من ينقذ شبابنا من الغرق الادمان على المخدرات باتت قضية وطنية تتضمن رفع الصوت من الجميع
مع كل ما تمر به سورية منذ قرابة ثماني سنوات من حرب ونزوح وشهداء وجرحى، تخرج اليوم قضية ليست بالجديدة كلياً، لكن انتشارها وتفشيها بهذا الشكل الخطير بات على كل لسان. نتحدث هنا عن قضية الإتجار بالمخدرات وتعاطيها والتي بسبب تعاظمها، بدأت مؤخرا تأخذ حيزا أكبر من الاهتمام من قبل المعنيين بما يخص مسألة التعاطي من قبل طلاب المدارس والجامعيين، أي فئة المراهقين والشباب، حيث تشير التقديرات إلى أن 60% من متعاطي المخدرات هم من فئة الشباب. «الأيام» أخذت على عاتقها عملية البحث عن أسباب انتشار المخدرات بمختلف أنواعها بين فئة الشباب وطرق العلاج المتبعة اليوم، إضافة إلى آلية الردع ودَور نشر التوعية، حيث التقت ببعض الحالات المشار إليها بأسماء وهمية وأيضا بعض المختصين بهذا الشأن. «تجربتي الأولى والمدمرة» « كنت في 15 من عمري حين عرض عليّ شخص يكبرني بعشر سنوات تجربة الحشيش مقابل المال، وأنا وافقت كنوع من الفضول لا أكثر، ثم حرصت بعد ذلك على التقرب من أي متعاطٍ أو مروج للحصول على تلك المادة» ، هذا ما بدأ به الشاب (رامي) حديثه لـ «الأيام» التقيناه في مشفى ابن رشد للأمراض النفسية، شاب بعمر المراهقة لم يتجاوز السابعة عشر من عمره اعتاد إدمان الحشيش والأدوية المسكنة، قصة تسردها الآثار الواضحة لشفرة اعتادت المرور على امتداد يده اليسرى في كل مرة يحدث فيها خلاف مع أحد أفراد عائلته «فشة خلق لا أكثر» يقول مع شبح لابتسامة على شفتيه، ويضيف: «ما جعلني أطلب المساعدة والبدء بالعلاج هو تفاقم إدماني إلى درجة سرقة المال من الأهل والمعارف في سبيل الحصول على المادة المخدرة.» قصي 19(عاما) شاب آخر مدمن على أنواع مختلفة من المخدرات أهمها مسكنات الألم المركزية (حبوب دوائية تؤخذ بجرعات كبيرة من دون وصفة طبيب)، يقول بكلام تفوح منه آثار المواد المخدرة «الجرعات الزائدة من تلك الأدوية هي التي دمرتني». قصته لا تختلف كثيرا عن قصة (رامي) حين تناول قبل ثلاث سنوات وبنصيحة من صديق نصف حبة من النوع المسكن «سمعت كثيراً عن متعة التعاطي فقبلت تجربتها» يتابع: بدايةً لم أشعر بتأثير المادة على جسدي، لكن في المرة الثالثة أحسست بسعادة غامرة. وعن سبب توجهه للعلاج يقول «طلبت المجيء إلى المركز بعد محاولتي الانتحار قبل فترة، بإطلاق النار على الرأس لكنني لم أستطع فعل ذلك فصوبت المسدس إلى خاصرتي اليسرى»… مشهد الخاصرة يتحدث عن نفسه. بدورها، الشابة سهى (33 عاما)، والتي عملت سابقا في مركز للتجميل وهي اليوم أم لطفلة، مر على إدمانها ست سنوات وجاء ذلك بعد ولادة ابنتها ووفاة زوجها وخلافاتها مع عائلتها «أصبت بالأرق الشديد لفترة طويلة حتى نصحتني جارتي بتناول 5 حبات من المرخيات العضلية يوميا قبل النوم، وطبعا مقابل مبلغ بسيط من المال «300 ل.س» تقول سهى، وبعد عام من بداية التعاطي وصلت جرعتها اليومية إلى 40-50 حبة يوميا، «ما سبب لي حالة من الإغماء بعد كل جرعة والكثير من المشاكل الجسدية والنفسية منها ألم المفاصل». تضيف سهى: رفض عائلتي لي بسبب خلافات سابقة إضافة إلى إدماني جعلهم يبتعدون عني أكثر وبقيت وحيدةً، لذلك فضلت المكوث وابنتي في حديقة باب توما وبقيت هناك لمدة 6 أشهر حيث تعرضت للتحرش، أما المال كنت أحصل عليه من خلال المعونات. تتابع بتأمل «إلى أن جاء أحد إخوتي للمساعدة وهو الذي أقنعني بالمجيء إلى المشفى لتلقي العلاج.» نمط حياة! تشير الطبيبة أمل شكو اختصاصية أمراض نفسية ومديرة مشفى ابن رشد للأمراض النفسية إلى أن وجود المشفى مقابل منطقة ساخنة (جوبر) جعل الناس في خوف من المجيء إليها للعلاج، لذلك فإن نسبة المدمنين خلال السنوات السابقة وحتى الآن، لا تعكس الواقع بشكل صحيح «إلا أنه في الأشهر الأخيرة وبعد استقرار الأوضاع الأمنية، زادت القبولات في هذا المركز من المراهقين والشباب، حيث تقدر الآن نسبة الذكور بحوالي 96 % مقابل 4% من الإناث.» وتضيف أنه بالمقارنة بين عامي 2016 – 2017 فإن نسبة المتعاطين المقبولين للعلاج في المركز من فئة 12- 20 سنة زادت من 5% إلى 8%. أما الفئة التي تتراوح ما بين 20-29 سنة فانخفضت من 36% عام 2016 إلى 30% عام 2017، وعلى نفس المنوال، انخفضت النسبة في فئة 30-39 من 33% إلى 30% مقارنة بين العامين. وتؤكد شكو أن المشكلة تتمحور في أن أكثر الحالات تبدأ بأعمار صغيرة حيث تصبح نمط حياة، وغالبا ما تعاني هذه الحالات بالأساس نوعا من اضطراب في الشخصية، قبل الدخول في مرحلة الإدمان، ما يجعل الشخص لديه الاستعداد الكامل لأن يصبح مدمنا. لذلك من المهم جدا الكشف المبكر، مما يسهل العلاج قبل أن يترسخ السلوك الإدماني عند المراهق، وقبل أن يصبح إصلاحه أمرا صعبا، وبالتالي ينعكس إيجابا على ضبط انتشار هذه الظاهرة، مشيرة إلى أن الحشيش هو أكثر المواد انتشارا وذلك لقلة تكلفته وسهولة الحصول عليه، لكن تبقى الأولوية لبعض أنواع الأدوية ثم الكحول. ما بعد العلاج رغم محدودية سعة المشفى (58 سريرا)، يعد مشفى ابن رشد للأمراض النفسية التابع لمديرية صحة دمشق مركزا لعلاج مرضى الإدمان والمرضى النفسيين على حد سواء منذ عام 2012. ففي هذا المكان يتم علاج أعراض سحب المادة المخدرة الجسدية منها، والنفسية نتيجة التوقف عن التعاطي، والتي تصل لأسبوعين حيث يكون العلاج مجاني. وعن دورها ضمن عيادة الإدمان ومتابعة حالة المرضى بعد استكمالهم العلاج وخروجهم من المركز، تقول الباحثة الاجتماعية منال شريف عبدو «الفراغ أساس أي إدمان يتبعه فضول التجربة إضافة إلى عدم التواصل الأسري»، وتؤكد عبدو على أهمية دور الأهل في كيفية التعامل مع المريض بعد التخرج من خلال بعض القواعد العامة، كأن نتجنب الشك والانتقاد أو الضغط على المريض مما قد يسبب الانتكاسة. حيث توضح الباحثة أن «الإدمان هو مرض مزمن قابل للنكس عند كثير من الحالات بغض النظر عن الظروف، وعليه تعد القناعة الذاتية للمريض بضرورة الشفاء من أهم عوامل قدومه إلى المركز وطلب العلاج»، مشيرةً إلى أن قوانين المشفى تؤكد على السرية التامة المتعلقة بالمعلومات الشخصية للمريض «وبالتالي لا يمكن لأي أحد أو جهة الاطلاع عليها، وهو أيضا المطلب الأول للمريض قبل دخوله المركز». مؤكدة على ضرورة إنشاء مراكز إعادة تأهيل لمرحلة ما بعد العلاج وبأقرب وقت ممكن. وزارة الصحة وبرنامج «حمايتي» تؤكد الدكتورة ماجدة الحمصي رئيسة شعبة المخدرات في وزارة الصحة وأحد أعضاء اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات، أن المشكلة حقيقية «فالتعاطي نتيجة حتمية من نتائج خيبات الحرب الكثيرة والمدمرة كالسفر والفقد والنزوح وغيرها، مما يعطي المبرر في ممارسته بهدف تحقيق وهم الراحة المؤقتة وبالتالي عدم الإحساس بالظروف المحيطة.» وتضيف: المشكلة الأخرى في قضية الإدمان هي أن المدمنين كثيرا ما يتحولون إلى تجار صغار يبيعون الحشيش مقابل المال من أجل تأمين ما يحتاجونه من مواد مخدرة، وبالتالي يساهمون في الانتشار أكثر، مشيرة إلى أن وزارة الصحة تعمل باستمرار على ضبط صرف بعض الأدوية من قبل الصيدليات والحذر في وصفها من قبل الأطباء، «ففي حال حدوث أي إشكالية من قبل الطبيب أو الصيدلاني، المريض هو من يدفع الثمن.» وعن مشروع حمايتي تقول د.ماجدة: «هو مشروع موجه لطلاب المدارس والجامعات و مدته الزمنية خمس سنوات قابلة للتمديد، يهدف إلى تمكين وتعزيز مهارات الشباب الحياتية في المجتمع، عبر برامج وأنشطة تدريبية مختصة هدفها نشر الوعي وذلك بالتعاون مع كافة الجهات المعنية، إضافة إلى تأهيل كوادر من الطلاب تعمل خلال الحملة في المدراس والمعاهد والجامعات، وبالتالي التحفيز على العمل المشترك، كما يهدف المشروع إلى إنشاء مراكز إعادة تأهيل وهو أمر ضروري جدا بعد مرحلة العلاج.» مجلس الشعب: نتائج مهمة طُرحت أمام مجلس الشعب العام الماضي 2017 مسألة تعاطي المخدرات في المدارس من قبل النائب وليد درويش، وذلك بعد تلقيه عدة شكاوى من بعض أهالي ريف دمشق، وهنا يؤكد النائب أن وزارتي الداخلية والتربية تابعتا الموضوع «وحصلنا على نتائج مهمة وما زال العمل مستمرا.» ويشير وليد درويش إلى أهمية نشر الوعي داعيا وزارة الثقافة أن تأخذ دورها الحقيقي، ومعها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، مشيرا إلى أن مشكلة الحكومة تكمن في أنه لا يوجد تعاون داخلي بين الوزارات. «لذلك التعاون مع كل الجهات المعنية ليس بالأمر السهل»، مؤكدا أن التعاطي جرم لكنه بلاء أيضاً. عصابات «شبه منظمة» يقول رئيس محكمة الجنايات بدمشق القاضي زياد الحليبي إن «الحالات التي نتعامل معها شبه يومية، ويعود ذلك إلى طرق المروج الكثيرة لتحقيق الربح، حيث يحكم الترويج والتهريب عصابات شبه منظمة داخل القطر، منهم بعض الباعة الذين يقفون أمام المدارس.» وعن العقوبات الرادعة يقول « بحسب قانون رقم /2/ لعام 1993 تشدد المحاكم في تطبيق العقوبات للمتعاطي والمروج والمهرب، من دون التفريق بين الفئات العمرية أو حتى اختلاف ظروف القضايا (كيدية، فردية، جهل) حيث تصل العقوبة للإعدام لكل من هرّب أو صنّع أو زرع، في حين تذهب عقوبة السجن المؤبد للتاجر أو المروّج، أما عقوبة المتعاطي فتصل لثلاث سنوات»، وهنا يؤكد القاضي أن الغرامات المالية المرافقة لتلك العقوبات لا يمكن لها أن تخفف من شدة العقوبة المخصصة لكل حالة. وفيما يخص الحالات التي استوقفتنا والتي يتم فيها تخفيف الحكم إلى بضع من السنوات، فالإجابة كانت أنه لا يمكن حدوث ذلك إلا طبقا لشروط قانونية استثنائية. ويضيف «المشكلة أن الجيل الشاب لا يعرف العواقب الفعلية الناجمة عن التعاطي على مستقبله الذي يسجل فيها كـ (محكوم) في سجله العدل وبالتالي لا عمل له، أي لا مستقبل. أما إعادة الاعتبار أي شطب حكمه فيأتي بعد مرور سبع سنوات على الحكم.» ويشير الحليبي إلى أن الردع اختصاص القانون لكن التوعية مسؤولية الجميع، مؤكدا على دور وسائل الإعلام إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الوعي وكل ما يتعلق بأحكام قضايا مكافحة المخدرات، معتبرا أن القانون الموجود حاليا رادع وكاف ومستوفي الشروط، إنما ينقصه دور الإعلام الحقيقي. الإعلام… مقصّر يعد نشر التوعية حول عدد من القضايا المطروحة في المجتمع مهمة أساسية من مهام وزارة الإعلام، وهنا يؤكد عمار غزالي مدير الإعلام التنموي في وزارة الإعلام على أن العمل كبير أمام الوزارة والشكاوى كثيرة، «وعلينا أن نعترف وبكل وضوح أن الوزارة في ظل الحرب التي عاشها البلد اضطرت إلى تأجيل العمل على عدد من القضايا وعلى رأسها قضية مكافحة المخدرات بسبب حساسية ملفات أخرى، كالملف السياسي والعسكري والحربي». ويتابع «هناك العديد من الجهات التي تعمل اليوم على ملف مكافحة المخدرات من خلال لجان شُكلت على هذا الأساس، حيث أن وزارة الإعلام أحد أعضاء تلك اللجان كاللجنة الوطنية العليا لمكافحة المخدرات، والتي تترأسها وزارة الداخلية، إضافة إلى اللجنة الإعلامية، لكن يبقى الدور الأكبر يقع على عاتق وزارة الإعلام المسؤولة عن نشر التوعية، فجزء كبير من حل كثير من المسائل يتركز على عامل التوعية». ويختم: «العمل أمامنا طويل وشاق، ونحتاج إلى كثير من الوقت حتى نعيد الثقة بين وزارة الإعلام والمواطن التي فقدت في فترة من الفترات.» الأمل موجود أثناء العمل على هذا الملف توضح لنا أن المشكلة متجذرة والصعوبات كبيرة جدا، لكن الأمل المرسوم على ابتسامة الوداع لكل مريض وافق على التحدث معنا، جعل مسؤولية طرحه مهمة صعبة، خاصة أن الجهود المكثفة والموجودة على أرض الواقع ما زالت بحاجة إلى الكثير من العمل من قبل المؤسسات الرسمية، إلى جانب التركيز على أهمية الرعاية الأسرية، وبالتالي الكثير من الوقت للوصول إلى النتائج المرجوة. لكننا نبقى على ذات أمل تلك الابتسامة بأن يكون المستقبل القريب واعدا بكل ما يلزم لتجاوز هذه المشكلة التي تهم مجتمعا بأكمله ومستقبل أجياله القادمة. الايام