بداية القابضة

رئيس التحرير : عبد الفتاح العوض

رئيس مجلس الإدارة : د. صباح هاشم

من نحن اتصل بنا
أجنحة الشام

فتيات المقاهي بين ظروف معيشية صعبة ونظرة مجتمع لا يرحم

السبت 20-05-2017 - نشر 8 سنة - 5839 قراءة

صاحبة الجلالة _ هيا عيسى عبد الله

الدخان يملأ الأجواء ورائحة "المعسل" تتعشق بكل زوايا المكان وكل يقضي وقته ويشغل نفسه إلى جانب "أركيلته" بالشيء الذي يجده ممتعا.. بهذا المنظر العام اخترقت صفوف الطاولات في ذلك المقهى الدمشقي الذي قصدته لـ "نية في نفس يعقوب" باحثة عن زاوية متطرفة أستطيع من خلالها رصد أكبر عدد من رواد المقهى.. لأجد ضالتي في النهاية ويستقر رحالي على طاولة صغيرة منفردة في صدر المكان.

على غرار " الكافيهات" في فنادق الخمس نجوم والمناطق الراقية التي تعودنا على عمل النساء فيها.. أصبح ليس غريباً خلال سنوات الحرب الماضية رؤية شابات وهن يعملن في المقاهي الشعبية التي يفتح بعضها حتى ساعة متأخرة ، يقدمن الأركيلة ومتطلباتها والمشروبات والعصائر للزبائن الذين بمعظمهم من الرجال والشباب يدفعهن لذلك السعي للحصول على مصدر رزق يغطي تكاليف المعيشة التي أصبحت تفوق الخيال في وقت تندر فيه فرص العمل بسبب الأزمة وتداعياتها، وذلك في مجتمع قد تتقبل عقلية بعضه الأمر فيما على الأغلب قد ترفضه الشريحة الأوسع منه ولاسيما بعد التصريح الشهير للقاضي الشرعي الأول بدمشق محمود المعراوي حول رفضه لعمل المرأة في المقاهي والمطاعم واعتباره مظهراً لا يليق بالمجتمع السوري.

جلست على تلك الطاولة المنزوية بآخر المقهى وإذ بفتاة جميلة في العشرينيات من عمرها تقترب مني مرحبة "أهلا وسهلا...شو بتحبي تاخدي" ..فطلبت تضامنا مع الجميع أركيلة ومشروب ساخن ..وبكل هدوء انسحبت لتعود بعد قليل ومعها ما طلبت لتوزعه على الطاولة مع ابتسامة توحي بالسعادة والثقة بالنفس والرضى ..وكوني أنثى مثلها سهل علي ذلك أن اطرح عليها سؤالا مفاده "هل أنت مرتاحة بعملك هذا" لتجيب " أي والحمد الله" مستعجلة لتعود لباقي طلبات الزبائن .

تركت للعيون مداها حيث رصدتا على الطاولة التي أمامي رجلان يلعبان "طاولة الزهر" وعيونهما معلقة على ذلك النرد الذي يُرمى بقعر الطاولة عله يأتي بحظ يرسم السعادة على وجهيهما ..فيما انشغل الشابان اللذان يجلسان على يميني بالحديث عن جمال "الكرسونة" كما سمياها وتقييمه ، حيث عبر أحدهما عن اعجابه بجمالها ليأتي رد الآخر " اللي قبلها كانت أحلى ..وضرب أكتر منها"

والملفت أيضاً أن هذه المقاهي لم يعد روادها يقتصرون على الرجال فقط، وإنما أصبحت اليوم ملاذاً للعائلات حيث لفتني على إحدى الطاولات شاب يجلس مع فتاة تشير تصرفاته إلى أنها خطيبته أو زوجته حيث كان يتحين فرصة غفلتها ليسترق النظرات إلى نادلات المقهى ..ولتعود الابتسامة وترتسم على وجهه بمجرد خروج من معه على الطاولة من تلك الغفلة.

وبعد مضي بعض الوقت عادت "فتاة المقهى" واقتربت من طاولتي لتغيير "فحمة الأركيلة" فطلبت منها الجلوس والحديث معها عن عملها بعد أن عرفتها عن نفسي بأنني صحفية أعمل على إنجاز مادة تتعلق بعمل الفتيات بالمقاهي والمطاعم ..لكنها اعتذرت لأن لديها عمل تؤديه ..فتوجهت إلى صاحب المقهى وطلبت منه نفس الأمر.. فرحب بذلك وقال " نحرص نحن أصحاب المقاهي على توظيف الشابات من ذوات المظهر الجميل لخدمة رواد المقهى في تقديم طلباتهم من "الأركيلة" والعصائر والمشروبات الغازية وغيرها ..وخاصة خلال السنوات الماضية " بيجي الزبون كرهان حالو ..والوجه الحسن بيريح".

ويضيف صاحب المقهى.. "صحيح أن الشباب يمكن أن يكونوا أفضل لما قد يتحملوه من جهد واعباء زيادة عن العمل المناط بهم لكن وهنا يصف تجربته " قبل تشغيل الفتيات كان الإقبال على المقهى ضئيلاً جداً والآن وبعد توظيفهن أصبح مليئا بالزبائن على خلفية المعاملة اللطيفة التي تبديها الفتيات أثناء أداء عملهن جازماً بأنهن "وسيلة جذب للزبائن". ..ومشيرا بنفس الوقت إلى أن معظمهن "معترات" يبحثن عن مصدر رزق.. فقاطعته.. هل توافق على أن تعمل ابنتك مثل هذا العمل .. فقال " قطعا لا .. والعمل لمين بيحتاجو" ..فأردفت بالطلب إليه السماح لي بالحديث مع الفتيات اللائي يعملن لديه ومع بعض الزبائن ..فقال " ما في مشكلة ..إذا هن بيحبو" .

الشابة وداد نور الدين ذات ال 19 عاما والتي أشرفت على خدمة طاولتي وبدت سعيدة ومرتاحة في تلك اللحظة.. بينت أن فقر الحال بعد فقدان والدها خلال الأحداث الجارية بالبلد وعدم وجود أي معيل دفعها إلى الالتحاق بشقيقتها "شهد" التي تكبرها بثلاثة أعوام للعمل في هذا المقهى .

"نحنا بنات عالم وناس ومو متل ما مفكرة الناس"

شهد 22 عاما فضلت للوهلة الأولى عدم الحديث عن سبب التحاقها بالعمل في المقهى وقررت بعد صمت طويل ساده الحزن.. الكلام : " اضطررت منذ نحو عامين للعمل أنا وأختي في هذا المقهى من أجل المساهمة في مصاريف عائلتنا ونحن لا نعرف عملاً آخر ونود البقاء فيه لأننا نجني مالاً كافياً ".. متسائلة "لماذا يظن الناس أننا فتيات سيئات لمجرد عملنا هنا، فصحيح أننا قد نتعرض في بعض الأحيان لمضايقات من الزبائن الشباب لكن "نحنا بنات عالم وناس".

"عمل مضني لا يخلو من المشاكل"

ريما البالغة من العمر 24 عاما بدأت حديثها بعبارة " عملي ليس عيباً" ومجتمعنا الشرقي لا يزال يفسر الابتسامة والكلمة الطيبة إلى نوايا ورغبات سيئة ... وأنا أجد صعوبة في العمل أحياناً كون أغلب زبائننا من الشباب"..لكنني راضية عنه".

وفيما يتعلق بالزبائن .. يفضل ميمون غطاس وهو طالب جامعي ارتياد المقاهي ذات الكادر النسائي مع أصدقائه مرتين في الأسبوع بحسب أوقات راحته وذلك "من أجل قضاء أوقات طيبة".

وعن سبب إقباله المتواصل على المقاهي التي تعمل الفتيات فيها على تقديم الخدمة للزبائن.. يقول ميمون 22 عاما " شو بدو الواحد أحسن من خدمة جيدة مصحوبة بتعامل لطيف من قبل المضيفات".

خرجت من المقهى وعشرات الافكار تتصارع بعقلي حول القصص التي سمعتها ومن أين سأبدأ الكتابة .. ليخرجني من كل ذلك صوت قادم من "معدتي" فبعد نفس "المعسل" ذاك استحضرني جوع غريب دفعني للبحث عن مطعم أجد فيه ضالتيَّ الاثنتين "الطعام واستكمال التحقيق" .. فسرت حتى قادتني قدماي إلى مطعم "فول وفتة" بالقرب من سوق الخجا ، كنت قد رأيت سابقا وخلال مروري من هناك فتيات يقدمن الطعام للزبائن على تلك الطاولات التي تفترش الرصيف الحجري الأسود .

هذه المرة دخلت مباشرة إلى ذلك الشاب الثلاثيني الذي يجلس خلف الصندوق وسألته عن صاحب المحل فأجابني بهلع " أنا صاحب المحل .. خير أنت من التموين أو الصحة ".. فضحكت وقلت له مطمئنة إياه "لا أنا صحيفة" .. فازداد الرجل خوفا .. وقال " أحسنين" فسارعت للقول " أنا لست هنا لأكتب عن الطعام وماذا يقدم ومدى مطابقته لشروط الصحية .. بل أنا هنا أولا كي أتناول "زبدية فتة" وثانيا.. لأكتب مادة عن الفتيات اللاتي يعملن بالمطاعم .. وهل يضيف عملهن شيئا لهذه المهنة أو يسهم بزيادة الزبائن ".

وفعلا جلست على إحدى الطاولات ..وما هي إلا فترة قصيرة حتى وُضعت أمامي زبدية الفتة مع " الحباشات" كما يقال عاميا ..فتناولتها وانا أراقب فتاتين كنا هن من يقدم الطعام للزبائن..من حيث طريقة حركتهن وتعابير وجههن ..إضافة إلى نظرات المارة إليهن بحكم أن الطاولات على الرصيف ، حيث كانت التعابير كثيرة ومتنوعة والتي يمكن اختصارها بكلمة .. "أنهن أثرنا فضول الجميع ..بغض النظر عن ماهية ذاك الفضول ".

   انتهت وجبتي التي استمتعت بها حقيقة إما لأنها كانت لذيذة فعلا أو لأن الإنسان عدما يجوع يصبح أي شيء يقدم له لذيذا ورائعا.. فانتفضت وعدت إلى صاحب المطعم الذي فاجأني أسلوب حديثه الذي ينم عن ثقافة عالية ..فسألته حضرتك "لأي صف دارس" فتبسم وقال" أنا خريج كلية التربية " ..لكني أستثمر هذا المطعم نظرا للظروف الاقتصادية الصعبة و"الوظيفة ما بطعمي خبز" .  

صاحب المطعم الذي طلب عدم ذكر اسمه رأى في عمل الفتيات بالمقاهي والمطاعم بأنه يخدم عائدات المطعم موضحا أن العامل الانثوي عنصر هام في المجتمع ومظهر حضاري ووجوده يشجع العائلات والشباب على الدخول إلى المطعم وارتياده... فالأنثى بحسب رأيه تتمتع بلباقة وجمال تفرض على الزبون "الطلب" استحياءً من رفض أنوثتها الحاضرة أمام ناظريه.. معتبرا ذلك يحقق مظهر حضاري ودخل مرتفع بآن واحد .

فرص العمل الحكومية معدومة ..وعوائد العمل الخاص برغم كل شيء أفضل بكثير

قبل عملها هذا طرقت إيناس الحاصلة على شهادة المعهد المتوسط التجاري أبواب مؤسسات حكومية عدة للحصول على عمل وشاركت بالكثير من المسابقات التي كانت تنتهي إما بنجاح " المدعومين" أو إلغاء المسابقة .. ما دفعها إلى هذا العمل وخاصة في ظل ظروف معيشية صعبة وغلاء مستشري حيث قالت " توفير لقمة العيش ليس هينا اليوم وسط غلاء المعيشة ".. لتردف بالقول " راتبنا هون أفضل بكتير من رواتب موظفي الدولة".

المجتمع "الذكوري" ينظر لنا على أننا فريسة سهلة

تعددت الأسباب والوجع واحد فالمجتمع "الذكوري" ينظر لها على أنها فريسة يسهل اصطيادها وذلك بحسب سوسن الطالبة الجامعية التي لم تنف صعوبة عملها في كثير من الوقت.

"مجبر أخاك لا بطل" بهذه العبارات بدى الحزن في كلماتها ، وتابعت : لا أنفي وجود مشاكل دائمة مع خطيبي وعائلتي ومجتمعي بشأن عملي إلا أن ظروفي أجبرتني وعلى خطيبي تقبل هذا الوضع لانعدام الطرق أمامنا وإذا لم يستطع تقبله فعليه أن يأتي ببديل فظروف الحياة صعبة جداً والغلاء فاحش والراتب ان وجد ..لا يسد الرمق .. موضحة أن "البقشيش" يدعمها بشكل أكبر رغم وجود الإزعاجات في بعض الأحيان أثناء حصولها عليه .

ليس هناك عمل غير شريف.. لكن هناك أشخاص غير شرفاء

وترى الاخصائية النفسية غالية سقباني أن العمل بشكل عام هو شرف لكل شخص، فليس هناك عمل غير شريف، لكن هناك أشخاص غير شرفاء.. وبالنسبة لعمل الفتيات في المقاهي فهو من مفرزات الأزمة التي خلقت أسبابا كثيرة دفعت المرأة السورية لخوض هذه المعركة ضد مجتمعها والتي كان أغلبها يترتب على اعتبارات تبدأ بدورها كبديل طبيعي يسد الغياب الذكوري ولربما لا تنتهي عند حالات المفقودين التي شكلت عوزاً لسد حاجة شريحة كبيرة من السوريين الذين هُجّروا من مناطقهم او التحقوا بصفوف خدمة العلم والاحتياط ، أو بسبب الفقر والجوع لاتقاء شر العوز.. فمنهن من تتابع تعليمها العالي ومنهن ما يقمن بتربية عائلاتهن أو المساهمة في مصاريف المنزل الكبيرة، وهذا يعني أنهن يعملن مجبورات على تخطي الظروف المعيشية والاجتماعية.

وأوضحت سقباني أن هذا العمل قد يخلف الكثير من العوامل النفسية التي تصيب الفتيات مستقبلاً، ففي المقاهي والمطاعم دائماً الزبون على حق حتى لو أخطأ، وهذا يجعل هؤلاء الفتيات يتعرضن لكثير من الألفاظ السوقية أو التعرض للتحرش دون أن يستطعن الكلام مخافة فقدان العمل.

الضحية الأبرز

كان عمل المرأة العادي وسيبقى قضية عامة مثيرة للجدل ..فكيف الآن وهي تمارس أعمالا لم يكن يتوقع يوما أن تعمل بها في ظل مجتمع يرفض تدخين المرأة وليس تقديم "الأركيلة" في مكان غالبية رواده ذكور ومن مختلف الأطياف.. وبكل الأحوال تبقى المرأة هي الضحية الأبرز بين متطلبات معيشية واقتصاديةصعبة وبين مجتمع لا يتقبل عقله الباطن ذلك .


أخبار ذات صلة

دمشق تحصل على 400 ألف ليتر مازوت والحاجة 700 ألف ليتر وتتزود بـ600 ألف ليتر بنزين وحاجتها مليون ليتر

دمشق تحصل على 400 ألف ليتر مازوت والحاجة 700 ألف ليتر وتتزود بـ600 ألف ليتر بنزين وحاجتها مليون ليتر

مصدر رسمي : ورود شحنة جديدة من الغاز.. والمواطن سيلمس تحسناً واضحاً قريباً

وزير السياحة : قانون جديد لاتحاد غرف السياحة تحت قبة «الشعب» قريباً ..

وزير السياحة : قانون جديد لاتحاد غرف السياحة تحت قبة «الشعب» قريباً ..

التشريعات الصادرة تطور من آليات العمل السياحي

المركزي للمصارف: تأكدوا من تغذية الحسابات (الإلكترونية) قبل استصدار شيك تمويل المستوردات …

المركزي للمصارف: تأكدوا من تغذية الحسابات (الإلكترونية) قبل استصدار شيك تمويل المستوردات …

الحلاق : إثارة الانتباه لحالات يحدث فيها خلل من جهة سحب التغذية من حساب تمويل المستوردات

وداعاً للصاقات.. (QR) لحماية الشهادات الجامعية اعتباراً من اليوم …

وداعاً للصاقات.. (QR) لحماية الشهادات الجامعية اعتباراً من اليوم …

رئيس جامعة : 35 ألف طالب يتخرج سنوياً … الآلية الجديدة بمستوى أمان أعلى وتوفر سنوياً نصف مليار ليرة