بقايا تقاليد الاستهلاك في زمن البحبوحة تلحّ على الأسر السورية.. خبراء يقترحون بدائل محلية لسلع غير ضرورية تفرض نفسها عنوة
عندما نتحدث عن الأنماط الاستهلاكية في سورية منذ زمن ما قبل الأزمة، نجد أن هناك عادات استهلاكية سيطرت على حياة المواطن السوري على مستويات عدة، منها الوجبات السريعة، والمشروبات في مختلف أنوعها، أضف لذلك عمليات التجميل أو التبرج، والتسوق الزائد، والاعتماد الزائد على المنتجات المستوردة، وبالرغم من تغير الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية بسبب ظروف الحرب على سورية والحصار، إلّا أنّ العديد من المواطنين لا يزالوا يتمسكون بالأنماط الاستهلاكية التي اعتادوها، ولم يستطيعوا الاستغناء عنها أو حتى تبديلها بما يتماشى مع الوضع الحالي.
إلّا أنه وفي حقيقة الأمر تتوافر بعض البدائل، يمكن أن يلجأ إليها المواطن سواء كانت طبيعية أو محلية الصنع.
فمثلاً وعلى حد قول السيدة أم رياض ذات ٦٨ عاماً لـ”تشرين”: كنا قديماً نعيش من خيرات الطبيعة فينمو الطفل بالشكل السليم، وذلك قبل ظهور الحليب المجفف والمستورد، فبالإضافة لحليب الأم كانت النساء تعتمد في تغذية الأطفال، على حليب الأبقار المخفف بالماء أو الأرز المطحون والمسلوق وهو بمثابة وجبة، والكعك من دون السمسم والبسكويت السادة مع الشاي المحلى بالسكر أو الحليب البقري، وكان بديل للسيريلاك، ناهيك عن قطعة الراحة التي كانت توضع في قطعة شاش بيضاء نظيفة ومعقمة تعطى للطفل وهي بديلة “اللهاية”.
أما مريم حنا ذات ال 44 سنة وهي ربة منزل, تشتري الأكياس الخاصة بالقمامة والتي يبلغ سعر الكيلو منها 25000 , فتؤكد أنها لا تحبذ استبدالها بأكياس الخضار بعد إفراغها من الفاكهة وغيرها لإعادة استخدامها مرة أخرى، وبرغم من إدراكها أنها تهدر ثمن لأكياس، ومع توفر البديل إلا أنها تفضل استخدام الأكياس الخاصة بالقمامة فهي أكثر راحة من وجهة نظرها.
وفي حالة أخيرة تؤكد لجين محمد 29 عاماً، أن عادة التسوق لم تستطع التخلي عنها، بالرغم من الأسعار العالية ألا أنها منفسها الوحيد، وتضيف: إن النساء يرغبن بتبضع ومواكبة الموضة ولو بأبسط السبل، فالتسوق تعشقه معظم النساء.
كما نجد أن المواطن السوري يرفض التخلي عن الكثير من العادات الاستهلاكية، وعلى حد تعبير الخبير الاجتماعي رائد عز الدين في تصريحه لـ”تشرين”, يعود السبب لرغبته في الحفاظ على بعض ما تبقى من اللذة في حياته في ظل الظروف والاقتصادية الخانقة، وبالأخص محدودي الدخل، حيث يعتقد البعض منهم أن هذه الأنماط الاستهلاكية توافر لهم متعة قصيرة الأجل وتشعرهم بالراحة، وبالرغم من إدراكهم أن تلك اللذة زائفة على حد تعبيره، إلّا أنهم لا يستطيعون التخلي عنها.
تراث ثقافي
يوضح عز الدين أن تمسك الأفراد بالعادات المتوارثة، رغم غلاء المنتجات المحلية التي أضحت لا تناسب ذوي الدخل المحدود، يرجع إلى الاعتزاز بالتراث الثقافي والهوية الوطنية، وتقدير الجودة والصنعة المحلية، والرغبة في الحفاظ على التجارة المحلية ودعم المنتجين المحليين.
خبير: بدائل يمكن أن يلجأ إليها المواطن سواء كانت طبيعية أو محلية الصنع
وفي المقابل يجب أن يفكر الناس في العواقب السلبية للأنماط الاستهلاكية على المدى الطويل فالاعتماد المفرط على المنتجات المستوردة يمكن أن يؤدي إلى تدهور الاقتصاد المحلي وفقدان فرص العمل المحلية، ويجب ألا ننسى أن تجميل الوجبات والاعتماد على الأطعمة غير الصحية، يمكن أن يسبب مشاكل صحية خطرة في المستقبل حسب رأيه.
أغذية الاطفال
تتوجه كثير من الأسر (ما قبل الأزمة حتى وقتنا الحالي) نحو الأغذية المستوردة من سيريلاك والحليب “البودرة” والنوتيلا، حسب رأي عز الدين، ليؤكد أنه سابقاً كانت في متناول الأغلبية، وتناسب مدخولهم الشهري، أما في وقتنا الحالي أصبحت حكراً على من يملك ثمنها الباهظ، الذي لا يلائم أصحاب الدخل المحدود، وهذا يعود إلى عناية السوريين بتغذية أطفالهم، إلا أنه قديماً ووفق رؤية الخبير كانت الأسر تعتمد على تربية الدواجن والماشية وزراعة الحدائق الزراعية لتوفير غذاء صحي ومستدام لأفراد الأسرة، بما في ذلك الأطفال وكانت الزراعة وتربية الماشية تمثل وسيلة لتوفير اللحوم والحليب الطازج، ما يسهم في تغذية الأطفال بشكل صحي واقتصادي.
إلا أن البعض مازال يفضل الأغذية المستوردة من السيريلاك والحليب المجفف والنوتيلا، رغم أن هناك بدائل، يمكن أن تحل محل الأغذية المستوردة، سواء كانت طبيعية أو محلية الصنع.
صناعات محلية
تتمثل بعض الصناعات المحلية بالحلويات والمربيات الشهيرة كدبس العنب ومربى المشمش أو غيرها من المربيات التي فاضت بها خيرات سورية، والتي امتدت بشهرتها لتصل للبلدان المجاورة وفق رؤية عز الدين، والتي يمكن أن تكون بديلة عن المعلبات والأغذية المستوردة، وهي تتميز بأنها خالية من المواد الحافظة على عكس
المستوردة، المليئة بالزيوت والمواد المهدرجة، وهي خطرة ومضرة بالصحة، بالرغم من مذاقها اللذيذ والمحبب عند الأطفال، وبالتالي فهي تسبب السمنة وأمراض أخرى في حال الإكثار منها.
من جهته رأى الخبير التنموي أكرم عفيف أن بعض من المنتجات المستوردة غير متوافرة، بسبب تكلفتها العالية وبالتالي خرجت من عملية الاستهلاك.
على الرغم من إدراك الأشخاص أنّ الأنماط الاستهلاكية ” نافرة” إلّا أنهم لا يستطيعون التخلي عنها
في حين هناك منتجات محلية متوافرة ومنها الليمون والبرتقال والتين والبندورة وغيرها من الخضروات والفواكه، اليوم ونتيجة زيادة التكاليف وقلة القدرة الشرائية عند الناس انخفض الإنتاج وأصبح بعضها غير متاح، لكن يمكن إعادتها سريعاً عندما يجد الفلاح أنه يُقدم على شيء رابح، وعندما يكون المنتج السوري رابح يقدم كل شيء من المنتجات المحلية على حد تعبيره.
وأن المنتجات المحلية أصبحت غير متوافرة نتيجة الخسائر التي يحققها المنتجون، وعلى سبيل المثال مادتي الفروج والبيض قد خرجتا من موائد معظم الأسر، بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج والأسعار، ما أخرج أغلبية المنتجين من السوق.
عادات التجميل
في حال تطرّقنا للتجميل و عيادات التجميل، وبالرغم من التكاليف الباهظة حسب رأي الخبير عز الدين, ما بين مواد تجميل أو معاينات المختصين أو عمليات التجميل على حد سواء، إلا أنها من الأنماط الاستهلاكية التي لم تتخلى عنها بعض النساء، بل على العكس أخذت تزداد أكثر من السابق، وحسب رأيه, وبرغم من المنظر الغريب الذي نشهده اليوم، من نسخ “الفوتوكبي المتحركة” للنساء من جراء عمليات التجميل مثل تصغير الأنف او نفخ الشفاه إلى رفع الجفون بحثاً عن الجمال.
لها بدائل
من جهته يرى عفيف أن هناك أسر لم تتوقف عن شراء المشروبات الغازية والتدخين والمتة والقهوة والشاي، بالرغم من تكلفتها الكبيرة بالنسبة للبعض، ولا سيما أن الكيلو منها، أضحى يعادل راتب شهر تقاعدي، فكيلو الشاي بلغ كحد وسط ١٦٠٠٠٠ في حين أن كيلو القهوة بلغ 1٠٠٠٠٠، عدا عن المتة التي ترافق يومنا، كنوع من تقطيع وتمضية الوقت، ليس مرة واحدة وإنما مرات عدة في اليوم، كيف لا وهي تعدّ كواجب للضيافة، ويرافقها خليلها السكر وقطع من البيتفور، ومن هنا يجب أن يبدأ المواطن بالتغيير، تماشياً مع الوضع الحالي، مؤكداً أنه لا يدعو لإلغاء المشروبات، وإنما التخفيف منها ومن فواتيرها.
وتحدث عفيف عن القهوة التي يطلق عليها اسم “القهوة العربية”، مبيناً أنها ليست عربية المنشأ، فهي أساساً يتم استيرادها من البرازيل، أما حبات الهيل فهي هندية، والفنجان صيني، وركوة القهوة تركية، وبالتالي فكلها مستوردة، كذلك التدخين الذي يستنزف الكثير من ميزانية المواطن السوري كعادة استهلاكية اليوم، أضف للمشروبات الروحية وعلى الرغم من قلتها في مجتمعنا، إلا أنها أيضاً من العادات الاستهلاكية التي تستنزف الطاقة المادية.
مبادرة
وأشار عفيف إلى مبادرة زراعة بذور الكركديه التي أسهم بإطلاقها منذ أشهر، والتي انتشرت بشكل كبير مؤخراً، حيث تم توزيع ٥٠٠٠ حصة من البذور، وذهبت بعض الحصص إلى الشمال السوري ولبنان والعراق، كما أكد أنه سيتم توزيع البذور السنة القادمة لجميع أنحاء سورية ويمكن ان تصدر إلى الدول المجاورة، وهذا بهدف التأكيد على أنه يمكن أن نستعيض بالزهورات “الكركدية” المنتجة محلياً، بدلاً من المشروبات المستوردة التي اعتدناها، لافتاً إلى أنه لا مشكلة في التخلي بشكل جزئي أو كامل عن العادات الاستهلاكية المستوردة.
إدارة الوفرة
وأوضح عفيف أنه من الطبيعي أن تمارس أي أسرة سورية حياتها بالشكل الطبيعي، من مأكل ومشرب وغيره إلا أنه يجب أن يكون منتج محلي سوري، ومن عادات السوريين القيام بواجب الضيافة، ولكن بما يتناسب مع الوضع الحالي، وأن تكون بشكل مدروس فالفريق الحكومي يعمل على إدارة القلة بينما سورية تدار بالوفرة لأنها بلد الإنتاج والخير الوفير.
العولمة
وأكد عفيف أن هناك انحراف في العادات عبر التاريخ نتيجة العولمة، و العادات الغربية، فتجد عند زيارتك لأحد المطاعم الراقية، الأطباق والحلويات الدخيلة والغريبة تتربع على الطاولات المحلية، رغم جمال شكلها وألوانها الرائعة، إلا أنها تفتقد القيمة الغذائية والنكهة العربية التي تميزت بها، المأكولات السورية على مر الزمن، وهنا تبرز المشكلة، فنجد أن العادات الاستهلاكية، و التكنولوجيا والعولمة قد أثرت في مجتمعنا من دون سابق إنذار.
الشباب والنساء
تعدّ شريحة الشباب والنساء أساس عملية أي تغيير وفق رؤية عفيف، لكونهم الشريحة الأوسع والأكبر و لقدرتهم على التأثير في الأسرة فبقدر قوة التأثير تكون قوة التغيير في العادات الاستهلاكية وتحويلها نحو العادات الإيجابية، وحالياً نعمل على تشجيع الزراعة حول المنازل، حتى لو متراً مربعاً، لبعض الخضروات مثل الفجل البقدونس والخس وغيره كنوع من الاكتفاء الذاتي.
وختم عفيف: كل بلد يعتبر أنّ منتجه المحلي هو جزء من هويته الوطنية، ويتمثل بعضها بالرسم والأشغال والميداليات والنحت للتماثيل الصغيرة، وأنه يجب أن نعمل عليه، فثقافة السوريين هي الأرقى والأجمل، لأنهم أناس عظماء والمفروض أن تُدار مواردهم بشكل أذكى، وأن نعمل على المنتج المحلي أسوة بالآخرين.
حل المشكلة
أما عن حل المشكلة حسب رأي عفيف، يجب أن تكون بالتوعية والتثقيف الاجتماعي من خلال ندوات، وأن تعمل وسائل الإعلام على توجيه الوعي نحو أهمية تغيير هذه الأنماط الاستهلاكية، كما يجب تشجيع الأفراد على اتخاذ خيارات استهلاكية صحية ومُستدامة.
وأما عن أهمية دعم المنتجات المحلية، وتشجيع المزيد من الناس على الاستثمار المحلي، يكون ذلك وفق عفيف عن طريق حملات إعلامية وتوعوية، وإبراز الرؤية الإيجابية لهذه العادات والخبرات من خلال تقديم تسهيلات ومزايا للمشاريع الصغيرة والمتوسطة تدعم الصناعات المحلية، وتعزيز التعاون بين القطاع العام والخاص لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز الاقتصاد المحلي، ما يولّد فرص عمل جديدة ويقلل من الاعتماد على المنتجات المستوردة، وإحياء الاقتصاد المحلي، كما يجب على الأسر ترتيب أولوياتها حسب الأهم.
تشرين