وصل حزب البعث مرحلة بات فيها بحاجة لبعث جديد… في سياسته… في أسلوبه… في تطبيق أهدافه… في قربه من الشارع… في اعتناق أعضائه لمبادئه بإيمان، فهل يستطيع البعث أن يرمي ثقل السلطة ورتابة الوقت الطويل؟! ليكون كما كان يوماً، حزب الناس والمتحدث بأوجاعهم وآمالهم بروحِ شابة لا بجسد كهل!!
«أحس اليوم بفجيعة فهذا ليس حزبي الذي عشت أحلامه الكبيرة» هذا العبارة التي قالها القيادي البعثي القديم «عادل نعيسة»، بحرقة كبيرة تروي أحلاماً كانت يوماً كل حياته، فالحزب العملاق الذي استطاع أن يحقق ما لم يستطيع أي حزب تحقيقه في سورية، يحتاج اليوم لمعالجة جميع نقاط الضعف أو الالتباس ليعود اسمه خال من أي تشويه في الصورة أو التطبيق.
الأجهزة بديل للحزب
ويروي نعيسة لـ «الأيام» بعضاً مما كان «عندما كنا ننتسب للبعث كنا نرى أننا أصبحنا رجالا ونحمل مسؤولية وقضية، في تلك الأيام استطاع الحزب أن يحقق شيئاً من أهدافه، عبّأ الشارع حتى وصلنا إلى الوحدة مع مصر، واستطاع إسقاط حلف بغداد بالمظاهرة وحدها».
مضيفاً: في أعراسنا كان من المعيب على البعثي أن يسمح «بالشبوش» الذي كان دارجاً في القرى، إلا للوحدة والحرية والاشتراكية، لأن أهداف البعث كانت حية في قلوبنا دائما، كان عقيدة وإيمان مطلق، قائداً للمجتمع وليس للسلطة، يعرف ماذا يريد.
في تلك الحقبة الذهبية لـ»البعث» وعلى سبيل المثال كان راتب الوزير البعثي نصف راتب الوزير العادي لأن ما يقوم به مهمة، وليس منصب حسب ما بينه نعيسة، مضيفاً: البعث دخل في محرقة السلطة، فالبعثي متهم اليوم أنه لسان للسلطة وليس للشعب، في حين كان يجب أن توضع السلطة في خدمة المجتمع وليس العكس، في أواخر الستينات قال أحدهم في جو خلافي «بقليل من السيارات والمال أستطيع أن أشكل حزباً»، وهذه الحكاية توضح سبب ما آل إليه الحزب، اليوم الأجهزة بديل للحزب، اختلفت الأمور كثيراً، وهذا الوضع جاء نتيجة تراكم الأخطاء.
تراجع الخطاب
وتعليقاً على تراجع خطاب البعث يقول عفيف دلا، عضو قيادة فرع دمشق لحزب البعث العربي الاشتراكي، لـ «الأيام»: علينا أن نميّز بين مرحلتين؛ مرحلة الخطاب الأيديولوجي ذو الصدى الكبير، نتيجة محدودية المنابر ووسائل التواصل، التي تضخ الخطاب السياسي والمفردات السياسية، والمرحلة التي نعيشها اليوم والتي يعد منسوب التداول السياسي والفكري فيها هائل وكبير وغير مضبوط، خاصة مع وجود وسائل تواصل حديثة، وعندما نشعر أن خطابنا تراجع عملياً من الممكن أن لا نكون دقيقين، فالفضاء واسع ما يوحي بانحسار بعض المشروعات السياسية، فهناك تفاوت بين مرحلة وأخرى، بما يتعلق بآليات التعبير عن المنظومة المفاهيمية والقيمية.
أما فاروق أبو الشامات (قيادي سابق في حزب البعث) فيرى أن الحزب يجدد نفسه، والقيم والمبادئ التي يؤمن بها لم تتغير ومن غير الصحيح اتهام دوره بالتراجع. مشيراً إلى أن هناك مرحلة ما يجب أن يقف فيها الحزب لإعادة النظر، فالقيم والمبادئ ثابتة لكن التطبيق قد يختلف من فترة لأخرى تبعا للظروف التي تواجه القطر.
مصلحة
الحرب التي تمر بها سورية أظهرت المعادن الحقيقية، ومن المفاجآت التي نستنكرها وجود بعثيين، تحولوا فجأة عن إيمانهم بالبعث وأهدافه، لنجدهم عند المحك في صف المسلحين والمتشددين، وهذا لم يقتصر على البعثيين طبعاً، إلا أنه من المفترض أن لا يكون بين البعثيين، فالحزب العريق كان عليه أن يعمّق إيمان أعضائه أكثر لملاقاة ظروف استثنائية مثل هذه، وهنا لا ننكر الدور الكبير لكثير من البعثيين في محاربة الإرهاب بالقول والفعل.
ويرى عضو قيادة الفرع أن معيار الحالة الوطنية والحزبية في الظروف الاستثنائية هو السلوك، مبيناً أن هناك أعدادا كبيرة تُفصل من الحزب بشكل دوري نتيجة الانقطاعات، إضافة إلى أن كل حالة خلل يمارسها أي عضو قيادي أو قاعدي، على مختلف المستويات يتم معالجتها، ومعاقبة أي مذنب أو مقصر بأقصى العقوبات الحزبية وغير الحزبية، لافتاً إلى رصد العديد من الحالات التي تم معالجتها.
ويؤكد عضو قيادة الفرع أن كل ما يقوم به الحزب من عمليات إصلاح داخلي، ليس بالضرورة أن يسوق لها عبر الإعلام كي يروج لنفسه، فهدفه يكون الإصلاح الداخلي وليس التسويق.
من جهته يرى أبو الشامات أن البعثيين مخلصون بدرجة عالية لوطنهم، إلا أن القاعدة تحمل استثناءات وهذا طبيعي والخارجون عن قيم البعث فئة قليلة، مشيراً على أن وجود بعثيين في صفوف المسلحين والمتشددين دينياً سببه أن البعض انتســــــب للحزب لمصلحـة وليس إيماناً بقيمه، كالحصول على منصب مثلا، أو أن يحموا أنفسهم في وظائفهم، وهذا غير واقعي وغير حقيقي أبداً، ومن يقصدون الحزب لمصلحة يسقطون مع الوقت ويلفظهم البعث عاجلاً أم آجلاً.
ومن جهة أخرى وللوقوف على المتسلقين الذين يرون البعث وسيلة للوصول يقول أبو الشامات: المناصب القيادية لا تشترط أن يكون من يشغلها بعثيا، فالكفاءة هي المعيار، «على سبيل المثال عندما كنت في القيادة عينت رئيس جامعة غير بعثي كان الأكثر كفاءةً، وأصبح بعدها وزيراً للتعليم العالي»، مبيناً: كان الأفضل بالنسبة لي أن يكون صاحب كفاءة وبعثي، لكن إذا كان الأكثر كفاءة غير بعثي لن نتردد في تعيينه.
قاعدة شعبية
انتقادات كثيرة توجهها الأحزاب السورية للبعث، كالاستئثار بالسلطة والسيطرة على قطاعات الدولة المختلفة وتهميش الأحزاب الأخرى والتفرد في أخذ المزايا.
يبرر ذلك عضو قيادة فرع دمشق بقوله: المجتمع يجب أن يُحصّن من خلال مشروع وطني جامع وليس عبر حزب سلطوي استئثاري، وهذا ما يقوم به البعث فهو يتحالف مع باقي الأحزاب الوطنية، ويعطيها الفرص لممارسة العمل السياسي، على الرغم من أنه ليس مضطراً لذلك، إلا أن ما قام به البعث خلال العقود الماضية وحتى اليوم هو تمتين الوحدة الوطنية، موضحاً: كتلة البعث تشكل الأغلبية لذا هو اليوم من يحكم ومن يستطيع الدخول إلى قطاعات لا تستطيع بقية الأحزاب الوصول إليها، نتيجة القاعدة الجماهيرية الكبيرة جدا له، وأي انتقادات للحزب من أحزاب أخرى متفاوتة بالنضج والمشروع، كأن يقولوا أن لديه مقرات أو امتيازات يُرد عليه بأن هذا الحزب له 50 سنة في السلطة ولا نستطيع تشبيهه بحزب وليد، من حيث مشروعه السياسي وقاعدته الشعبية وغيرها، واليوم الفضاء واسع أمام الجميع ولو أن هذه الأحزاب مؤثرة في المجتمع فعلاً لكان لها قاعدة شعبية، تستطيع دعمها كما تدعم البعث قاعدته الشعبية.
مضيفاً: الموجود من الأحزاب اليوم لم يأتِ إلا من دعم الناس ولن يستمر ويقوى إلا به، فهناك أحزاب سقطت لأن قاعدتها سقطت.
أما حول اتهام البعض للبعث بقيامه «أحياناً» بالتنسيب الإجباري للأعضاء، يقول فاروق أبو الشامات التنسيب الإجباري خطأ، ومن الممكن أن يحدث إلا أننا سنحارب هذه المظاهر التي تلغي حرية الفرد في اختيار الحزب الذي يريد، وعندما يكون البعث قائداً جيداً سينتسب الناس له بالشكل الطبيعي.
مضيفاً: عندما أسوّق أفكار الحزب بشكل جيد أيضاً، سيُقبل الناس على الانتساب، وهنا دور الأشخاص القياديين والذين يجب أن يكونوا على قدر من المسؤولية.
اعتبارات
يقول أحد أعضاء الحزب وقيادي سابق فيه، رفض ذكر اسمه لـ «لأيام»: الحزب اليوم يتبع المحسوبيات والتحالفات الداخلية في اختيار القيادات على اختلاف مستوياتها، وهذا ليس من فكر البعث ولا من قيمه، ولاحظنا خلال السنوات الأخيرة أن كثيراً من القرارات التي تتخذها القيادة في الحزب تكون جيدة، وهادفة لتطوير البعث وتجديد دمه، إلا أن القيادات الأدنى تبدأ بتفريغها من محتوها والالتفاف عليها ما يجعل الهدف من هذه القرارات غير محقق، خاصة فيما يتعلق باختيار القيادات الأدنى وما تحمله المعايير المتبعة من اعتبارات لا تمت للبعث بصلة، كالتوزيع المناطقي أو تجاهل التحصيل العلمي أو حتى الشللية الداخلية.
لا يتفق أبو الشامات مع هذا «الرفيق» في شكواه إذا يقول: إن التغييرات التي حدثت مؤخراً في قيادات الحزب، أكدت أن جميع الرفاق المندفعين استمروا في مهماتهم، ومن لم يستطيعوا المواكبة تنحوا، ومن لا يستطيع تقديم شيء ممن كلفوا مؤخراً سيسقط تلقائيا في الدورة التالية.
من جهته، يرى عفيف دلا أن ما تم إصلاحه على مستوى البنية الداخلية للحزب نقطة إيجابية تسجل للقيادة،
لافتاً إلى أن هناك تراكمات لنقاط ضعف يجب معالجتها وهي تحتاج وقتا لأنها تراكمات لمراحل زمنية طويلة.
هل يمكن للبعث أن يستعيد ألقه؟ وكيف من الممكن ذلك؟
فاروق أبو الشامات يجد أنه لإصلاح البعث «يجب الاعتماد على الرفاق الجيدين ذوي الخبرة»، فأول شيء لمكافحة الفساد حسب رأيه يكون باختيار الرجل المناسب في المكان المناسب موضحاً: عندما لا نختار بشكل صحيح ننحرف، ومن ليس في مكانه الصحيح يجب إسقاطه، وهذا يتم حتى ولو استمروا فترة سيسقطون بالمراقبة والمحاسبة.
لافتاً إلى أن مهمة القيادة الإشراف على الحزبيين واختيار الأكثر كفاءة منهم ليكون قائداً، والمعايير المتبعة يجب أن تعتمد على مدى التزامه بأهداف الحزب إضافة لأن يكون صاحب كفاءة وخبرة. ولنعيد إنعاش الحزب يجب الاهتمام بالقواعد وتثقيفها، مشيراً إلى أن في الحزب نقد ونقد ذاتي، والبعض خلال الاجتماعات الداخلية ينتقد حتى رئيس الفرع ويصل صوته، وهذا النقد من شأنه أن يصحح الأخطاء إن وجدت.
الارتقاء إلى الطموح
أما عفيف دلا فيجد أن على البعث أن يقوم بمراجعه دائمة من أجل مصلحته أولا، وأن أي حزب سياسي يحتاج إلى حالة نهضوية إصلاحية، الحزب اليوم يطالب نفسه بضرورة مراجعة مفردات خطابه، ليس على مستوى الأصول والثوابت، وإنما عصرنة مفرداته بما يتناسب مع مجتمع مفتوح أمام وسائل تواصل كبيرة، كأن يكون الخطاب مباشرا يلامس هواجس المجتمع، وضخ المفاهيم بأشكال بسيطة وسهلة وشعبوية لتصل لكل مواطن وفرد وتؤثر به لا أن تكون قوالب نظرية.
مضيفاً: بالمعنى السياسي، الحزب له المصلحة الأولى في تقوية بنيته التنظيمية وهذا هاجس أي حزب، ونحتاج في البعث اليوم أن نجدد أنفسنا بطرح شعار إصلاح شامل لكل بنى الحزب الفكرية والتنظيمية، وربما هناك حالات خلل لاتزال مستمرة لسبب أو لآخر، إلا أنها ستظهر وسيتم معالجتها، ويؤكد دلا: على البعث أن يجدد نفسه ليس من واقع الضعف إنما الارتقاء إلى الطموح.
غرفة إنعاش
يرى عادل نعيسة أن سورية يجب إدخالها اليوم غرفة العناية المشددة، ليتم انقاذها ولتكون السيادة للقانون، وحزب البعث يجب أن يبعث من جديد، بعزله عن السلطة بشكل فعلي وليس بقرار جاء وقت الحرب، وألا تكون الأجهزة فيه هي البديل عن الحزب.
مؤكداً أن معيار خروج البعث من أزمته، يكون عندما تعود المظاهرة وليس المسيرة، عندما يعود الدور للجماهير وليس للأتباع، عندما نتنبه إلى أن الكم لا يصنع حركة سياسية إنما النوعية هي من تصنعه، وعندما نصل إلى الوحدة الجدلية بين الحرية الوطنية والحرية القومية، وعندما تعود الحياة السياسية لطبيعتها يعود الحزب إلى حقيقته، فالتاريخ يُصنع من خلال أحزاب حرة وصحافه حرة.
ويشير نعيسة في الوقت نفسه إلى أن الخروج من واقع البعث اليوم، يجب أن يكون بعد الاطمئنان على سلامة سورية وبعد انتهاء الحرب، عندها نحتاج فعلاً إلى مراجعة كل ما مر به الحزب ليعود العمل السياسي عبر أحزاب حرة، والبعث أحدها.
مؤشر
هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟ وهل سيستطيع البعث تجديد نفسه خلال المرحلة المقبلة؟ سؤال تترك إجابته للأيام، إلا أن ما سبق من استعراض للآراء، من الممكن أن يعطينا مؤشراً: كبعثيين ممن التقتهم «الأيام» من جيل شاب لهما نَفَس مختلف للتغيير كلّ حسب موقعه، إلا أنهما يتفقان على ضرورته، شخصية أخرى من الجيل السابق تنكر الخطأ ولا تقبله، وشخصية من الجيل الأسبق تتغنى بأمجاد الماضي.
الأيام