زياد غصن يكتب.. التغريبة السورية في مائة عام ونيف: أربع موجات من الهجرة الخارجية
أثر لم يتردد ذلك الشاب الطويل، والذي لم يتجاوز عمره الخامسة والعشرين عاماً، في حسم خياره وتكرار ما فعله كثيرون قبله. سافر إلى لبنان ومنه إلى تركيا حيث كان بانتظاره قارب يعج باللاجئين الراغبين بالوصول إلى شواطئ اليونان، ليتجهوا منها وسيراً على الأقدام أو بشاحنات الموت نحو مبتغاهم. اختار محمد اللجوء في السويد، ووصلها بالفعل بعد رحلة كاد الموت يتمكن منه في كثير من محطاتها.
قصة لجوء محمد في سردية فصول معاناتها لا تتشابه فقط مع معاناة أكثر من 6.7 ملايين سوري يقال إنهم أصبحوا اليوم مهاجرين ولاجئين أو طالبي لجوء في دول عدة، وإنما تتشابه في كونها تكرار لهجرات سابقة قام بها آباء وأجداد من هاجروا اليوم. فالشاب محمد الذي تنحدر أصوله من محافظة ريف دمشق كان أجداده الأوائل قد ركبوا البحر مع بداية القرن الماضي وذهبوا نحو القارة الأمريكية بحثاً عن الثروة والعمل، وبعد عدة سنوات منهم من عاد تحت ضغط رغبة الأهل، ومن هم بقي هناك ليؤسسوا عائلات وأعمال.
في دراسة بحثية هامة غير منشورة أنجزت في العام 2008 بالتعاون بين الحكومة السورية ومنظمة الهجرة الدولية، وحملت عنوان ” الهجرة الخارجية السورية”، صنف الباحث محمد جمال باروت الهجرة الخارجية السورية الحديثة الكبرى في ثلاث موجات: الأولى و”تمت في سياق الهجرة الدولية الثالثة في العالم خلال الفترة الممتدة بين عامي 1880 و1914، وكانت دوافعها اقتصادية بدرجة أساسية لكنها اختلطت بعوامل سياسية وثقافية أخرى واتسمت بتركز اتجاهها صوب الأمريكيتين وهاجر خلالها حوالي 500 ألف مهاجر سوري شكلوا ما يزيد قليلاً عن ربع سكان سورية آنذاك، ومثلوا أساس نشوء ما اصطلح على تسميته بـ”المغترب” أو “المهجر” السوري”.
أما الموجة الثانية فقد جاءت بعد عدة عقود، وتحديداً في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وكانت وجهة المهاجرين فيها في دول الخليج العربي وليبيا والجزائر، “إذ ارتفع معدل نمو الهجرة الخارجية السورية من 3.8 بالألف سنوياً خلال الفترة الممتدة بين عامي 1960 و1970 إلى 10.8 بالألف خلال الفترة الواقعة بين عامي 1970-1981، أي أنه ارتفع نحو ثلاثة أمثال ما كان عليه، وهو ما خفض النمو السكاني في سوريا بنحو 1.1%. إلا أن هذه الهجرة تراجعت إلى حوالي 3.6 بالألف خلال الفترة الممتدة من 1981 وحتى 1994 أي إلى حوالي ثلث ما كانت عليه في السبعينات بسبب سياسات إحلال العمالة الآسيوية التي لجأت إليها بلدان مجلس التعاون الخليجي”.
الموجة الثالثة من هجرة السوريين كان لها خصوصية معينة، وتمثلت “بخصائص الهجرة الدائرية المؤقتة، التي تمكن العامل المهاجر من التردد على أسرته بشكل منتظم بسبب قصر المسافة وسهولة الانتقال، واتجهت في الدرجة الأولى إلى العمل في لبنان والأردن وسد جزء من فراغ العمالة في دول مجلس التعاون الخليجي” بعد حرب الخليج الثانية.
وتخلص الدراسة المذكورة إلى أنه بمقاربة البيانات الإحصائية المتعلقة بعدد المهاجرين من الدول العربية المتوسطية، فإن سوريا تحتل المرتبة الثانية بعد لبنان في إرسال الهجرة الخارجية، ومعدل الهجرة فيها وفي لبنان يزيد عن معدل الهجرة الذي سجلته جميع الدول المتوسطية العربية، والذي هو أقل من 10% من عدد السكان في كل دولة”.
*الموجة الأقسى
مع دخول سوريا في أتون حرب كارثية منتصف العام 2011 بدأت ملامح ما يمكن تسميتها بالموجة الرابعة من الهجرة الخارجية، ولتترسخ أكثر بعد العام 2013، وبحسب ما يشير المركز السوري لبحوث السياسات فإن موجة النزوح القسري للسوريين خلال العقد الأول يمكن تصنيفها إلى سبع مراحل: المرحلة الأولى وكانت مع بداية الحرب، وفيها تم افتتاح أول مخيم لللاجئين في دول الجوار، الثانية كانت في العام 2012 حيث توسعت رقعة المعارك العسكرية وسيطرة المجموعات المسلحة، أما في العام التالي 2013، والذي شهد المرحلة الثالثة، فقد كان لبروز مجموعات وأطراف غير دولاتية وسيطرتها على بعض المناطق ومحاولة بعض الشباب التهرب من الخدمة العسكرية أثره في تزايد أعداد المهاجرين واللاجئين. ومع صعود تنظيم “داعش” في العام 2014 دخلت الهجرة والنزوح الخارجي المرحلة الرابعة ليصل عدد اللاجئين في الخارج إلى حوالي 3 ملايين لاجئ.
في العام 2015، والذي شكل المرحلة الخامسة، زادت بوضوح حركة اللجوء إلى أوروبا، وذلك على خلفية توسع رقعة المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم “داعش” واشتداد المعارك بين المجموعات المسلحة والجيش السوري. أما المرحلة السادسة، والتي بدأت مع العام 2016 ووصل فيها عدد اللاجئين المسجلين لحوالي 4.3 ملايين لاجئ، فإن أبرز ما ميزها هو إغلاق الدول الأوروبية لحدودها وتالياً ازدهار الهجرة غير الآمنة عبر مياه البحر المتوسطة. ونصل إلى المرحلة السابعة، والتي قد لا تكون الأخيرة، وشملت الفترة الممتدة بين عامي 2018 و2020 وفيها تسببت الحملات العسكرية التركية بمزيد من موجات النزوح الداخلي والخارجي. وتكشف بيانات تقرير صادر مؤخراً عن الأمم المتحدة أنه بعد مرور عقد كامل على الحرب السورية أصبح هناك ما يقرب من 6.7 نازح ولاجئ وطالب لجوء في أكثر من 130 دولة، وهو ما يشكل ما نسبته 29% من عدد سكان البلاد على مشارف الحرب، والبالغ آنذاك حوالي 23 مليون شخص.
ولا يُستبعد أن يؤدي استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية إلى زيادة أعداد السوريين الراغبين بالهجرة واللجوء، سواء باتجاه الدول المجاورة كتركيا مثلاً أو الدول الأوروبية والأمريكية والتي يرسل فيها اللاجئون السوريون المقيمون فيها إشارات ايجابية لأقاربهم للالتحاق بهم.
نزيف وأموال
إلى جانب الآثار الاجتماعية والديمغرافية الناجمة عن الهجرة الخارجية بمختلف مسمياتها وأسبابها ودوافعها، فإن هناك أثرين اقتصاديين بالغي الأهمية، الأول ايجابي ويتمثل في حجم التحولات المالية الخارجية المنظورة وغير المنظورة التي تتدفق على البلاد، وهي متباينة بين عام وآخر تبعاً للظروف السياسية والاقتصادية، والأثر الثاني سلبي ويتعلق بالنزيف الذي تتعرض له البلاد جراء هجرة الكفاءات والأدمغة الوطنية.
ويمكن القول إن تفاقم الأثرين السابق ذكرهما كان واضحاً خلال الموجة الرابعة من الهجرة الخارجية، والتي تمت خلال عقد الحرب، فالتحويلات المالية التي شكلت مصدر دخل للكثير من العائلات السورية خلال السنوات الأولى من عمر الحرب تراجع حجمها مع تزايد القيود الغربية والأمريكية على عملية التحويل منذ العام 2019، وكذلك انعكاسات الأزمة الاقتصادية اللبنانية. وبحسب مسح الأمن الغذائي الذي جرى بنهاية العام 2020 فإن 4.5% فقط من الأسر المبحوثة أكدت حصولها على دعم مالي خارجي من أحد أفرادها المقيمين خارجاً. وهو بنظر كثيرين أحد الأسباب التي تحول من دون دخول أسر كثيرة في دائرة الجوع. لكن في ظل غياب أي تقديرات إحصائية رسمية، فإن جميع الأرقام والبيانات المتعلقة بحجم التحويلات المالية الخارجية تبقى غير دقيقة.
الخسارة الأخطر للمجتمع السوري كانت في الكفاءات والخبرات ورؤوس الأموال التي خسرها بفعل موجات الهجرة المتلاحقة منذ العام 2011، ويتضح حجم تلك الخسارة مع الأرقام المعلنة خارجياً المتعلقة بعدد الأطباء والمهندسين والعمال المهارة التي تمكنت ألمانيا والدول الاسكندنافية من استقطابهم، وعدد الشركات والمعامل التي أسسها سوريون في العديد من دول المنطقة في تركيا، الأردن، لبنان، مصر، السودان، والإمارات وغيرها. وإذا كانت تقديرات ما قبل الحرب تتحدث عن أن نسبة المهاجرين السوريين ممن هم في المستوى التعليمي الثالث (الجامعي وما فوق) إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية شكلت 23.11% في العام 2000 من إجمالي عدد المهاجرين السوريين حتى ذلك العام، فإن النسبة يتوقع أن تكون قد زادت خلال سنوات الحرب لاعتبارات عدة. وتكفي الإشارة هنا إلى أن عدد الأطباء السوريين العاملين في ألمانيا وصل مؤخراً إلى حوالي 4970 طبيباً بنسبة 6.8% من إجمالي عدد الأطباء الأجانب العاملين في ألمانيا، وهذا هو حال مهن كثيرة بات يشكل السوريون في دول الاغتراب عمودها الفقري.
اثر برس