قراءة في الثقافة الحائرة التائهة والمجتمع الحائر
الأزمة الثقافية التي يمر بها الوطن العربي بشكل عام والتشويه الممنهج الحاصل وما يجري في العالم اليوم ما هو إلا صراع ثقافي بوجوه مختلفة، فالصراع في عصرنا لم يكن يوماً صراع المال أو الاقتصاد بل إن كل ما يجري هو صراع ثقافي.
هذه المحنة الكبيرة التي تتعرض لها الثقافة العربية كانت محور اهتمام الكاتب ديب علي حسن وتسليط الضوء على انحدارها مع طرحه أفكاراً من شأنها المساهمة في إعادة قيامتها، وذلك في كتاب تحت اسم «حبر العيون»، صدر عن وزارة الثقافة والهيئة السورية للكتاب، وهو قراءة في الثقافة التائهة والمجتمع الحائر، يحتوي الكتاب على فصول متعددة موثقة بمراجع مذكورة في آخره، ومنها: في انتظار مريم، من يخصب عقمنا الثقافي، احتلال العالم نفسياً، مثقفون أم متعلمون، تراثنا المستباح، ذاكرة الرماد، اغتيال الهوية، بين الثقافة والتنوير من أين نبدأ؟.
الإهداء
إلى يمن، وعلي، ومريم، ومايا، ورشا، إلى كل من يؤمن أن سورية قنديل العالم ونوره، الحرف الأول، واللون الأول والعاصمة الأولى، وكل حبر يكتب من أجلها إذا لم يكن من حبر العيون فلا قيمة له.
إلى زملاء في الحرف والعمل والأمل، في الإعلام، والثقافة، في جبهات الحياة كلها، نؤمن معاً أن دروب الغد يرسمها دم طاهر بريء، وحبر مقدس لأنه تعمد بتراب غال من أجله يرخص كل شيء.
إلى أمهات غرسن الأبناء رياحين وقناديل على دروبنا، إلى جندي سوري يقبل تراب الوطن ويعلن وصيته:
سورية ترابك دمي ودمعي وخبز أيامي.. من أجل ثقافة تليق بنا، ونليق بها.
كلمة أولى
لم يكن الهم الثقافي الشغل الشاغل للكثير من المؤسسات حتى تلك التي تعنى بالثقافة، وتم تأسيسها لهذه الغاية، وبدت الصورة مجرد تلميع في الكثير من الأحيان، والخواء سيد الموقف حتى جاءنا غزو ثقافي فكري حاول أن يسد الفراغ بأساليب تعددت وتلونت، ورأينا آثارها على أرض الواقع، وهنا لابد لنا أن نفيض بطرح الأسئلة المرة، لماذا كان عجزنا الثقافي، ومن ذا الذي دفع بالمزيف مكان الأصيل؟
ماذا فعل المثقفون في أتون هذه الهجمة الشرسة؟ ولنا أن نسأل أيضاً: أين دور الإعلام والإعلاميين؟ إنما لتحريك واقع يجب أن يتغير، وعلينا الفعل قبل القول، ولابد من الاستثمار في رأس المال البشري قبل أي استثمار آخر.
هي طروحات وفيض من الأسئلة تحاول أن تقف على تخوم ما هو كائن تطرح بألم آلاف الاسئلة لعل ساكنا يتحرك، ولابد أن حراكاً فكرياً وثقافياً تتشكل ملامحه ويعد بالكثير، ومن واقع ارتسمت ملامحه بالنضال والبناء والمقاومة، وفي ركاب ما يعد للقادم ربما يجد القارئ ما يفيد في هذه الوقفات في ملامح الثقافة والفكر والإعلام.
القنبلة الثقافية
وتصفية استعمار العقل
ثمة مقولة عربية قديمة، يزداد حضورها قوة ودلالات «من عرف لسان قوم أمن شرهم»، ولا بأس أن نقول إنه سينتفع بعلومهم ومعارفهم وكل ما يقدمونه من علوم ومعارف في هذا العصر الذي أصبحت فيه حروب اللغات أساساً لأي غزو ثقافي وحضاري.
ولاسيما أن الاستعمار الغربي قد تخلى عن الكثير من أساليبه الفجة القديمة، ودعمها بأساليب الغزو الثقافي والفكري لتكون محطة أساسية تمهد لما يريده في هذه المنطقة أو تلك، ومن المعروف ماذا فعلت الإمبراطورية العثمانية، لقد حاولت تتريك الأمة العربية وفرضت حرفها وخطها حيناً من الزمن.
واليوم يقف العالم النامي أو الناهض بوجه هذه السياسة التي تركت آثاراً مهمة على الشعوب والبلدان ولا يمكن لأي أحد أن ينكر عقابيل هذه التركة واحتلالها العقل وتدميره ومن ثم تنفيذ سياستها التي تريدها.
واللغة هي الأساس في ذلك لأنها حاملة الفكر والمشاعر والتراث وكل المعاني والقيم، وأنك حين تحتل لغة قوم ما فإنك تسيطر على توجهاتهم الفكرية وتقودهم إلى حيث تريد.
من ينور من؟
لم تعرف الثقافة العربية مصطلحاً نال من الحظوة والاحترام اللفظي واستهلك حتى العظم كما مصطلح «التنوير»، لم نمل منه ولا مناص من العودة إليه مرات ومرات، سواء قاربناه حقيقة وواقعا أم كنا نحتفي به، نتغنى عن بعد أو قرب لا يهم، المصطلح هو قيد الاستعمال الدائم في الندوات والمؤتمرات، وفي إستراتيجيات الثقافة إن وضعت ووجدت من يهتم بها.
كل هذا لا يهم، إنما الحق والواقع يقولان: إننا اليوم أحوج ما نكون إليه واقعاً عملياً، في حياتنا وثقافتنا وتربيتنا وفكرنا وإعلامنا وتواصلنا، وفي كل مناحي الحياة، نحتاجه أكثر من الماء والهواء، واقع الحال من الماء إلى الماء، ومن كل حدب وصوب في هذه الأمة المترامية الشتات يدلل على أننا كنا نبني على رمل، لا، بل يمكن القول: إن الذي يبني على رمل فربما تبقى له بعض الذرات المتلاصقة هنا وهناك.
من هنا لا أجد غرابة البتة أن يطلق اتحاد الكتاب العرب شعاراً لدورته هو ثقافة التنوير، وفي الجعبة آلاف الأسئلة التي يمكن للمرء أن يطرحها مثل: هل كانت دورات الاتحاد السابقة خارج ثقافة التنوير؟ وماذا عن برامج المؤسسات الثقافية الأخرى وما أكثرها..؟ ولماذا أخفق المنورون العرب فيما سبق، بل: لماذا كان النصف الأول من القرن العشرين أكثر بهاء وحضوراً في ثقافة التنوير وكان كتّابه ومفكروه ومبدعوه هم الأكثر فاعلية؟
النص الفائق وموت المؤلف
ما كان بالأمس أمراً غير مستساغ، وغير مقبولٍ في الأدب والنقد والفكر، غدا اليوم أمراً واقعاً، ولم يعد ينظر إليه على أنه من الموبقات أو الخطايا، لا، بل صار أمراً حقيقياً وواقعاً، والنص المحمي المسيج بحقوق المبدع أو المؤلف صار نصاً مفتوحاً، عابراً لكل الحدود والاتجاهات، فالعرب قديماً كانوا إذا وقعوا على توارد فكرة بين شاعر وآخر، أي الفكرة تكون عند هذا وذاك، وصلوا فيما بعد إلى توصيف الأمر بالسرقة الأدبية، ولهم في ذلك الكثير من الكتب والدراسات.
وثمة من وقف وقته وجهده لتتبع ما سموه انتحالاً، إذ يعمد الشاعر إلى أخذ فكرة من آخر ويعيد صياغتها، وقد عابوا الأمر على شعراء كثيرين، ومع تطور الأمر والتلاقح الثقافي والفكري بين الأمم والشعوب نشأ ما سمي الأدب المقارن الذي تتبع الخطوط والقواسم المشتركة بين الآداب العالمية، ومدى تلاقحها واستلهامها، وهنا يمكن الحديث عن رسالة الغفران للمعري وكيف تم استلهامها من دانتي كما يقول الدارسون، على حين يرى آخرون أن الأمر لا يعدو كونه تماثلاً فكرياً وإبداعياً، وفي هذا الإطار يشار إلى أن بعض الدراسات ذهب إلى الادعاء أن سرفانتس استمد حكايته الأشهر: دون كيشوت من تاريخ المغرب العربي وتراثه الشعبي.