إدمان الشعلة.. ظاهرة تجتاح أطفال الشوارع.. والجهات المسؤولة تتنصل من مسؤولياتها
تتفنّن الأزمة التي تعيشها البلاد في إفراز ظواهر لم نكن نسمع بها من قبل، أو أنها لم تكن في هذا الاتساع والانتشار: شم الأطفال لمادة «الشعلة» وإدمانهم عليها، أحد الظواهر المنتشرة اليوم وبكثرة في الشوارع السورية، أبطالها أطفال فقدوا الحماية الاجتماعية بكل أنواعها، بدءاً بالأسرة ومروراً بالجهات التي يقع على عاتقها مسؤولية حمايتهم، وتالياً الحد من الظاهرة، وصولاً إلى القوانين التي من المفترَض أن يتم تشريعها لمكافحة الظاهرة ومسبباتها، والتي يقف خلفها تجّار سمحت لهم خساستهم بأن يُقحموا أطفالاً في تجارتهم القذرة، دون أن يجدوا من يردعهم! على أحد أرصفة دمشق وفي ساعة الذروة وعلى مرأى من شرطة المرور، يمسك أحمد (12) سَنة بيده كيساً بداخله (الشعلة)، يشمها بهدوء ويقع على الأرض دون أن يكترث له أحد، حتى الشرطي المتواجد في المنطقة، برر عدم اكتراثه بالجسد الملقى إلى جانبه، بأن الموضوع بات يتكرر بشكل يومي، معترفاً بأن جلّ ما تفعله دوريات القسم هو «تشليح» هؤلاء الأطفال أموالهم ورميهم بالشارع من جديد. الشعلة داخل مراكز حقوق الطفل! يُدخل («س» 16 سنة) الذي يعتبر نفسه مهرباً لمادة «الشعلة» مجموعة من العبوات إلى داخل مركز الإيواء التابع لجمعية حقوق الطفل في منطقة قدسيا، ويبيعها بسعر أعلى لبقية الأطفال المتواجدين لكي يتعاطوها داخل أسرّتهم بعيداً عن أعين مشرفي «حقوق الطفل»، وذلك على الرغم من تأكيد حسين الفهد مدير الحالة في المركز أن إدخال الشعلة مستحيل كون «الرقابة» موجودة، كما أشار الفهد إلى أن عدد الأطفال المدمنين على «الشعلة» في المركز 22 طفلاً من أصل 50 في مركز الذكور، وحالة واحدة في مركز الإناث، يتم تأهيلهم نفسياً وفق نشاطات معينة فقط، وذلك لعدم توفر طاقم طبي مختص يعالج حالات الإدمان، مضيفاً، أن جميع الأطفال بإمكانهم ترك المركز باللحظة التي يختارونها كونه مركز إيواء وليس مركزاً صحياً ما يجعل أمر التعافي مستحيلاً. ردود خجولة ومسؤوليات ملقاة مكافحة ظاهرة وحماية الأطفال من الإدمان من المفترض أن تكون من مسؤوليات وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي توجهنا إليها بحثاً عن إجابات حول انتشار هذه الظاهرة بشكل كبير في شوارع دمشق وعلى مرأى الجميع، إلا أنها، ومن أسف، قامت بتحويلنا إلى معهدين (إصلاح الأحداث، والتربية الاجتماعية) اللذين أكد كلا مديريهما أن لا علاقة لهم بهذه الحالات، وأن هذه المعاهد أساساً غير مجهزة بكادر طبي مختص لعلاج الإدمان. ولم يختلف رد الشؤون الاجتماعية الخجول، الذي تعيد من خلاله تكرار أسطوانة قيامها بدورها ومهامها على أكمل وجه، عن رد وزارة الداخلية التي لم تعتبر الموضوع «ظاهرة» أساساً، مؤكدةً أنها لا تستطيع جمع هؤلاء الأطفال ولا حتى محاسبة وإغلاق المحال والأكشاك المعروفة «بـ الاسم»، في منطقة جسر الرئيس والمرجة ومكتبة في منطقة أبو رمانة، تتاجر بصحة الأطفال وتبيعهم الشعلة بسعر أعلى من سعرها الحقيقي استغلالاً لإدمانهم، وذلك بحجة أن المادة مشرعة قانونياً ولا يوجد رادع يمنعهم من بيعها حتى «أخلاقياً». «سيار» وأبناء الشمس في ظل تقصير الجهات المعنية، تقف المبادرات الفردية ذات الإمكانيات المادية واللوجستية المتواضعة كـ «مبادرة سيار» في وجه هذه الظاهرة السلبية التي كرستها سنوات الحرب، حيث أكدت لمى نحاس إحدى مؤسسات المبادرة أنه حتى الآن لا يوجد في سورية مركز مختص يستقبل هذه الحالات على الرغم من انتشارها بنسبة 80% بين الأطفال المتسولين، مشيرةً إلى أن «سيار» تسعى لجمع هؤلاء الأطفال وإعادة تأهيلهم نفسياً، عن طريق نشاطات وفعاليات تجمعهم مرتين أسبوعياً كان آخرها فعالية «أبناء الشمس»، لكن ذلك غير كافٍ. إنما الحل يكمن بتجفيف منابع البيع والتي تعد الأكشاك أولها، وسن تشريعات تمنع بيعها تحت سن 18، وإقامة مشروع يستهدف تجميع أطفال الشوارع المعرّضين للخطر والانحراف، واحتوائهم في مراكز صحية ونفسية مختصة بمعالجة الإدمان، تُنفّذ برنامج تأهيلي يشمل كافة الجوانب اللازمة لتنشئة أطفال أسوياء، بالإضافة إلى تغيير نظرة المجتمع لهم باعتبارهم ضحية الظروف والوقت، والعمل على توفير مناخ أسري سوي لهم تحت رعاية لجنة مصغرة ممثلة بمندوب عن كل وزارة مسؤولة. إدمان المواد الطيارة يؤكد مصدر طبي أن إدمان شم «الشعلة» يدخل تحت فئة إدمان «المواد الطيارة»، وأن هذه الحالات تُعالَج كما تُعالَج حالات الإدمان على المخدرات، وتتطلب رعاية فائقة وتوعية شديدة بالإضافة إلى رقابة على مدار اليوم، مشيراً إلى أن من التأثيرات التي تحدثها الشعلة بعد استنشاقها (النشوة والنشاط المؤقت الذي يستمر بحسب مدة وكمية التعرض من 15 – 45 دقيقة ثم يزول) ما يجعل الطفل يعود إلى استنشاقه مرة أخرى، كما تحدث التهابات في الجهاز التنفسي وتخرُّب في النسيج الرئوي والقصبات، بالإضافة إلى حالة من العنف والهياج والعدوانية التي من الممكن أن تؤدي إلى فقد الوعي، أو حتى الوفاة في بعض الأحيان. سوبرمان والوزير «الإدمان» مصطلح ليس ببعيد عن نهج مجتمعاتنا، خاصة في ظل الأزمة والحرب لكنه مصطلح بقمة الغرابة حين يصبح ظاهرة مرتبطة بـ اسم طفل ومادة «مشرعة» قانونياً، وسهلة المنال كـ «الشعلة»، التي بات يدمن على تعاطيها معظم أطفال التسول في شوارعنا لتخيل حياة أفضل، تصل لأن يحلم الطفل المدمن أن يكون «وزيرا» أو أي شخصية مهمة في المجتمع وغير مهمشة كما الواقع على حد قول أحد الأطفال الذين قابلناهم خلال فعاليات مبادرة «سيار». بينما يضيف الآخر أنه عندما يتعاطى «الشعلة» يشعر بقوة «سوبرمان» التي تمكّنه من التغلب على جميع من حوله. لتبقى آمال هؤلاء الأطفال بالحصول على حياة طبيعية سوية معلقة بالهواء ومرمية على كل من يعتبر نفسه مسؤولاَ. الايام