قدسية مفهوم التعصب في المجتمعات العربية
إن اختيار هذا العنوان ينبثق من تحليل نقدي ومنطقي لواقع المجتمعات العربية، ذاك الواقع الذي بات مهدداً بالحضور المجحف لظاهرة التعصب الفكري، وهو ما دفع بالعقل الفلسفي، من خلال إرساء خطاب عقلاني قائم على جملة من التساؤلات، لمعالجة هذه الظاهرة.
إلى أي مدى يمكن للفكر الإنساني التعايش مع الدغمائية والمعتقدات البالية والمواضيع المحرمة في حين أن التعصب يتعارض كلياً مع العقل البشري؟ ألا يشكل هذا التعايش غير المنطقي بين ما هو فكري وما هو دغمائي مجالاً فاعلاً لبلورة التناقض؟ ما هي أسباب تفشّي ظاهرة التعصب الفكري في المجتمعات العربية؟ وما هي تبعات هذه الظاهرة؟
وضمن هذا السياق، فإن أسباب التعصب تكمن في الأساس في تغيب حجة العقل ودلالات البحث والتقصي، فضلاً عن إهمال القراءة بما هي غذاء الروح والعقل، وعليه وفي ظل تفشّي هذه الظاهرة، فإن الإنسان أضحى كائناً عادياً يقتصر دوره على تحقيق رغباته الضيقة على حساب المصلحة العامة، وهو يجسد معطى الأنانية واللامبالاة.
وفي ظل غياب الوعي الذاتي وتغيب ملكة التفكير، تتجلى لنا دلالات التعصب الفكري من خلال تبني الأحكام المسبقة التي تحمل في طياتها دلالات الدغمائية والعنف، فقد أضحى العنف اللفظي والمادي الأداة الأساسية للإقناع بما هي تجسيد لمظاهر الإرهاب الفكري الذي يعبر بدوره عن الرفض الكلي للرأي المخالف ونفي حرية التعبير، وهو ما يكرس دلالة الصراع والصدام بين الأشخاص من خلال عدم قبول مبدأ الاختلاف والتباين بين البشر؛ حيث إن كل فرد يعتبر الآخر المختلف عنه كائناً مفرغاً من معاني الوعي؛ مما يؤسس لمظاهر التسلط والهيمنة والتحكم في إطار هذه العلاقة.
وستتعمق هذه العلاقة الإقصائية من خلال سعي الفكر الدغمائي لإرساء عالم منغلق على الذات، يؤسس لانفراده والوحدة ويهدف لموضعه كل ذات تتفاعل معه.
وضمن هذا التمشي، فإن التعصب يؤدي إلى تدمير كل القيم الإنسانية كالأخوة والصداقة والمشاركة والمحبة؛ ليؤسس لدلالات الاغتراب والكراهية والنقمة بما هي نفي لماهية الإنسان.
وتكمن أسباب استفحال ظاهرة الإرهاب الفكري في بروز التعصب الحزبي والديني؛ إذ إن الأحزاب السياسية تلعب دوراً رئيسياً في أدلجة الوعي الجماعي من خلال الترويج لأفكارها السياسية الضيقة، مستعملة في ذلك خطاباً مكرساً لقاعدة الانضباط الحزبي التي من خلالها سعت الأحزاب السياسية لتقسيم المجتمع حتى تتمكن من إرساء قاعدة شعبية هامة لخدمة مصالحها، فالسياسي يسعى لفرض السيطرة والتحكم في الأفراد من خلال تحديد نوعية المواضيع ومجال التفكير.
وتجدر الإشارة إلى أن تطبيق قاعدة الانضباط الحزبي داخل مجتمع معين من شأنه أن يؤسس لقطيعة مجحفة بين الأفراد، مما يؤدي لتغيب الفعل التواصلي، بما هو الضامن الوحيد لاستمرارية المجتمعات، وهو ما يؤثر سلباً على بناء الصرح الاجتماعي.
كما أن الحضور المكثف لظاهرة التعصب الديني أدى إلى نفي حرية المعتقد وحرية الضمير، وهو ما أسهم في انبثاق الصراعات الدينية والطائفية الدامية التي من شأنها أن تهدد استقرار وأمن المجتمع، وهو ما يكشف عن الدلالة الانحرافية للرمز القدسي، فقد بدت الأديان مجالاً يجذر التعصب الديني ودلالة التحجر، كما بدا هذا المقدس معمقاً لتناقض ما هو إنساني كوني وشمولي، كبلورة ظاهرة الحرب والسعي لنفي الأديان الأخرى، باعتبار أن كل دين أضحى يسعى إلى ترسيخ معاني الإطلاقية والنموذجية، بمعنى الإقرار بتفاضلية الدين الواحد.
وضمن هذا السياق، ندرك مدى تأثير التعصب على المجتمعات العربية، بما هو ترسيخ لدلالة الإقصاء والنفي تجاه الآخر المختلف، فقد أضحت هذه الظاهرة السلبية مجالاً يجذر دلالة النمذجة والنزعة التشيئية للآخر، والبحث عن معاني المماثلة وإقرار دلالة الشبيه، مما يؤدى إلى فشل استراتيجية التواصل.
وسيتجذر هذا الفشل التواصلي من خلال تعميق تمظهرات العنف التي عوضت معاني الحوار، وهو ما يمهد لتجلّي النزعة العدوانية للكائن البشري.
ففي ظل تفشي ظاهرة التعصب داخل المجتمعات العربية، بدا الفرد عاجزاً عن التفكير وعقلنة تصرفاته، وهو ما يجسد غياب الوعي، هذا الغياب غير المنطقي، باعتبار أن الإنسان هو كائن مفكر يتعارض كلياً مع طبيعته.
وعليه، فإن المجتمعات العربية مطالبة بمقاومة ظاهرة التعصب الفكري بأنواعه من خلال التحلي بالوعي الفردي، الذي يؤسس بدوره للوعي الجماعي؛ حيث يعد هذا الأخير ضامناً أساسياً لديمومة المجتمعات.
كما أن تجذير الوعي الفردي يستند في الأساس على جملة من العناصر التي تتمثل في الرغبة في التخلص من غياهب الجهل والتعصب، وكذلك السعي لإعمال العقل من خلال التساؤلات، فضلاً عن ضرورة التحلي بفكر عقلاني، ومنطقي، وموضوعي وإبداعي. ولعل إرساء هذه العناصر يعد أمراً رئيسيا؛ نظراً لدورها في ترسيخ الفعل التواصلي، الأمر الذي يجعل منها مجالاً فاعلاً لاستئصال دلالات العنف والصراع داخل المجتمعات العربية.