المتفشية في المدارس، والذي ينذر بمستقبل قاتم، خصوصاً مع انتشار ظاهرة الانطواء عند بعض الأطفال، وعدم قبول أطفال لزملاء لهم لأسباب مناطقية، نتيجة التشوهات المجتمعية التي تسببت بها الحرب في سورية، يبدو أن وقوع جريمتين خلال أسبوع واحد، وإن كانت هذه الحالة نادرة، أمر غير مستغرب، وقد يتطور إلى ما هو أبعد من ذلك إن لم يتم معالجة هذه التشوهات على مستوى أوسع من المدرسة، يشمل الأسرة، والشارع، الأمر الذي يحتاج إلى سنوات طويلة من العمل علاء حلبي الأيام