لماذا لا يتم إنشاء وزارة خاصة بـ «الشهداء»؟ أبناء الشهداء ينامون مع أوجاعهم: مـــــــــــــدارس مكتظة غير قادرة على استيعابهم وتعويضهم..
تركت حنين منزل عائلتها الدافئ، تاركة وراءها أب شهيد وأم تئن تحت جراح الفقد والحاجة، حنين البنت الصغرى لعائلتها فتحت عيونها بعد صدمة فقد الأب لتجد نفسها في مدرسة بنات الشهداء بين مئات الفتيات الأخريات اللواتي سرقت الحرب آبائهن أيضاً… وعندما بلغت 16 عاماً وبعد أكثر من ثلاث سنوات على وجودها في المدرسة، لم تستطع تلك الصبية الصغيرة أن تتأقلم مع حياتها الجديدة فحاولت الانتحار مرة بقطع أوردتها للضغط على أمها وإخراجها من المدرسة، ولكنها لم تنجح لا في الانتحار ولا في الخروج من المدرسة، وبعد عدة أشهر تمكنت حنين من الهروب خارجا… فصلت بعدها من المدرسة، إلى أن عادت الإدارة عن قرارها واستقبلتها مجدداً، رأفة بحال عائلتها المادي الصعب الذي لا يمكن أن يؤمن لها حياة كريمة. حنين ليست الفتاة الأولى في مدرسة بنات الشهداء التي تحاول الهرب أو الانتحار، فالمدرسة النموذجية بشكلها الراقي والنظيف والمرتب لم تعد قادرة على تأمين العناية الكافية لطالباتها اللواتي كاد عددهن يصل الألف، بعد أن كان بداية الأزمة لا يتجاوز الـ 40. هروب وانتحار العدد الضخم جعل الأمور خارجة عن قدرة الإدارة على السيطرة خاصة من الناحية النفسية، لتتكرر محاولات الانتحار ومن الحالات التي اطلعت عليها الأيام «س ع» «ح ح» ف م»، وكانت جميعها محاولات لقطع الوريد عبر استخدام الأدوات المتاحة «شفرة براية» «مرآة مكسورة». أما الهروب فهو أيضاً الحل الأخير للبعض، وعلى الرغم من قلة الحالات إلا أنها موجودة ومنها «ه خ» – «ح ح»، فالحراسة المشددة على أبواب المدرسة تُصعّب الموضوع، خاصة أن كثير من الطلاب من محافظات بعيدة، وبالشكل الطبيعي يتم فصل الطلاب الذين يحاولون الهروب أو الانتحار إلا في الحالات الخاصة جداً. قلة مشرفين ومع هذا العدد الضخم في مدارس أبناء وبنات الشهداء، لا يوجد عدد كاف من المشرفين ليتواصلوا مع الطلاب بالشكل الأمثل، ففي الفترة الليلية «من 7 ليلا حتى صباح اليوم التالي» على سبيل المثال من الممكن أن يصل عدد الطلاب إلى 40 طالب بإشراف مشرف واحد، وهذا طبعا أكثر وقت يحتاج فيه الطفل أو المراهق إلى الرعاية النفسية والاجتماعية، ونقص عدد المشرفين يترافق مع عدم تقدير عملهم، فهم وعلى الرغم من ساعات الدوام الطويل والإضافي لا يحصلون على أي زيادة في رواتبهن لذلك يكون حلمهن دائما الانتقال إلى غير فترة من الدوام. إضافة إلى أن المرشدين النفسيين في المدرسة غير متواجدين في فترتي الظهر والمساء، فهم موجودون في المدرسة فقط صباحاً، وعلى الرغم من أن الطالبات يجدن فيهن المتنفس للفضفضة إلا أنهن لا يجدن الوقت للحديث، لأن فترة الصباح هي فترة مدرسة. تقول إحدى المشرفات في مدرسة بنات الشهداء: المدرسة تعطي اهتمام كبير بالطالبات من حيث الطعام والكسوة وتقديم المستلزمات، والإدارة كانت أقرب بكثير للطالبات قبل أن يصبح العدد بهذه الضخامة، حيث كانت تعرف تفاصيل حياة جميع الطالبات، وتتعامل معهن كل حسب وضعها الاجتماعي والنفسي، اليوم من الصعب جدا القيام بذلك فالأعداد الكبيرة لا تسمح، وأدّى ذلك إلى مشكلات نفسية على سبيل المثال وجود صورة ذهنية عند أغلبية الطالبات عن «الأم السيئة» نتيجة الأحاديث المتناقلة حول ترك أمهاتهن لهن أو زواجهن، وعلى الرغم من محاولات الإدارة، إلا أن هذه المهمة غير ممكنة خاصة مع قلة المشرفات، ما أدى إلى أمراض نفسية مختلفة. أمراض نفسية في المدرسة تجلس ابنة الشهيد «أبو يعرب» من مجزرة جسر الشغور وحدها انطوائية حزينة لا تكلم أحداً، وتعاني «ب ح» من السلس البولي بعد أن شاهدت أباها يتعرض للتعذيب عبر فيديوهات مواقع التواصل الاجتماعي، وتفكر ابنة الشهيد الذي قسم الإرهابيون جسده نصفين معلقا بسيارتين سلكتا اتجاهين معاكسين، بالانتحار بشكل شبه دائم. وحالات كثيرة تغفل المدرسة عن معالجتها نتيجة الضغط الكبير والذي يستدعي وبشكل إسعافي زيادة عدد مدارس أبناء الشهداء وتأمين الدعم النفسي لهم. وتقول مشرفة أخرى رفضت ذكر اسمها إن أغلب حالات الهروب تعرف فيها المدرسة قبل حدوثها، نتيجة حديث الطالبة عن الموضوع، ويتم تبليغ الأهل والاقتراح عليهم بسحب الطالبة من المدرسة لكنهم في كثير من الأحيان لا يستجيبوا… وأغلب اللواتي تكون حالتهن في المنزل غير مستقرة كوفاة الأم أو زواجها، وتشير المشرفة إلى وجود حالات أخرى هي تعذيب الطالبات لأنفسهن بجرح أيديهن مثلا، وهذه حالات غير قليلة. وتلفت المشرفة إلى موضوع التعليم في المدرسة والذي تراجع نتيجة قلة المتابعة وقلة المشرفات فمن القليل أن نجد تفوقا كبيرا في هذه المدارس. مؤكدة أن كل الطالبات يرفضن المدرسة في البداية إلا أن كثير منهن بعد مرور سنة أو سنتين يتأقلمن معها ويحبون البقاء فيها. من جهتها تقول شهيرة فلوح مشرفة مدارس أبناء وبنات الشهداء، إن النظام الداخلي في المدارس بشكل عام نظام صعب على الطلاب، ونحاول في مدارس أبناء وبنات الشهداء أن نخفف من تأثيره على الطلاب، خاصة وأنه وبوجودهم في مدرسة داخلية حُرموا من أمهاتهم بعد أن فقدوا آبائهم، ونعمل بشكل حقيقي بشعار «على المحبة نلتقي»، لنحاول تخفيف هذا الضغط عن أبنائنا، ونقلهم من جو الحزن والتعب إلى الفرح والتفاؤل. مضيفة: في المدرسة كفاية من كل شي، مستلزمات ومستوصف ومنامة وطعام جيد، وما يمر علينا من حالات نفسية ضمن حدود الطبيعي خاصة في المرحلة الحالية، فسابقاً كانت الحرب حرب جبهات ولا يسمع الأطفال عن الإرهاب الذي تعرض له آباؤهم، اليوم نعيش «حرب شوارع وإرهابا وقصصا مؤلمة، تترك أبناء الشهداء بحالة نفسية صعبة وتزيد صعوبتها مع أم بعيدة، والمهمة الملقاة على عاتقنا ليست سهلة على الإطلاق، فليس لدينا حالات انتحار ولا تجارب، لكن الطلاب حزينون بشكل عام، لفقد آبائهم، خاصة وأن أمهاتهم صغيرات، منهن من تزوجن ومنهن من كانت ظروفهن صعبة، وهنا يكون وجود الطالب في المدرسة أفضل بكثير من بقائه خارجها، للمحافظة على القيم الجيدة المتبقية. موضحة أنه عندما تتزوج الأمهات يخلق الموضوع عقدة عند الطالب، ونحن بدورنا نحاول التواصل مع الأمهات، لكن ذلك يكون بلا نتيجة أحيانا نتيجة صغر سن الأم وقلة وعيها. وتلفت فلوح إلى أن المدرسة تحاول أن تؤمن لهم كل ما يحتاجونه، ويرغبون بالحصول عليه لإخراجهم من حزنهم. مشيرة إلى أن الأعداد ارتفعت كثيراً، وأبناء الشهداء الموجودين في مدارسنا لا ينقصهم شيئا، إلا أنه لم يعد يمكننا استيعاب أعداد إضافية فلم يعد يوجد أسرّة. كان هنالك بناء في حلب خسرناه في الحرب، وتم تحويله لمستشفى عسكري ونتمنى أن يكون هناك مدرسة أخرى تستوعب الأعداد الكبيرة. من جهتها تقول مريانا الجمل مديرة مدرسة البنات أنه في مدرسة البنات اليوم 712 طالبة، غير الموجودات في الحضانة، لافتة إلى أن الأعداد كبيرة تضطرنا أن نزيد أعداد الطالبات في الغرف، حيث وصل عدد الطالبات في كل غرفة أكثر من تسعة، لكن الغرف صحية وواسعة. مضيفة أن أكثر ما يزعج الطالبات عدم وجود الخصوصية داخل المدرسة نتيجة الضغط، فلم يعد بالإمكان أن يكون لها خزانتها الخاصة أو درجها الخاص. وتؤكد الجمل أن الناحية التعليمة ممتازة وتتعاون وزارة التربية مع المدرسة بشكل جيد حيث ترفد المدرسة بأفضل المعلمين، وتتم متابعة الطلاب بعد الظهر من خلال دروس خصوصية للمحتاجين. ماذا عمّن هم في الخارج؟ وإذا كانت الطالبات والطلاب داخل مدارس أبناء الشهداء يعيشون وضعا يحتاج مزيدا من الاهتمام، كيف يعيش من هم في الخارج دون أي رعاية أو اهتمام؟ تتكلف المدرسة على الطالب كل شهر ما لا يقل عن 20 ألف ليرة فهي تؤمن له «عدة بدلات» من الملابس الداخلية والخارجية، وللنوم والرياضة والمدرسة، إلى جانب الطعام والطبابة وراتب شهري «مصروف جيب 2000 ليرة»، بينما تعطي ابن الشهيد الذي لا يدخل المدرسة 20 ألف ليرة في السنة كلها، من دون أن تؤمن له أي شيء آخر، فهل هناك دم أغلى من دم أو ابن أغلى من ابن. مدارس أبناء الشهداء اليوم لا تتسع إلا لقلة منهم، فمن المسؤول عن تأمين من تبقى من أبناء الشهداء خاصة مع الظروف المعيشية، وهل سنقابل من رخّص دمه لأجلنا بأن نترك أولاده دون أبسط رعاية؟ ونظرا للتأخر في إقامة مدارس أبناء شهداء جديدة تغطي العدد الكبير منهم، كان هناك محاولات بسيطة لاستيعابهم في المدارس الخاصة بقرار يفرض على المدارس الخاصة تخصيص 5 % من مقاعدها لأبناء الشهداء بالمجان، ونتيجة ارتفاع عدد المتقدمين لم تستطع المدارس الخاصة، لاسيما في المحافظة التي قدمت عددا كبيرا من الشهداء، أن تغطي إلا نسبة بسيطة من أبناء الشهداء، ليبقى القسم الأكبر من دون رعاية، وهنا أكدت بشرى جوهرة زوجة شهيد وأم لأربعة من أبنائه أنها لم تستطع الاستفادة من هذا القرار مؤكدة أنه وفي مدينة اللاذقية وحدها 1800 طلب مرفوض لعائلات تريد أن يدرس أبنائها في المدارس الخاصة، مشيرة أن قرارا بهذا الخصوص يجب أن يأتي لحل مشكلة جماعية وليس ليحل مشكلة البعض ويترك الآخر، ما يُشعر أبناء بعض الشهداء بالظلم وكأن آبائهم غير متساويين في الدم الذي بذلوه، والحل من وجهة نظر جوهرة أن يتم تخصيص مدرسة من مدارس الدولة في كل مدينة لأبناء الشهداء على أن يتم إعادة تأهيلها ورفدها بالتجهيزات المطلوبة، من دون أن تكون مدارس داخلية، فمن الممكن أن تستقبل الطفل حتى بعد الظهر وتتركه يعود إلى أمه يومياً، لأن وضع أبناء الشهداء في مدارس داخلية ظلم، فالطفل الذي فقد أباه وأبعد عن حضن أمه سيتأثر حتماً من وجهة نظرها، وفي الوقت نفسه كي تشعر الأم أنه ليس عليها التخلي تماما عن تربية أولادها حتى يتم الاهتمام بهم. وتضيف زوجة الشهيد: من السليم أن يوضع الطفل في مدرسة يتشاركها مع أطفال يعيشون حالة الفقد نفسها، لكن بظروف أفضل وأقل ضررا على صحته النفسية، مشيرة إلى أن الوضع الحالي جعل من ذوي الشهداء يخجلون من التصريح والفخر باستشهاد ذويهم، لأنهم تحولوا إلى سلعة للشحادة بدلا من أن يُقدم لهم ما يحتاجونه، على أنه تكريم وميزة لا ذل وشحادة. مدرسة تخرّج رجال دين! بدوره يقول نبيل صالح عضو مجلس الشعب: إن المجلس طالب العام الماضي وهذا العام بإحداث مدارس داخلية في المدن التي يوجد فيها أعداد كبيرة من الشهداء، ما استغله وزير الأوقاف لإحداث مدرسة في طرطوس، وهنا يجب أن نتوقع أن تُخرّج هذه المدرسة رجال دين ومفتيين وحتى «إرهابيين» على حد قوله. فلو أرادت وزارة الأوقاف أن تفعل شيئا لأبناء الشهداء كان بإمكانها التبرع بجزء من أوقافها كأرض تقام عليها مدارس لأبناء الشهداء ويتم فتح باب التبرع من الجهات الراغبة، وبعدها تقام المدرسة بالتعاون بين وزارة التربية والوزارات الأخرى المعنية. لافتاً إلى أنه لا يوجد حتى الآن أية بوادر لإنشاء مدرسة جديدة، لم تحدد أرض أو يوضع حجر أساس، ليترك أبناء الشهداء من دون مدارس وإلى أجل غير مسمى، حتى شعرنا أن الشهيد ذهب بحسابه ولم يخسره أحد سوى أمه وأولاده. ويقارن صالح الوضع الحالي مع الوضع السابق لأبناء الشهداء، عندما خدم خدمة العلم ضابط مجند مشرف في مدارس أبناء الشهداء، عامي 1986-1987، يقول كان وقتها اللواء محمد عزيز ملحم يتعامل مع الطلاب كأنهم أبنائه، والمشرفة شهيرة فلوح كذلك الأمر، وكان وضع المدارس جيدا، إلا أن ما حدث أنه ومع ازدياد أعداد الشهداء خلال الحرب لم يتم زيادة عدد المدارس، ما أدى لزيادة الضغط ووجود أبناء شهداء لا تستقبلهم المدارس، لافتاً إلى أنه سبق واقترح إنشاء وزارة للشهداء تختص بالعناية بأبناء الشهداء وذويهم وهي من شأنها أن تجد حلا لهذا الموضوع. لم نصن الأمانة الشهيد المقدس الذي لم يبخل علينا بأغلى ما يملك «الروح»، بخلنا عليه اليوم بعدم إنصاف أبنائه، بدلا من تكريمهم وتعزيزهم، فقد استودعهم عندنا أمانة ولكننا لم نصنها ولم نحافظ عليها. فعندما نتغاضى عن وضعهم وأوجاعهم، نشارك في جريمة عدم تعويضهم بالحد الأدنى عن فقدان الأب الذي استشهد لنحيا. الأيام