خطوات قليلة تفصل العلماء عن قراءة أفكار البشر
في الفيلم الأمريكي «pay check» ظهرت لنا تكنولوجيا مستقبلية مثيرة للاهتمام، ففي المستقبل القريب كان مايكل جينينغز (يقوم بدوره الممثل بن أفليك) مهندسًا عكسيًا؛ فهو يحلل تكنولوجيا منافسيه ويعيد إنشاءها لصالح عملائه، وغالبًا ما كان يضيف تحسينات أفضل من المواصفات الأصلية، ولحماية الملكية الفكرية لعملائه، يقوم جينينغز بمساعدة صديقه شورتي (الممثل بول جياماتي)، بعملية مسح الذاكرة لإزالة كل ما يعرفه عن العملية التي قام بها.
الأمر المثير الذي ظهر في الفيلم كان فكرة وضع أقطاب معينة على الدماغ تستطيع تحويل ذاكرة جينينغز إلى صورة مرئية على شاشة تلفاز، وهو الأمر الذي يعني قدرة العلماء في الفيلم على الوصول إلى أعمق أعماق أدمغتنا ومعرفة ذكرياتنا.
حسنًا، يبدو أن هذا الأمر في طريقه للتحقق، ويبدو أن الخطوة الأولى منه قد بدأت بالفعل؛ فقد تمكن العلماء مؤخرًا من تخليق نسخ متماثلة مثالية من وجوه الإنسان التي تم عرضها على القرود، من خلال عملية تسجيل موجات الدماغ للحيوان، في واحدة من الإنجازات الأكثر إثارة للإعجاب المتعلقة بقراءة العقل حتى الآن.
هذه النتائج تحل واحدة من أكثر المشاكل المستعصية في علم الأعصاب – كيف يتعرف الدماغ على الوجوه – ويثير احتمال أن الأفكار العميقة لدينا أصبحت متاحة على نحو متزايد للاستكشاف العلمي.
تطبيقات مذهلة في المستقبل
وتعتقد دوريس تساو، التي قادت العمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، أن هذه النتائج قد يكون لها عواقب عملية جيدة في المستقبل، وقالت: «من المستحيل أن نتمكن من وصف الوجه بالكلمات. يمكن للمرء أن يتصور التطبيقات في الطب الشرعي حيث يمكن للمرء إعادة بناء وجه المجرم من خلال تحليل النشاط الدماغي للشاهد.. هل يمكنك أن تتخيل الوجه الذي يتخيله شخص ما في هذه اللحظة؟»
وتمثل هذه النتائج المرة الأولى التي يكتسب فيها العلماء فهمًا كاملًا لواحدة من وظائف الدماغ الأكثر تطورًا، وقد وصف رودريغو كويان كيروجا، عالم الأعصاب بجامعة ليستر، والذي لم يشارك في هذه الدراسة، بأنها تعد «ثورة كاملة في علم الأعصاب». وأضاف «إنها حل للغز علمي ظل موجودًا منذ عقود، دون إمكانية لحله».
كيف يقرأ المخ أوجه الناس
إن لغز كيفية تحديد الدماغ وتمييزه للوجوه مألوف ويعود إلى ستينات القرن العشرين، عندما اقترح عالم الأعصاب الأمريكي، جيري ليتفين، أن لدى الناس خلايا عصبية فائقة تستجيب لأشياء محددة، وهي فكرة أصبحت تعرف باسم «خلايا الجدة»، والمبنية على فكرة أن لديك خلية عصبية معينة من شأنها أن تنطلق وتثار عند رؤية جدتك.
ومن الناحية العلمية البحتة، فهذه الخلايا (خلايا الجدة) هي خلايا عصبية افتراضية تمثل مفهومًا أو كائنًا معقدًا، ولكن محددًا. هذه الخلايا تنشط عندما يكون الشخص «يرى أو يسمع أو يميز على نحو معقول» كيان معين، مثل جدته، وكان هذا المصطلح قيد الاستخدام على الأقل في وقت مبكر من عام 1966 بين الموظفين والطلاب في قسم علم النفس التجريبي، في جامعة كامبريدج، بالمملكة المتحدة. وهناك مفهوم مماثل، وهو الخلايا العصبية الغنوصية، جرى اقتراحه بعد عامين من قبل جيرزي كونورسكي.
وفي الآونة الأخيرة وجد العلماء «بقع الوجه»، وهي مجموعات من الخلايا العصبية التي تستجيب تقريبًا للوجه، ولكن كيف تحدث عملية التمييز والتحديد؟ هذا ما ظل سرًا داخل الصندوق الأسود، وفي غياب دليل يدل على خلاف ذلك، واصل نموذج الجدة الاستئناف لأن يكون هو النموذج المقبول؛ لأنه يرتبط مع عملية التعرف الفجائي التي نختبرها عند رؤية وجه مألوف.
وقال كويان كيروجا: إن هذه الورقة تقتل هذه الفرضية تمامًا، فبدلًا عن ذلك، أظهرت الدراسة الجديدة أن أدمغتنا تعتمد على نوع من الرياضيات، هناك خوارزمية ما تستخدم لأداء مهمة التعرف على الوجوه. في الواقع، فقد عثرت تساو وزميلها ستيفن لو تشانغ على اكتشافهما أثناء العمل على رؤية الكمبيوتر، وكان الباحثان قد وضعا في البداية أنفسهما أمام التحدي المتمثل في التوصل إلى وسيلة لتحويل موثوق لصور الوجه إلى تمثيل عددي.
وبدأ الباحثان عملهما من خلال ترميز المعالم التي يمكن التعرف عليها على الوجه باستخدام النقاط، وخلق شيء مثل صورة من النقاط للوجه، ثم قاموا بتحويل قاعدة بيانات لآلاف الوجوه إلى إصدارات من النقاط وبحثوا عن أي من الـ 25 قياس بين هذه النقاط هي التي تسمح بإعادة بناء الوجوه في قاعدة البيانات – وهي أساسًا تحويل معلومات الشكل في الوجه إلى مصفوفة من الأرقام.
وقال تساو «لديك 25 مقبضًا، يمكنك أن تتغلغل وتصف أساسًا جميع الاختلافات في شكل الوجه».
واتضح أن القياسات الأكثر فائدة – تلك التي أعطت أفضل تغطية لمجموعة متنوعة من أشكال الوجه في قاعدة البيانات – كانت مجردة إلى حد ما. واحد من هذه الأرقام قد يعكس خليط من المعلومات حول المسافة بين العينين وارتفاع الجبين، على سبيل المثال.
ثم جاءت تساو مع مجموعة ثانية من 25 من الأرقام التي تشرح الخصائص المتبقية – نمط الجلد، ولون العين، والعضلات – بمجرد أن جرى تجريد الخواص المميزة. لم تكن تساو تتوقع المخطط الذي وضعته، «كنا نظن أننا قد التقطناها من اللون الأزرق» لتعكس ردود الخلايا العصبية، ولكن بشكل لا يصدق كان هناك رسم خرائط مباشر تقريبًا بين الاثنين عندما قام الفريق بتسجيلات الدماغ مباشرة من القشرة لاثنين من القرود.
كانت تساو قد قامت من دون قصد بتكرار تقريبًا المخطط الدقيق الذي يستخدمه دماغنا للتعرف على الوجوه فيما بدا في البداية كما لو أنه جرعة غير محدودة من الحظ السعيد.
في وقت لاحق أدركت تساو أن الطريقة كانت، رياضيًا، الطريقة الأكثر فعالية لتحويل الوجوه إلى مجموعات من الأرقام، وقالت «إذا نظرتم إلى أساليب وضع الوجوه في رؤية الكمبيوتر، فكلهم تقريبًا… يفصلون الشكل والمظهر. الأناقة الرياضية للنظام مدهشة».
قراءة الأفكار
بعد ذلك طور الباحثون خوارزمية يمكنها فك رموز الوجوه السابقة من الاستجابات العصبية المسجلة مباشرة من أدمغة قردين، وكانت التسجيلات الكهربائية المصنوعة من حوالي 100 خلية عصبية في مناطق تصحيح الوجه من كل قرد كافية لإعادة صور متطابقة تقريبًا لتلك التي كان ينظر إليها الحيوان من قبل.
وقالت تساو: «كانت التنبؤات جيدة جدًا، وكنت مذهولة»، وأضافت أنه عندما شاهدت النتائج الأولى سألت زميلها إذا ما كانوا قد ارتكبوا خطأ ما، فالنتائج كانت غير متوقعة على الإطلاق، وكشفت الدراسة، التي نشرت في مجلة «الخلية»، أيضًا سلسلة من التحولات الرياضية التي يستخدمها الدماغ للتعرف على الوجوه بغض النظر عما إذا كان الشخص ينظر إلى الوجه من الأمام أو من الجانب.
وتعتقد تساو أن النتائج يمكن أن تمهد الطريق لتحقيق إنجازات مماثلة في فهم الرمز العصبي لعمليات أكثر تعقيدًا مثل الذاكرة والخيال، وعندما سُئلت تساو: هل يمكن لهذا الاحتمال أن يزيد من إمكانية قراءة أفكار الناس أو السيطرة عليها ضد إرادتهم؟ ردت «لا أستطيع أن أرتبط بهذا الأمر حقًا. بالنسبة لي إنه لشيء رائع أن نتمكن من فهم شيء كان غامضًا جدًا».
لكن على الرغم من هذه الإجابة فإن الأمر يبدو مخيفًا بالفعل، إذا ما تطور الأمر واستطاع العلماء فهم التركيبة العصبية لأمور مثل الذاكرة والخيال، فهذا معناه أننا اكتشفنا الأسس العلمية باتجاه قراءة الأفكار في المستقبل.