د.موسى الغرير يكتب عن الطبقة الوسطى في سورية..نسبتها 15% فقط والاستقرار السياسي مرهون بحالتها
صاحبة الجلالة _ د. موسى الغرير
تعد الطبقة الوسطى في أي مجتمع من المجتمعات الطبقة الأهم من حيث التأثير في عملية التنمية وفي الحراك السياسي والاجتماعي، فهي التي تمتلك مصادر التمويل، والأكثر تأثيرا في تسريع الدورة الاقتصادية، وتنوع نشاطاتها بسبب دخولها المرتفعة، وزيادة نسبة المتعلمين بين صفوفها، وفي التنمية الانسانية بسبب حساسيتها المرتفعة لجهة المطالبة بحقوقها ومواجهة ما قد تعاني من حيف او غبن، وميلها الى التحرر، والتمكين الديمقراطي .
وإذا كان من الممكن للحكومات المقايضة مع الطبقات الاجتماعية الاقل تعليما بتأمين الحد الأدنى من الدعم والمساندة والفرص التنموية لها، بهدف ارضائها وتسكين مطالبها، فإن هذه المقايضة لا تصلح دوماً مع الطبقة الوسطى التي وصل أفرادها إلى درجة متقدمة من الوعي والمعرفة تمكنها من النقد والتحليل وفرز الغث من الثمين، والحق من الباطل، وعندما تعجز الحكومات عن الاستجابة لمطالبها وقراءة مثل هذه المتغيرات التي تحدثها الطبقة الوسطى في مجتمعاتها، فإنها تفوت عليها الفرص التي تحملها تلك الطبقة ومن بينها فرصة التعليم التي تؤدي الى التنمية, وتحول التطور الذي حصل في بنية مجتمعاتها إلى نقمة قد تطال نظامها الاقتصادي والسياسي وتزعزع الاستقرار في بلدانها.
إن زيادة نسبة البطالة بين صفوف هذه الطبقة وانسداد الأفق أمامها بالانتقال الى حياة اقتصادية وسياسية أفضل، قد يؤدي إلى احداث تغيير في الدور التي تؤديه وإلى تكوين صعوبات شديدة في إمكانية الحفاظ على موقعها كطبقة وسطى، واستمرار دورها الفاعل كطبقة فعالة في مجتمعاتها. فزيادة نسبة الفقر بين صفوفها وانتقالها الى الطبقة الفقيرة بالإضافة الى أنه يعطل دورها التنموي يشوه أيضا البنية التركيبية للمجتمع. أما الاسباب التي تؤدي الى هذا التغيير فهي عديدة اقتصادية وغير اقتصادية، وإذا ما أخذنا على سبيل المثال واقع الطبقات الاجتماعية التي أدت إليها الحرب الكونية المفروضة على سورية لجهة الانزياح الذي حصل فيها والمتمثلة بزيادة نسبة الطبقة الفقيرة إلى مستويات عالية وصلت إلى أكثر من 70% من مجموع السكان مقابل تشكل طبقة وسطى بنسبة لا تتجاوز الـ15%. وبمواصفات وسمات غريبة ودخيلة على الطبقة الوسطى الحقيقية، سواء من حيث المستوى التعليمي أو تشكلها الاقتصادي وتكوينها، حيث أن عدداً من النسبة الأخيرة جاء من مستوى تعليمي متدن وجمع ثروته من اقتصاد الحرب وبطرق غير مشروعة، هذا يعني أننا أمام طبقة ليست في مجموعها بمواصفات الطبقة الوسطى المعروفة بحراكها ودورها التنموي، و لم يعد ينطبق عليها تعريف الطبقة الوسطى أو الغنية تبعاً لطبيعة ومصادر الدخل الذي استحوذ ت عليه, الأمر الذي يعني فيما يعني خسارة في الطبقة بتحولها من طبقة ممولة لعملية التنمية إلى مستنزفة لمدخراتها ولمصادر تمويلها.
وعندما يحصل مثل هذا الخلل فإن المشكلة لا تتوقف عند النسب بحد ذاتها رغم أهميتها في التعبير عن التشوه الذي يحصل في تركيبة المجتمع وفي التركيبة البنيوية للطبقات الجديدة التي تكونت, وإنما تتعداها إلى سلوكها وممارساتها في طريقة الحصول على الدخل, وفي ثقافتها وتوجهاتها والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها, وهذا ما يضع المجتمع والاقتصاد في مواجهتها أمام تحديات هائلة من أهمها :
الاختلالات الاقتصادية التي أحدثتها من خلال الثروات التي راكمتها بطرق غير مشروعة.
التشوهات التي أصابت البنية الطبقية، بعد التغيير الذي حصل في السوك والممارسة والثقافة.
هجرة أبناء الطبقة الوسطى، الطبقة المتميزة بخبراتها الاقتصادية، والتي عادة ما يعول عليها في الاستفادة من خبراتها المتراكمة بإعادة انتاج الطبقة نفسها.
يؤشر انخفاض حجم الطبقة الوسطى إلى خلل في التوازن الاجتماعي، وإلى ضعف في التكافؤ الاقتصادي وفي توزيع الموارد، إضافة إلى الانعكاس السلبي على الاستقرار السياسي والاقتصادي في المجتمع، فسلوك الانسان اليومي يؤسس دوماً على نمط حياته الاقتصادي، وعندما تكون القوى المحركة (أي الطبقة الوسطى) في مجتمع ما راكدة أو خالية من القوة الصاعدة القادرة على طرح مشروعها، أو تسيطر عليها نزعة الخلاص الفردي، فإنها تكون قد اختارت الانسحاب من الحياة المجتمعية لتنشغل بهمومها الفردية، والتشرنق حول نفسها لتصبح غير قادرة على الحركة والمبادرة سواء في التفاعل مع الحاضر او في النظرة الى المستقبل.
وكل ذلك يجعل معالجة هذا الواقع المعقد والمركب يحتاج الى جهود خاصة تتناول الفرد والمجتمع، وتقوم على عقد اجتماعي لمحاربة الفقر وتخفيض عدد الفقراء، وعمل منتج للطبقة الوسطى التي تحتاج بدون شك الى التمكين وليس الى الصدقة. أي وظائف جديدة وفرصاً للانخراط في انعاش الصناعات التحويلية، وتعزيز الصناعات الاخرى والخدمات ذات القيمة المضافة العالية ،وحسن استخدام الامكانات البشرية، والتنافسية على أساس الكفاءة والفاعلية وليس المحسوبية. إضافة الى تنمية المناطق الريفية وسياسة ائتمان داعمة للتنمية، وتوفير الموارد المالية اللازمة للبحث والتطوير.
على أن الطبقة الوسطى في مثل هذه الظروف تصنعها الحماية الاجتماعية من خلال توفير حد أدنى من الحماية الاجتماعية يضمن عدم سقوط أي فرد إلى ما دون مستوى المعيشة الأساسي، بمعنى المستوى الذي يحقق فوائد للأطفال والعاطلين عن العمل، ومعاشات تقاعدية، وتأمين الاعاقة، والرعاية الصحية الأساسية وغيرها من الاحتياجات الأخرى التي من الصعب توفيرها دوماً وفي كل الدول والمجتمعات ، إلا أنه من الممكن العمل على:
- اصلاح مقومات الاقتصاد وإرساء اقتصاد نابض بالحياة (الفرص كامنة بالأزمات) يحتضن الكفاءة والتنافس ويعيد الحياة الى حاضر ومستقبل الطبقة الوسطى.
- التشجيع على الادخار والابتعاد ما أمكن عن التنمية التي يقودها الاستهلاك، والتركيز على الاستثمار بأشكاله المختلفة في التشغيل، وزيادة نسبة المتعلمين وتحسين نوعيته وبما يكفل زيادة القيمة المضافة.
- اختيار القيادات على معايير واضحة ومحددة في التوصيف الوظيفي والاعتماد على نهج الكفاءة والاختصاص بدلا من الولاء الشخصي والمحسوبية، واعتماد مبدأ التغيير في القيادة وتبديلها بين فترة وأخرى تبعا لمستوى أدائها، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى تغيير في العقول التي تدير والأعين التي ترى وبالتالي إعداد الطبقة الوسطى القادرة على كشف ورؤية نقاط الضعف ، وتحفيزها على النقد البناء وتعديل السياسات الخاطئة.
أما السياسات التي تطبقها الحكومات فإنها ليست جميعها صائبة، وتحتاج إلى إعادة نظر وتصويب في معاييرها وتوجهاتها وإذا ما أخذنا على سبيل المثال سياسة الرواتب والأجور المعمول بها في سورية فأننا نسجل عليها أهم الملاحظات التالية :
تدن وثبات الرواتب والأجور وبمبررات غير مقنعة دوماً، حيث تتجه في التبرير إلى القول بعدم توفر الموارد الكافية لذلك، رغم أن المشكلة لا تتعلق بمجملها بعدم توفر مصادر التمويل وإنما بالخلل في تركيبة توزيع الناتج المتمثلة بزيادة نسبة الأرباح، وانخفاض نسبة الرواتب في مكوناته.
2- تواضع الفرق بين من يملك أعلى المؤهلات والخبرات وبين من لا يملك، وهذا ما أدى ويؤدي إلى قتل روح المبادرة وإلى هجرة ذوي الكفاءات إلى الخارج وإلى قتل الحافز على التعليم.
3- تحطيم الطبقة الوسطى بسبب انتقال نسبة وازنة منها إلى الطبقة الفقيرة، وتحولها من طبقة داعمة وممولة لعملية التنمية إلى عالة عليها، بعدها أصبحت تحتاج إلى الدعم والمساعدة.
وأخيراً إذا كانت مصلحة الأمم هي في التقدم والتحرر والتنمية، فإن الطبقة الوسطى هي الأكثر قدرة على القيام بهذه المهمة، فهي بالإضافة إلى أنها تشكل محور النشاط الاقتصادي والاستثمار فيه، فإنها التربة الخاصة التي تنمو فيها ثقافة المجتمع النيرة وتقاليده المتحررة، ولابد من إعادة انعاش الذاكرة الثقافية القيمية والأخلاقية، والعلاقات الاجتماعية التي تضررت بسبب الازمة والحملات الاعلامية المغرضة التي رافقتها. وعندما تتقلص مساحة انتشار الثقافة التي نريد، فإن الفراغ الذي تحدثه قد تملأه طبقة أخرى بثقافة وتقاليد مغايرة تحطم المجتمع وتهشم بنيانه كما يحصل في الأيام التي نعيش من خلال سيطرة الفكر التكفيري في أكثر من مكان من دول المنطقة.