العبرة السورية.. فرنسا الجديدة
الآن وقد رحلت الحكومة الفرنسية بوحلها وفسادها وسياساتها الفاشلة، على مختلف الصعد المتعلقة بالحياة اليومية للشعب الفرنسي، يتنفس المختصون بمتابعة الشأن الفرنسي الصعداء، وأكثر ما يثير الاهتمام برحيل فرانسوا هولاند وحكومته هو أنها ذهبت غير مأسوف عليها، ومن دون دمعة واحدة أو عبارة مجاملة قصيرة على جميع المستويات الداخلية والإقليمية (الأوروبية) والدولية، والغريب في القصة الفرنسية خلال السنوات الأخيرة، أن جميع اللاعبين الأساسيين من رؤساء ورؤساء وزارات ووزراء ودبلوماسيين، قد غادروا مناصبهم بطريقة مهينة، ولا أقول هنا بعضهم بل كلهم.
إنني لا أنطق في تقييمي هذا، من فهم لمسؤول سوري لما حدث بالبعد الضيق لتقييم ما حدث، وهو كارثي على فرنسا بكافة المعايير، بل إن مراجعة غير مملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والدولية للحكومات الفرنسية منذ جاك شيراك حتى الآن، تبرهن على صدق ما ذهبنا إليه، فالاقتصاد الفرنسي ليس في وضع يحسد عليه، على الرغم من سياسات التسول التي اتبعها المسؤولون الفرنسيون بذلّ على أبواب السعودية وغيرها من دول الخليج (الفارسي)، على حساب مبادئ قامت على أساسها الثورة الفرنسية في عام 1789 وبنيت على «الإخاء والعدالة والمساواة» التي أصبحت من الماضي، بالنسبة لهؤلاء المسؤولين الفرنسيين، وبدلاً من ذلك حلت مفاهيم العولمة الموغلة في التوحش، وإعادة نمطية التفكير الاستعماري إلى أبشع وجوهه، لكن تحت مفردات طنانة مثل الديمقراطية إلى فرض منظومة التنظيم الفرنسي أو الغربي، حيث لا فرق كبيراً بينهما لفرض مصلحة فرنسا وغيرها من هذه الدول، ولو كان ذلك على دولة صغيرة فقيرة في إفريقيا أو غيرها، لنهب ثرواتها على حساب الجائعين من أبناء هذه الدول، ولم تكن السياسات المتطرفة للقادة الفرنسيين للحفاظ على المصالح الفرنسية، تثير الشفقة، لولا أن وزراء خارجية فرنسا مثل آلان جوبيه ولوران فابيوس وجان مارك ايرلوت، لم تصل بهم الحماقة إلى محاولة إقامة تحالفات أوروبية جديدة، تهدد الأمن والسلم الدوليين، في مواجهة مفتعلة مع الاتحاد الروسي الذي خرج من نظام سياسي معين ودخل في نظام سياسي آخر تبنى إيديولوجيا مختلفة ابتعدت عن المواجهة في العلاقات الدولية وسياسة تغليب المصالح الجماعية للدول على حساب المصالح الضيقة والانفتاح لبناء علاقات سلمية مع كافة دول العالم.
والفضيحة التي ترقى إلى مستوى الجريمة هي الدعم المعلن وغير المعلن، الذي قدمته هذه الحكومات الفرنسية، لمجموعات إرهابية وتكفيرية ومتطرفة، أو تغاضيها عنها، وخاصة قبل أن تقوم هذه المجموعات بتوجيه ضرباتها إلى قلب فرنسا، وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على أن هذه القيادات والحكومات لا تستمع إلى دقات قلوب شعبها، بل إنها اعتمدت على تضليل الشعب الفرنسي وغيره في وسائل إعلامها التي كانت تعكس، بشكل أو بآخر، محاولات يائسة لفرض فهم منحرف وقائم على ازدواجية المعايير ودعم الإرهابيين الذين تعتبر القيادات الفرنسية أنهم يحترمون مصالحها، فتقدم لهم كل الدعم المالي والمعنوي، وتقدم لهم السلاح، وتضغط على الدول الأخرى لدفع الفواتير، كما هو الحال في علاقاتها مع السعودية، أو أنها تقوم باتهام من لا تعجبه سياساتها بالإرهاب، ومما أدهشنا هو أن مندوبي الأنظمة الفرنسية خلال السنوات الأخيرة قد قاموا بتوجيه التهديدات لدول ذات سيادة، لأنها خرجت عن عصا الطاعة الفرنسية الاستعمارية، إلا أن نعيق هؤلاء الدبلوماسيين الفرنسيين في الأمم المتحدة وغيرها «ذهب مع الريح» ولم يأبه له أحد!
لقد أسفرت الانتخابات الفرنسية الأخيرة عن سقوط مريع، ليس فقط للنظام الفرنسي السابق، بل ولمؤسساته وأحزابه، وعلى سبيل المثال، فإن هولاند وحزبه الذي لم يكن اشتراكياً قط في السنوات الأخيرة، لم يحصل في الانتخابات على أكثر من 6 في المئة من أصوات الناخبين، وأؤكد أن هذه النسبة المخجلة كانت جرس إنذار دعا هذه القيادة إلى الرحيل، إلا أنها لم تمتلك الحياد ولا الشجاعة للرحيل وتجاهلت ذلك، وخاصة أنها كانت قد سقطت أخلاقياً قبل سقوطها عملياً.
لم أكن أنوي الدخول في متاهات السياسة الفرنسية أو الأوروبية عموماً، لولا أن واجبي الشخصي يملي عليّ أن أكتب بضع كلمات أشرح فيها حقائق ما جرى من تدخل فرنسي سافر في الشؤون الداخلية لبلدي سورية، في ضوء أحكام اتفاقيات «ويستفاليا» والثورة الفرنسية، التي يبدو أن القيادة الفرنسية قد تجاهلتها أو أن النظام التعليمي الفرنسي لم يتمكن من إدخالها في أذهان قادة النظام الفرنسي، وانطلاقاً من مواقف فرنسية متطرفة عفا عليها الزمن إزاء خروج سورية من عباءة السياسة الفرنسية منذ استقلالها، ما زال هؤلاء القادة، يعتبرون أن لبنان ما انفك الابن الذي يحتاج إلى رعاية من أمه وأن فرنسا هي «الأم الحنون للبنان»، والأكثر من ذلك كما نعتقد، هذا الولاء الأعمى من قبل هؤلاء الساسة الصغار للصهيونية العالمية وربيبتها إسرائيل، ومن أجل إسرائيل ومصالحها تهون التحديات والفشل وخسارة ثقة الشعب، كما أن بروز حقيقة أن السياسة الفرنسية أصبحت تابعة خلال السنوات الأخيرة للسياسة الخارجية الأميركية فكيف لدولة تابعة أن تكسب إلى جانبها دولاً مستقلة تحترم سيادتها، وهكذا ساهم هذا النظام الفرنسي بالتعاون مع دول الخليج (الفارسي) «الديمقراطية جداً» ومع تركيا «السلطان أردوغان» في دعم كل من أراد الدمار لسورية وتغاضوا عن إرسال ما يزيد على 400 ألف إرهابي عبر حليفتهم في الناتو تركيا واتفقوا على تدمير سورية، ودخلت تركيا في تحالف غير مقدس مع فرنسا ودول أخرى لتنفيذ المهمة بما في ذلك المساهمة المباشرة وغير المباشرة أيضاً في قتل عشرات الآلاف من السوريين من دون أي وازع سياسي أو أخلاقي، وانبرت الحكومات الفرنسية لتشرعن قتل السوريين أمراً مسموحاً ومرحباً به في تناقض كبير مع مسؤولياتها كعضو دائم في مجلس الأمن، وهو منصب لا تستحقه، وفي ضوء ممارساتها، يجب إعادة النظر بذلك آجلاً أم عاجلاً.
إن التركة التي يواجهها الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون، تركة ثقيلة في كافة المجالات، وعلى الرغم من صعوبة التحديات السياسية حول الخطوات التي سيتبعها مستقبلاً في علاقاته مع الدول الأخرى، فإنه لا يجوز له أن يكرر الفشل الذي أصاب سابقيه وأن يبتعد عن «اللعنة السورية» التي أدت إلى فشل هولاند وساركوزي وشيراك قبله، كما أنه لا يجوز أن يكون لاعباً ضد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي، وألا يدخل في متاهة شعارات حقوق الإنسان لأغراض دعائية فارغة ثبت عدم نجاعتها.
إن حكومة الجمهورية العربية السورية، حكومة منتخبة من الشعب وهي قوية وتمارس دورها برضى الشعب السوري، وبعد مرور أكثر من ست سنوات أصبح من المفيد أن يقتنع الجميع أن من يزج بنفسه في لعبة «الدم والنار» التي تمارسها المجموعات الإرهابية وداعموها، فإنه سيحرق أصابعه حكماً، لقد قبلت القيادة السورية جميع المبادرات الدولية، فحضرت جنيف قبل الأستانا، وحارب جيشها البطل الإرهاب بكل صدق وإخلاص وفاعلية، وهذا ما تستحق القيادة السورية الاعتراف به من قبل المجتمع الدولي بدلاً من سياسات الإنكار والذهاب بعيداً في سياسات المصالح الضيقة أو خدمة أهداف إسرائيل في المنطقة بعيداً عن سياسة تحقيق السلام العادل والشامل فيها.
هي بضع كلمات لا نوجهها إلى الساسة الفرنسيين الجدد فحسب، بل إلى كل السياسيين الجدد في أوروبا والولايات المتحدة وأدواتهم وعملائهم: أوقفوا دعم الإرهاب وأوقفوا قتل الشعب السوري وتدمير ممتلكاته العامة والخاصة.