هل الحرب مسؤولة عن الانحلال الأخلاقي الذي يمر به مجتمعنا السوري؟
سامي مبيض من المسؤول عن هذا الانحلال الأخلاقي والفجر اللذين يمر بهما مجتمعنا السوري؟ أهي الحرب التي أخرجت أبشع ما في داخلنا جميعاً من عقد، وضربت النفوس قبل أن تنال من الأبنية والبنى التحتية، أم هي الأسرة والمؤسسات التربوية والدينية التي أخفقت في واجباتها، أو الدولة، التي غابت عن الكثير من مفاصل الحياة اليومية خلال الفترة الماضية؟ لا شك أن للحرب دوراً رهيباً، ولكن يجب ألا نحملها كل عيوبنا، وأن تكون شماعة لكل الأخطاء التي يرتكبها البعض بحجتها. قد تكون الحرب سبباً رئيسياً في المخالفات والتجاوزات القانونية، وقد يكون الفقر الذي تبعها سبباً في السرقات والجرائم، ولكن هل نجحت الحرب في تدمير أخلاقنا أيضاً وقيمنا وقيم أجدادنا؟ كان للمجتمع السوري خصوصية فريدة، من تقاليد وأعراف، تعلمناها بالممارسة والوراثة من أبائنا وأجدادنا لأنها غير مدونة أو موجودة في أي كتاب. ربما قد حان الوقت لتدوينها وتوثيقها، أو التذكير بها على الأقل، علها تنفع «جيل الحرب» الذي بدأ بكل أسف ينظر إلى هذه العادات على أنها بالية ومتخلفة لا تصلح لهذا الزمان والمكان، أو على أنها خيالية، تشبه قصص ألف ليلة وليلة. في سورية، كانت صلة الرحم مقدسة، من العائلة الصغرى مروراً بالكبرى، ومساعدة الأقرباء في أوقات المحن، نفسياً أو مادياً، كانت فرض عين. وكذلك الجمعات العائلية، كانت أيضاً مقدسة، تحديداً في العطل وأيام الجمعة، التغيب عنها غير مستحب، ولو بحجة المرض أو بداعي الواجبات الدراسية. طبعاً صار هذا الأمر صعباً للغاية بسبب تفكك العائلات وغياب معظم شبانها أو مقتلهم في المعارك الدائرة في طول البلاد وعرضها. كانت الأسرة يوماً يتحدث بعضها مع بعضٍ، بدلاً من سماع قصص الغير ونظرياتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. في الغرب، مع كل ما له من ممارسات مجحفة بحقنا، لا يخرج أحد هاتفه المحمول إلا عند الضرورة، ولا يضعه على مائدة الطعام، ولو اضطر إلى الرد على أي اتصال، يعتذر وينهض ليتكلم بعيداً عن صحبه، احتراماً لخصوصيته وخصوصيتهم. في ذلك الغرب اللعين، لا يوجد عمال نظافة لأن أحداً لا يرمى قمامته في الشوارع، وهناك قانون صارم يحاسب على ذلك، لا يكل ولا يمل، لا يرتشي، ولا يفرق بين كبير وصغير، أو مقتدر وفقير. في ذلك الغرب المفترس، لا أحد يُدخن في وسائل النقل العامة أو الخاصة، أو في المصاعد والمكاتب، وعندما يرون طفلاً صغيراً يمر أمامهم في الشارع يطفئون سيكاراتهم، أو يغيرون طريقهم لكي لا يضروا بصحته. لا توجد أراكيل على الأرصفة، أو محارس، فالأرصفة ملك الشعب لا المتنفذين في المجتمع. في ذلك الغرب المجرم، «الفيسبوك» ممنوع في أوقات الدوام، وهو منبر اجتماعي، لا سوق عكاظ. وفي ذلك الغرب الكافر، هناك ممر للمشاة، وأخر لعربات الأطفال، وحدائق جميلة للعائلات. في ذلك الغرب المنحط أخلاقياً وسياسياً، إشارة المرور مقدسة، والقراءة مقدسة، والوقوف في الدور مقدس. كل من مر بذلك الغرب الحقير، من سوريين وعرب، احترم قوانينه، والتزم بأعرافه، خوفاً من الملاحقة أو الغرامة أو الترحيل. كان في بلادنا قانون يحترم ويطاع، في المجتمع وداخل كل أسرة، يحدد مثلاً أوقات الجلوس على مائدة الطعام ومكان محدد لكل فرد من أفراد الأسرة. كان «رب الأسرة» يجلس في الصدارة، لا يناقش ويطاع دوماً، وهو المسؤول عن وضع قوانين الأسرة. كان الوقوف عند دخول من هو أكبر منك سناً أو قدراً من المسلمات، لا يجلس الصغير قبل أن يجلس الكبير، قدراً وعمراً وعلماً، لا يُدار الظهر لمسن، ولا يقاطع في الكلام. كانت كلمة الكبير مسموعة وقادرة على حل أكبر الخلافات، وكان لدينا رجالٌ بحق. كنا نهاب الكبار، والمدرسين، والأهل، وشرطة المرور ونعرف معنى كلمة سابع جار. في دمشق، مثلاً كنا نرى الشرطي يقف احتراماً عند مرور أي جنازة من أمامه، ويأخذ التحية العسكرية لموكب التشييع، كما يقف كل الجالسين في المقاهي وتغلق المتاجر، إجلالاً للموت. في دمشق كانت كلمة «شو» تُعتبر خارجة عن آداب الكلام، والكلمة الصحيحة هي «نعم؟» في دمشق تعلمنا ألا نتصل بأحد قبل العاشرة صباحاً أو بعد العاشرة ليلاً، وتحديداً إذا كان الاتصال مع شخص غريب لا تربطنا به صلة عمل أو قربى، فتلك الأوقات مقدسة عند البشر، مُلك العائلة لا ملك الأصحاب أو المعارف. في دمشق، كنّا نلحق «كسار الزبادي» ونحن أطفال، القادم إلينا بلطف من غوطة دمشق والذي اختفى كلياً منذ سنوات. في زمن الطفولة، لم نسمع أمهاتنا أو جداتنا أو أياً من قريباتنا يخاطب بعضهن بعضاً بكلام فاجر، مهما بلغ الخلاف بينهن. عكس ما يشاع اليوم، لم تكن المرأة السورية حرفاً ناقصاً في المجتمع، إلا في بعض الحالات لم تكن هي العرف بالشواذ. كانت أمسياتنا جميلة، نستمع فيها إلى أم كلثوم، وعبد الوهاب، وفريد، لا إلى هذا التلوث السمعي والضجيج الدارج في زمننا الحالي، من طبل وزمار وغيرها من «الموسيقا» العصرية. في دمشق، كنّا نسمي أولادنا بأسماء تشبهنا، مقتبسة من ماضينا أو من لغتنا العربية، ليس فيها تعريب أو «فذلكات. « في دمشق كانت كلمة «العمل» مقدسة، ومذكورة 358 مرة في القرآن الكريم، وهي رمز العبادة الصالحة، ولا نعرف كلمة «مستحيل» في قاموسنا أبداً. الكسول كان منبوذاً في مجتمعنا، وكذلك المرتشي والعاق لوالديه. ومن وصايا أهلنا الحكيمة والبسيطة التي بدأت تندثر: * إياك أن تشتري شيئاً ما دمت لا تملك ثمنه كاملاً. * إياك أن تشارك أحد الأقرباء في عمل تجاري. * إياك أن تنادي الكبير بكلمة «أنت» فالكلمة الصحيحة هي «حضرتك». * لا تدخل منزلاً إلا وفي يدك شيئاً رمزياً لقاطنيه، تحديداً عندما يتعلق الأمر بأفراد أسرتك. * إذ قمت بزيارة شخص في متجره، من اللطف أن تشتري شيئاً رمزياً دعماً لعمله. * الانتهاء من وجبة الطعام بشكل كامل، وعدم ترك أي شيء في الصحن، ليس من باب البخل بل الحرص على النعم. * لملمة قطع الخبز من على الأرض أينما وجدت، مع تقبيلها ووضعها على الجبين، احتراماً للنعم. * القيلولة بعد الغداء مفيدة، ولو كانت قصيرة، ولا يجب الاستغناء عنها بتاتاً. * التدخين ممنوع أمام الوالدين، أركيلة كانت أم سيكارة، مهما بلغنا من العمر أو المركز الاجتماعي. * تقبيل يد الوالدين، مهما كبرنا وكبرت مكانتنا الاجتماعية، والابتسامة عندما يصفوننا بالأولاد ولو صار عندنا أولاد. قبلة اليد هي رمز المحبة والاحترام لا الإذلال أبداً. * نخفض صوت التلفاز أو المذياع عند سماع صوت الأذان، ولو لم نكن من المصلين، ولو قاطعنا الأذان ونحن في منتصف الحديث، نقول: وهي بشهادة اللـه أكبر». * ارتداء لباس أنيق يليق بدوائر الدولة، وبالأفراح والماتم، فلا يدخل أحد فرحاً أو مجلس عزاء بسروال الجينز، بل بربطة عنق أو بلباسنا الدمشقي التقليدي الوقور: قمباز مقصب، وجاكيت وطربوش. على عكس ما رأينا في مسلسلات «البيئة الشامية» فرجالات دمشق لم تكن ترتدي السروال إلا للزوم العمل أو الفلاحة بالأرض. * صون عبارة: «المجالس أمانات، والملافظ سعد». * التعامل مع مدينة دمشق على أنها بيتنا الكبير، لا نقطف أزهارها، لا نلوث شوارعها، لا نسيء لماضيها، ولا نخالف أعرافها وقوانينها. يبقى السؤال: كيف يمكن أن نحافظ على الحد الأدنى من الهوية والقيم الاجتماعية ولمن يسند هذا الدور؟ للمنزل أم للمدرسة أم للمؤسسة الدينية أم للإعلام؟ سؤال يحتاج إلى الكثير من التفكير وخطة عمل واضحة، لا تقل أهمية عن خطة إعادة الإعمار. الوطن