النوسان ما بين صناعة العلكة والمحتوى العربي
في العام 2004 كنا في ربوع مدينة "سبينة"، يدلنا مدير مبيعاتنا في صحيفة الرقميات التقنية على موقع صناعي مهم يريد مديره أن يتعرف علي شخصيا أنا "مدير المجلة"، وذلك كان شرطه، قبل أن يضع إعلانه في مجلتنا، توقفنا أمام منشأة ليست فعلا كبيرة تعادل حجم بيتين عربيين، هي أهم معمل علكة في سورية، دعاياته تملئ الدنيا. أنا في الواقع كنت في مرحلة نحتاج فيها لاي اعلان بعدما ضربت المقاطعة التقنية على سورية مجلتنا، حيث لم يعد من الممكن لأي شركة عالمية أن تعلن في سورية.... هذا ممنوع أمريكا، فلم يبقى الا الداخل السوري، وفي الداخل كان لا يوجد الا شركتي الاتصالات 94 و93 كما كانت أسماؤهم، وشركات علكة.. بأنواعها.. كان الجميع في المجلة غاضب من قراري ، مجلة تقنية محترمة، تضع اعلان للعلكة... واشباهها (مع احترامي طبعاً للعلكة والعلاكيين) .. لكنها برأيي كانت ارحم من ثاني أكبر معلن على أيامنا تلك ... اللانجري ... (وصدقوني عن جد عم احكي). النقاشات كانت معي، تنتهي بكلمة الحق معك .. الجميع ... يصمتون أمام ما نواجهه من ضغط مالي، ورواتب لمحررين ، وإدارة، ولطباعة، واستكتابات، وتوزيع، وضرائب (على فكرة دفعت ضرائب ومطلوب مني ضرائب صدقا أكثر مما حصلت). كنت اجيب عيونهم الغاضبة، لست أنا من طبق العقوبات على سورية، لست أنا من منع كل الإعلانات التقنية من ان تظهر في أي مجلة سورية... أنتم تعرفون متل ما أعرف ممنوع عملياً الان بيع اي كمبيوتر او طابعة بسورية بشكل نظامي، فكيف إذا يمكنهم الإعلان في مجلتنا...ممنوع... لذلك ...منين بدي ادفع استحقاقات المجلة؟! !!.. التوزيع خاسر، الإعلانات غير موجودة، وان وجدت مؤسسة الإعلان تأخذ من رأس العرمة أكثر من ثلثها ... البريد لتوصيل الاشتراكات يكلفنا ويخذلنا ... وزارة الاعلام ترانا قطاع خاص تجاري لا تليق بنا الكلمة ... والقراء يريدون التحرر من الاعلام الرسمي ... يريدون محتوى سوري راقي ... والمحتوى الجيد سعره عالي. مالنا غير العلكة، والكلاسين ربما ... أي شيء لندفع استحقاقات المحتوى .. وقفنا أمام باب مصنع العلكة، وقال لي من جلبني الى هنا، الجماعة كانوا يشتغلوا بالديشات وعندهم معمل علكة صغير، الله فتحها معهم بعد 2003 لما فتح سوق العراق عليهم، وخود على تصدير ديشات للعراق، بتعرف أستاذ كانت ممنوعة سابقا عندهم، الجماعة دخل عليهم الملايين خلال أشهر. ومع الديشات صاروا يصدروا كل شي، بسكوت، علكة، مصاصات، وقام وسعوا معاملهم واشتروا معامل تانية وصاروا اكبر مصدر علكة الى العراق. أستاذ بس هنن دراويش ... يعني علمهم على قدهم، بس بيقدروا الإعلان ... شفت اعلاناتهم. استمع انا، ورأسي تدور فيه مئات الأفكار، من احتقاري لنفسي وانا ابحث عن لقمة محرري مجلتي وكتابها على باب معمل مسكة، الى لعن كل ما أعرفه عن الالتزام بخط العلم في الوصول الى الاكتفاء المالي، أي مورد ديشات وعلكة اليوم أهم مني. تابع مدير مبيعاتنا، هدول راح يصيروا متل ما صاروا جماعة "xxxx" تبع البسكويت والشكولاتة في التسعينيات.. بتتذكرهم طبعاً أستاذ، جاوبته بتذكرهم طبعاً... وانهى حديثه لي قبل أن ندخل: أستاذ انت ليش ما بتفتح بالعراق؟!! دخلنا المعمل، غرفتي الإدارة مرخمة وانيقة وباقي المعمل المينوم ومكانات وسيراميك، وعاملات معترات من مدينة سبينه. سأل مدير مبيعاتنا السكرتيرة، عنا موعد اليوم مع الأستاذ، ومدير المجلة، وأشار الي، جوابها بسيط: والله أنا اسفة مو مسجل عندي، المعلم مو هون ، اضطر يسافر مبارح ... احمر واخضر مدير مبيعاتي، قلت له: ولايهمك ، هيك مظبطة بدها هيك ختم .... منبقى منرجع مرة تانية ... قلت له كوننا قريبين (أي في سبينة وجوارها) خلينا نمر لكان على المطبعة، نعالج ديوننا معهم، ربما نجدول دفعاتها وايضاً نسلم على خبير الطباعة المسؤول عن مجلتنا (على فكرة كان نص أحول) . لم أعد اذكر انه أعلنا بعدها للعلكة أم لا، ولكني اذكر، أني استندت رواتب ومستحقات المحررين وقتها.. صمدنا الى عام 2006 .... وخرجنا بديون لم تسدد الا بالعام 2013 .... وضرائب لم تسدد الى تاريخه. ويأتيك اليوم من يتحدث عن أهمية المحتوى العربي.. وينسون أنه ... لا محتوى عربي مجاني لا محتوى عربي تعيش مؤسساته والعاملين فيه على إعلانات اشبه بالإعانات والهبات والمكافآت.. لا محتوى عربي في خطط يضعها من لم يستثمر يوماً من لقمة أولاده في صناعة المحتوى .... وخاصة العربي منه. هم اعرف معظمهم، هم لا يقبلون فكرة أن المحتوى صناعة، وصناعة أصعب بكثير من صناعة العلكة.. صناعة عائداتها بعيدة ... وكلفها كبير .... ويحكمها توفر السيولة ... معظمهم يراها مركز دخل لهم، ومركز نفقة من الدولة يريدها حصراً قطاع عام وهم ابطالها .... لم نكن نريد مؤتمرات ولم نكن نريد معونات كنا نريد فقط ... منصة لا تنهكنا بالرسوم والضرائب والرقيب والتوزيع السيء.. كنا نريد نحول صناعة المحتوى السوري ... الى صناعة عربية مميزة.. رابحة، وناجحة تصنع مؤسسات رابحة وابطال للمحتوى. أنا والمغامرين ممن استثمروا من عمرهم واموالهم في صناعة المحتوى خسرنا لشبعنا.. بعضنا باع مؤسسته.. لمن اشترى المؤسسة وفرض المحتوى.. بعضنا اغلق على حزن.. بعضنا فتح اعمال داعمة تدر دخلاً ليكمل طريق المحتوى العربي الخاسر. وما اعرفه أننا غرقنا بديون المحتوى واستحقاقاتها.. وتحول بائعو كل شيء الى صانعي محتوى.. ونحن الى بائعي كل شيء.. وامة كاملة عطشى الى محتوى. رشاد أنور كامل رئيس تحرير صحيفة الرقميات السورية