هل يجب زيادة الرواتب ؟
صاحبة الجلالة – حسن النابلسي
يضيق السوريون ذرعاً هذه الأيام بتأمين أبسط مقومات حياتهم اليومية، نتيجة تآكل القدرة الشرائية لدخولهم التي لم تعد تغطي أدنى مستويات حاجاتهم الأساسية، لتعلو الأصوات المنادية برفع الرواتب والأجور بنسبة لا تقل عن 100% على أقل تقدير، خاصة وأن العديد من الدراسات الأخيرة أكدت أن متوسط قيمة ما تحتاجه الأسرة السورية المكونة من 5 أشخاص نحو 115 ألف
ليرة شهرياً وذلك ضمن خط الفقر المحدد عالمياً، في حين أن متوسط الرواتب والأجور لموظفي الفئة الأولى يتراوح ما بين 25 – 30 ألف ليرة، أي بنسبة نحو 25% مما يجب أن يكون عليه..!.
أمام هذا المشهد القاتم بسواده، والثقيل بظله، يأتي المنطق الاقتصادي ليضع الأسرة السورية بين خيارين أحلاهما مُرُّ .. فإما التكييف مع هذا الوضع على ما هو عليه دون أية زيادة ولو حتى ليرة واحدة..!.
أو أن يتخذ قراراً بزيادة لن تتعدى بالنتيجة الشكل الصوري لها، كون أية زيادة في ظل عدم تمويلها من مصادر إنتاجية حقيقية، أو تغطيتها بسلة عملات، يضمنان القوة الشرائية لها، يعني فيما يعنيه ارتفاع مستوى التضخم وارتفاع الأسعار، أي كمن "يعجن الرمل" وفق وصف رئيس المجلس الاستشاري في رئاسة مجلس الوزراء الدكتور قيس خضر الذي اعتبر أن السؤال المنطقي الواجب طرحه في لتحسين الوضع المعيشي هو .. "من أين يتم الحصول على موارد تمويل
أية زيادة للرواتب والأجور..؟" وليس .." ما تأثير زيادة الرواتب والأجور على التضخم..؟.
وأوضح خضر في حديثه لـ"صاحبة الجلالة" أن أية زيادة في الرواتب والأجور (الطلب الكلي) يجب أن تترافق مع زيادة بالمنتجات والخدمات (العرض الكلي)، مبيناً أن عدم تحقيق هذه المعادلة يعني حكماً ارتفاعا بأسعار السلع والخدمات، وبالتالي نكون قد دخلنا بحلقة مفرغة من زيادة الدخول الاسمية، وارتفاع بالأسعار، أي أن الزيادة تكون بالنتيجة شبه معدومة على المستوى
الحقيقي في إطار ارتفاع المستوى العام للأسعار بنسبة تفوق زيادة الدخول الاسمية. مشيراً إلى أن هذه حالة يمكن تفهمها في ظل حالة الفوضى التي يعاني منها السوق السوري كأحد مفرزات الأزمة.
وبين خضر أن الحل أو الرؤية الأكثر عقلانية تتمثل بإدراك الحكومة لأهمية تحريك مستوى الطلب الكلي (زيادة الرواتب والأجور) تدريجيا وتزامنا مع دوران العملية الإنتاجية، بحيث يحدث توازن نسبي بين تحسن المعروض من المنتجات في السوق من جهة، وتمكين المواطن السوري من تحسين قوته الشرائية من جهة أخرى.
وأشار خضر أنه يمكن تمثيل هذه الحالة بوضع الأثقال في كفتي ميزان على التوازي، بمعنى زيادة الإنتاج في الكفة الأولى، وزيادة الرواتب والأجور في الكفة الثانية، للإبقاء على الاقتصاد السوري في أكثر الأوضاع التوازنية الممكنة في ظل هذه الفترة من عمر الأزمة.
واعتبر خضر أنه لا يجوز مقاربة زيادة الرواتب والأجور بقرار، فهي عملية ونتيجة لأداء الاقتصاد السوري وذلك وفقاً لما يؤكده منطق الفكر الاقتصادي، ومن يختصر ويختزل زيادة الرواتب والأجور إلى حد اعتبارها قرار حكومي –حسب خضر- فإنما يتجاهل الكثير من حقائق النشاط الاقتصادي.
وأضاف خضر أنه لا يمكن عزل هذه المقاربة التحليلية عن واقع الجغرافيا الاقتصادية المحكومة بتباينات عميقة لجزر الاقتصاد السورية (إنتاجا واستهلاكا)، ما يفسر حقيقة عدم تجانس السوق السورية الآن لتقبل وصفة اقتصادية واحدة على مستوى الطلب الكلي والعرض الكلي.
وفي ذات السياق لم يخف الدكتور زكوان قريط /كلية الاقتصاد/ ضرورة زيادة الرواتب الأجور، ورغم أن رأيه كان مقارباً لرأي خضر، إلا أنه اعتبر تثبيت عناصر الإنتاج الحقيقية وخاصة حوامل الطاقة، واستمرار الدعم الحكومي، مع تشديد الرقابة على أسعار السلع والخدمات، كفيل بعدم تآكل أية زيادة مرتقبة، متوافقاً بالرأي إلى حد كبير مع خضر من جهة ضرورة تأمين مصادر
لتمويلها سواء من خلال الإنتاج، أم من خلال فتح خط إئتماني مع دول البريكس مثلا..!.
ويبرز لدينا في هذا الخضم المتلاطم من الآراء والتحليلات رأي صارخ لأحد المدراء العامين لمؤسسة اقتصادية فضل عدم الكشف عن اسمه مفاده أنه يجب إحداث هزة لا تكون إلا بزيادة ضخمة للرواتب والأجور، ولا تقتصر على بضع ليرات تفتح المجال أمام تجار الأزمات امتصاصها وتحويلها لصالحهم، وإنما زيادة ضخمة تحدث هزة لا تمكن التجار من احتوائها، بالتوازي مع دور فعال لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك لكبح ارتفاع الأسعار فقط، مع
رفع يدها "أي الوزارة" عن المشاريع الصغيرة وتشميلها كلها ببرنامج مشروعي الذي قدم الدعم المعنوي والمادي لأغلب المشروعات، حيث انكفأت البلديات والتموين عن ملاحقتهم.
وللتوضيح أسقط المدير -في سياق حديثه لـ"صاحبة الجلالة" مثالا من الواقع المعاش- مبيناً أن سعر كغ من البندورة حالياً وصل لـ 500، ففي حال ارتفاع الرواتب بنسبة 10 - 15%، أي 70 مليون دولار شهرياً وذلك إذا ما اعتبرنا أن كتلة الرواتب والأجور تصل إلى 500 مليار ليرة سنوياً مقومة بـ900 مليون دولار، فعندها سيرتفع كغ البندورة 50 ليرة، وكذلك الأمر لباقي
المواد، وبالتالي سينخفض الراتب بدلا من زيادته بالنسبة للمواطن، أي سيمتص تجار الأزمات هذه الزيادة. مشيراً إلى أن اعتماده تقويم هذا المثال بالدولار نظراً لأن حسابات التجار تكون مقومة بالدولار..!.
أما زيادة الراتب 200% فلن يرتفع عندها سعر كغ البندورة ليصبح 1500، بل سيبقى في حدوده، وبالتالي زيادة 140 مليون دولار شهرياً، سيذهب منها ما بين 50 - 70 مليون دولار لتجار الأزمات، والباقي للإنتاج، وعندها ستكون أول حكومة تأخذ قرار قوي سينعكس ناتجه على كل المستويات.
وفيما يتعلق بالنظريات الاقتصادية التي تقول: "إن زيادة الرواتب ستؤدي إلى ارتفاع الأسعار نتيجة زيادة الطلب" قال المدير العام: هذا الكلام غير دقيق مع احترامي لكل هذه النظريات، بدليل الأزمات المتلاحقة ببعض المواد الأساسية للمعيشة، مبيناً أن هناك قلة في الطلب وندرة بإنتاج أغلب السلع الأساسية للمعيشة، وبالتالي التصنيف ليس تضخم، ما يستوجب بالنتيجة فرض
حالة هزة اقتصادية للعمل على زيادة الإنتاج ليتم انخفاض الأسعار وتحقيق توازن بين الإنتاج والطلب.