"إنّ من الكلام لسحر": رحلة في عالم التصورات الأسطورية والسحرية للغة
"إنّ من الكلام لسحر": رحلة في عالم التصورات الأسطورية والسحرية للغة
السبت 31-03-2018
- نشر 7 سنة
- 5912 قراءة
إلى جانب وظيفتها الاجتماعية والتواصلية، للغة دور في تشكيل الوجود والوعي؛ إذ أننا نتكون في اللغة، ونفكر بها ومن خلالها.
من هنا، منذ المراحل الأولى للثقافة البشرية، ساد تصور عن وجود قوى سحرية للغة؛ فكانت عملية الخلق محض نطق من الآلهة، وامتزجت الأساطير باللغة، وكان الساحر يحرك قوى الطبيعة بكلمات ورموز.
تبحث المقالة في هذه الفكرة، وتطل على تعامل الثقافة العربية مع هذا التصور، ومع فلسفته وتجلياته.
نشوء اللغة: اصطلاح بشري وتوقيفية من عند الله
يوضح الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية خليل منون لرصيف22 أن الفكر الإسلامي القديم بحث مسألة منشأ اللغة، وانقسم إلى ثلاثة آراء:
الأول أن اللغة "توقيفية" أي قديمة بقدم الذات الإلهية، والثاني قال أن اللغة اصطلاحية أي بوضع واصطلاح البشر، والثالث هو اتجاه مثله ابن جنّي الذي قال أن اللغة محاكاة للطبيعة.
ويضيف منون إنه كان لدى التصوف وعي بأن اللغة توقيفية، وليست بشرية؛ فهي تقدير إلهي قديم، ولذلك اكتسب معرفة اسم الله الأعظم أهمية كبيرة.
سعى محي الدين بن عربي، أحد أشهر أعلام الصوفية، لمعرفة هذا الاسم، إذ أن من يعرفه يحوذ قوة تمكنه من السيطرة على الطبيعة، ذلك أن العابد الجيد يصل لدرجة عليا من التواصل الحقيقي مع الإلهي، وتصبح دعوته مجابة.
وفي كتاب "الاتجاه العقلي في التفسير"، يوضح نصر أبو زيد هذه المسألة في إطار علاقتها بقضية "الكلام الإلهي" وقضية خلق القرآن.
فالذين قالوا إن القرآن كلام الله القديم من الأشاعرة وأهل السنة نظروا للغة على أنها توقيفقٌ من الله، واستندوا للآية 31 من سورة القرة: "وعلم آدم الأسماء كلها"؛ فاللغة قديمة قدم كلام الله، وبعكس ذلك، قالت المعتزلة إن اللغة "اصطلاحية" اتساقاً مع نظرتهم للكلام الإلهي على أنه صفة من صفات الفعل، وأن القرآن محدث.
بقوة الكلمة خلق الله العالم
يقول الدكتور مبروك بوطقوقة أستاذ الأنثروبولوجيا بالجامعة الجزائرية لرصيف22: تزخر الأساطير الكونية الكبرى عند كل الشعوب بقصص تحكي أنه ما على الخالق إلا نطق اسم كل عنصر من مكونات الخلق، حتى يبادر ذلك العنصر في الحال بأخذ مكانه ضمن المخلوقات.
مثلاً تحكي الأساطير الفرعونية عن الإله الخالق "بتاح"، بأنه كان يفكر في الخلق بقلبه ثم ينطق بلسانه فيوجد الخلق والعالم والكون، وهي نظرية الخلق بالكلمة.
وأما المسلمون، فيعتقدون أن أمر الكائنات بين حرفين كاف ونون ويستشهدون بالآية 82 من سورة يس: "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون"، وهذه المعتقدات تعتبر الأساس الذي بنيت عليه فكرة قوة الكلمة.
ويؤكد أبو زيد على دور الكلمة المنطوقة في عملية الخلق قائلاً: "وقد بلغ من سطوة اللغة وسيطرتها أن صار الوجود في منشئه الأول "كلمة"، فجاء في إنجيل يوحنا 'في البدء كان الكلمة'".
وفي القرآن أن الأصل في الإيجاد هو الأمر الإلهي "كن"! و"اللوجوس" في الفكر اليوناني هو "العقل" الذي لا يظهر نشاطه إلا من خلال الكلمة.
كما يوجد نص هندي مقدس يقول: "على الكلمة المنطوقة تعتمد الآلهة؛ ففي الكلمات تعيش المخلوقات كلها لأن الكلمة لا تفنى، وهي أول وليد للقانون الأبدي، وأم الفيدات، وسر العالم الإلهي".
ويقول نصر أبو زيد في كتاب "السلطة، الحقيقة، النص": في الفكر الصوفي "الموجودات" هي كلمات الله التي لا تنفد، ولو كان البحر مدادا لها لنفد البحر ولم تنفد كلمات الله.
الكلمة والرمز أداة الساحر للاتصال بالقوى الخفية والسيطرة على الطبيعة
يتناول الباحث بوطقوقة استخدام السحر لقوة الكلمة والرمز، فيقول: السحر يقوم أساساً على اللغة لأنه نوع من التوسل لقوى علوية من أجل جلب خير أو درء شر.
ومن هنا، يتابع، فاللغة هي الأداة التي يمكن من خلالها التعبير عن الطلبات التي يقوم الساحر بطلبها من خلال التمائم أو الترانيم السحرية.
والكلمة في شكلها المكتوب أو المسموع هي الوسيط الضروري مع المخلوقات العلوية، أو السفلية ولابد منها لاكتمال الطقس السحري.
ويتناول خليل منون ظاهرة السحر قائلاً: في السحر يتم استخدام اللغة كمحاولة لتسخير العالم الخفي عن طريق الاعتقاد بقدرة كلمات معينة على تسخير الجن، وفتح المجال للسيطرة على هذا العالم، ومن ثم استنهاض قوتهم في مقاصد الإيذاء.
أما عن قوة الرموز في السحر، فيرى منون أن الأبجديات التصويرية مثل "الهيروغليفي" تُستخدم في السحر، كما يتم استخدام الرموز القديمة أيضاً؛ فمثلاً يستخدم الساحر "عروسة الحسد" لإرشاد الجن إلى الشخص المراد سحره.
ويعرف بوطقوقة السحر قائلاً: من الصعوبة بمكان الاتفاق على تعريف موحد للسحر، ويمكننا أن نعرف السحر انطلاقاً من ملاحظة الجزء الظاهر منه.
وهو مجموعة من المعتقدات والممارسات تتولد عن حاجة التأثير على قوى غامضة ومجهولة ملازمة للطبيعة، يتم العمل على الإمساك بها وتسخيرها.
إذا عرف الساحر اسم الشخص أمكنه الاستحواذ عليه
اللغة ليست مجرد أداة، بل هي بيت الوجود بتعبير الفيلسوف الألماني هايدغر، ويشرح الباحث خليل منون قائلاً: أن اللغة هي الحقيقة عند هايدغر، ومن صفاتها أنها تمارس الخفاء واللاخفاء؛ لأن معنى الحقيقة رمزي وليس مادي، هو معنى أكثر من كونه معطى لشيء مجسد وممثل، فاللغة تحمل الحقيقة، تلك التي شوشت عليها رتابة الحياة الإنسانية.
في "مبدأ الكلمة" أو "سحر اللغة"، يفترض التماهي الجوهري بين الكلمة وما تدل عليه
لكن من يملك المعنى الحقيقي يصبح قادراً على الفعل، و يتطابق هذا مع الاعتقاد بقدرة الساحر على استحضار الخفي للوجود بمجرد امتلاك اسمه الحقيقي.
ويعود الاعتقاد بإمكانية الاستحواذ على الشخص أو الشيء بمجرد معرفة اسمه الحقيقي لتصور إنساني قديم، يقول بالتماهي الجوهري بين الكلمة وما تدل عليه، وقد أطلق على هذا التصور مسمى "مبدأ الكلمة" أو "سحر اللغة".
يمكن الاطلاع بشكل موسع على الفكرة في كتابات كاسيرر، الذي يرى أن هذا التصور يعتقد بالتطابق بين الدال والمدلول، أو الكلمة والشيء في الاستعمال الأسطوري والشعري للغة؛ ذلك أن الشخص، ونفسه، وشخصيته في التفكير الأسطوري ترتبط ارتباطاً لا فكاك منه.
وهنا لا يكون الاسم أبداً مجرد رمز، بل هو جزء لا يتجزأ من الملكية الشخصية لحامله، وهي ملكية يجب حمايتها بحرص، ولا يجوز استعمالها إلا من قبله حصرياً وبحذر بالغ.
ويتناول بوطقوقة هذه الفكرة قائلاً: في البدء كانت الكلمة، ومنذ القدم اعتقد الإنسان في قوة الكلمة باعتبارها مصدر الخلق، لذلك كان السحر في الأساس إيماناً مطلقاً بالقوة الخلاقة للكلمات والأصوات.
ولهذا يعتقد بأن الانسان الأول كان لا يفرق عملياً بين الاسم والمسمى، بل كان يعتقد أن الاسم هو الكائن نفسه، وبمجرد نطقه ضمن سياق طقوسي يتم خلقه مباشرة.
ويقول منونة: في الممارسات السحرية في مصر يُستخدم اسم الأم للدلالة على الشخص؛ وتقوم الفكرة على أن الساحر يمكنه الاستحواذ على الإنسان إذا عرف اسمه الحقيقي.
لذا نجد أن مجموعات عديدة في الثقافات تميل إلى إخفاء الاسم الحقيقي للشخص، وتمنحه اسماً جديداً في كل مرحلة عمرية، خوفاً من أن يتلقفه الساحر فيتملكه، ويتحكم فيه.
ومثال عن ذلك من كتاب "تاريخ أفريقيا العام"، أنّ الكتبة في مصر القديمة كانوا يشوّهون الرموز التي تمثل كائنات خطرة، فكانوا يقطعون ذيل الثعابين، أو أرجل بعض الطيور.
وكانت القوة السحرية الكامنة في الرمز تمتد إلى العالم، فإذا ما أراد شخص أن يلحق الضرر بآخر كان يزيل اسمه أو يمحوه حيثما كان مكتوباً، ولما كان الاسم يُعتبر جزءاً من الشخص، ويمثل إلى حد ما الشخص، فإن محو الاسم كان يعني محو الشخص من الوجود وهلاكه.
الخوف من حضور الأشياء إذا نطقنا باسمها
يرى نصر أبو زيد في كتابه أن الاعتقاد باتحاد الاسم والمسمى، يأتي من آثار التصورات الأسطورية عن قوة اللغة السحرية، وهي نظرة قديمة مازالت لها ممارسات في الثقافة الشعبية، ويمكن ملاحظتها في ربط الناس بين الاسم والمسمى.
ويوضح خليل منون بأن الجماعة البشرية تستخدم اللغة كفعل للتذكر أو النسيان أو التخليد؛ فمثلاً تستبدل الجماعة البشرية ألفاظ الأمراض الخطيرة مثل "السرطان" بألفاظ "المرض الخبيث" أو "اللي ما يتسمى"، كفعل دفاعي ضد هذا المرض، ومحاولة لنسيانه.
ويذكر منون استخداماً آخر من صعيد مصر، حيث يمنع الأهل من تسمية الأطفال على اسم من مات دون أن يُنجب، لئلا يستخدم اسمه مرة أخرى، تخليداً لحضوره، حتى يبقى واحداً غير مكرر.
وجانب إيجابي للاعتقاد بقوة الكلمات يوضحه نصر بممارسة قول نصف الشهادة "لا إله إلا الله" من قبل شخص يودع آخر، ليرد الآخر بقوله "محمد رسول الله"، فلها دلالة أن ارتباط العبارتان دوماً سيجعلان الشخصان مرتبطان في غيابهما، وضمانة لعودتها مرة أخرى.
هل لكلمات الكتب المقدسة قوى على العالم المادي؟
يرى نصر أبو زيد أن ممارسات الحجاب الواقي من الحسد في المعتقدات الشعبية والتداوي والعلاج بالقرآن يستندان لمفهوم القوة السحرية للغة، الناتج عن قدرة اللفظ منطوقاً أو مكتوباً لا على استحضار المعنى للذهن فقط، بل على استحضار الشيء أو منعه.
ويفسر منون فعل العلاج بالقرآن والكتب المقدسة بأن الكلمة عبارة عن دلالة و معاني، ولذا فإن معاني كلمات القرآن هي ما يُعتقد أنها تؤسس لعملية الرضا والشفاء.
ويقول بوطقوقة: رغم استخدام القرآن لعلاج السحر من خلال الرقية، إلا أن السحرة لا يتورعون في استخدام القرآن نفسه للقيام بأعمال سحرية اعتماداً على القوة الخارقة للنص القرآني كما يظنون.
ولذلك نجد في أغلب التمائم سواء المكتوبة أو الشفوية آيات من القرآن، وأسماء الله الحسنى تتم كتابتها بطرق غريبة، جنباً إلى جنب مع الأرقام والرموز والأشكال السحرية الغامضة، لاعتقاد السحرة في أن اجتماعها كلها في نفس الوقت والمكان يحدِث الأثر المرغوب.
قوة الكلمة المنطوقة: "العزائم" في ألف ليلة وليلة
يذكر الباحث منون أن حكايات ألف ليلة وليلة مليئة بقصص السحر، التي تقوم على قوة الكلمة المنطوقة.
هنا نموذجان منها: في حكاية بعنوان "حكاية التاجر مع العفريت" تستخدم قوة العزائم لفك السحر عن شاب حولته زوجة أبيه الساحرة إلى عجل، حتى يذبحه والده.
إلا أن ابنة الراعي الملمة بالسحر عرفت أنه إنسان، وقامت بفك سحره، وتقول الحكاية: فلما سمعت كلامي أخذت طاسة وملأتها ماء، ثم أنها عزمت عليها ورشت العجل وقالت: إذا كان الله خلقك عجلاً فدم على هذه الصفة ولا تتغير، وإن كنت مسحوراً فعد إلى خلقتك الأولى بإذن الله، وإذا به انتفض ثم صار إنساناً.
وفي حكاية "حاسب كريم الدين"، يُعبر النص عن قوة الكلمة في السحر، وفيه: "تقدم الوزير وجلس وأطلق البخور، وأقسم وتلا العزائم، ونفث وهمهم، لأنه كان ساحراً ماكراً كاهناً يعرف علم الروحاني وغيره.
ولما فرغ من عزيمته الأولى، قرأ عزيمة ثانية، وعزيمة ثالثة، وكلما فرغ البخور وضع غيره على النار، ثم قال: اخرجي يا ملكية الحيات. فامتثلت ملكة الحيات لقوة الكلمة السحرية المنطوقة وخرجت.
رصيف 22