من الخشب والحجر هناك حياة بين اللين والقسوة، ومن بين عراك الحجر مع الإزميل، تخرج منحوتة- خشبية أو حجرية- لتقول أنا من هذه الأرض. ولأنه ابن الأرض ومتمسك بثقافتها وعراقتها، يظهر بين الحين والآخر في معارضه الجديدة، فنانا متجددا رغم أنه حاضن كبير لثقافته السورية، إنه الفنان محمد بعجانو الذي افتتح- برعاية وزارة الثقافة وحضور معاون وزيرها المهندس علي المبيض-معرضه في صالة الأرت هاوس بدمشق، بحضور كبير من الفنانين التشكيليين والإعلاميين والمهمتمين.
ثقافتنا منها ننطلق
عن المنحوتات لأنها في أغلبها خشبية، إضافة للمادة المستخدمة في النحت، حدثنا الفنان محمد بعجانو «عندما نقول كلمة نحت فأنا أعتبر أن العملية النحتية يجب أن تقوم على مادتين فقط، هما الخشب والحجر، وبالفعل الخشب بالنسبة لي كالصديق، وأتعامل معه بهذه الطريقة، إنه متعدد اللهجات، بحسب قطعة الخشب ونوعها وأليافها، أتعامل معه دائما بليونة ولطافة، فالخشب يحتاج إلى المحبة، وهو قادر على أن يبث موجات إيجابية تبعث الهدوء في النفس والشعور بالراحة والاطمئنان». وعن حضور المرأة القوي بين المنحوتات تابع الفنان «يجب على الفنان التشكيلي أن يُخرج العنصر بشكل جميل، وخاصة عندما يرتاح له، وبالطبع بين المنحوتات هناك الكثير من العناصر، كالثور الذي ترتبط رمزيته بالقوة والأرض لأنه يعمل بها، وكذلك المرأة بعطائها وأنوثتها تضفي على الحياة المعاني السامية، ومن ثم على الفنان أن يهتم بما يحب. وبالعودة إلى السؤال، نعم حضور المرأة بين المنحوتات قوي، لأنني فنان وعلي أن أهتم بالأمور التي أراها جميلة في حياتنا، ومن واجبي تقديمها بالطريقة الأفضل، إذاً أنا أقدّر المرأة وأحبها كثيرا». متابعا الشرح حول ما ضم معرضه من منحوتات «المنحوتات التي قدمتها في هذا المعرض متنوعة، منها جداريات ومنها تكوينية، كلها نتاج أكثر من سنة، هذا وبالنسبة للخشب كمادة، نوعياته مختلفة وتنتمي إلى مناطق متعددة محلية وخارجية، بينما المنحوتات الحجرية كلها محلية المصدر». وبالنسبة للرابط الذي يجمع الفنان بمنحوتاته منذ بداية العمل حتى إنجازه أشار «الرابط المشترك بيني وبين المنحوتة قوي جدا، ويبقى كما هو، حتى إنني أشعر بالحزن عند بيع الأعمال- لست أبالغ بالأمر- لكن هذا الرابط ينتقل إلى الآخرين، فعندما يُطلب مني أن أصمم عملا لمكان معين في المنزل، أصحاب المنزل مثلا يغيّرون كل شي فيه إلا القطعة التي أنتجتها، تبقى في مكانها مهما طال الزمن، وبالنتيجة هذا انعكاس لمدى الرابط القوي بيني وبين المنحوتة وكيف ينتقل إلى الآخرين، هنا أحب أن أشرح أن السبب ربما يعود لأنني أعمل بمحبة عالية جدا، وفي حالة أكون فيها مستمتعا، ولو استغرق العمل من وقتي وجهدي أكثر من مدة عام، فإني أحاول وأكرر المحاولات كي أصل بالنهاية للنتيجة التي أحب، بالرغم- وبالعموم- أن الكثير من الأعمال التي أنجزها أقوم بها بتأن وهدوء كبيرين ولا تستغرق كثيرا من الوقت». وحول الخصوصية التي تربطه أيضا بالحجر الرملي أشار الفنان التشكيلي «منذ كنت في الجامعة- باعتبار الحجر الرملي منتشراً لدينا في اللاذقية- كان يلفت نظري كمادة لأنه لا يتأثر بأي ظرف طبيعي، بل يبقى محافظا على نفسه، وفي الوقت نفسه عندما نقوم بنحته فإنه يزداد جمالية، ويبدو للمشاهد كأنه قطعة أثرية عمرها آلاف السنين». متابعا حول تمسك الفنان ببيئته «هذا ولا يجوز للمرء أن يخرج عن بيئته، بل عليه أن يرتبط بها كي يقدم نفسه للآخرين وللعالم، لأن وجوده منطلق من منطقته وبيئته، حتى إنني مع مجموعة من زملائي منذ أيام الجامعة قررنا أن نقدم فنا مرتبطا ببلدنا، فالحياة الشعبية لدينا كلّها بساطة وفي الوقت نفسه فيها الكثير من العمق، فثقافتنا الشعبية نجد مثلا تنوعها في فنجان القهوة الذي نرتشفه صباحا، وفي الأغاني التي نسمعها، إذاً ما أقصده أننا نمتلك كمّا غنيا من الثقافة، وعلينا أن نبحث عنها كي نسلط الضوء عليها ونتمسك بها، لأنها لنا ويجب ألا تنسب لغيرنا، المهمة صعبة ولكننا قادرون عليها ومن واجبنا لكوننا فنانين». وبالنسبة لعنوان المعرض ختم قائلا «لم أضع يوما عنوانا لمعرض لي، وأرغب دائما أن تطلق تسمية المعرض والمنحوتات من الزوار، ولكنني في حقيقة الأمر أرغب بتسمية المنحوتات وبشكل دائم بكلمة واحدة هي «الحياة» لأنه من خلالها هنالك أمر يجب أن يعيش ويستمر، لا أن يموت».
منحوتات تتنفس حياةً
من جانبها أشارت الفنانة التشكيلية أسماء فيومي إلى ما يجمعه الفنان في شخصه من قسوة ولين، نقدر أن نستشفه مما قدمه لنا في المنحوتات الحية التي تشعر بنا وتحدثنا كما نحدثها، قائلة «المعرض جميل، وأنا جدا سعيدة لما أرى من منحوتات قدمها لنا الفنان محمد بعجانو، وأيضا مستمتعة بهذه الأخشاب التي كانت أشجاراً، ولكنها تقف أمامنا بأشكال متنوعة، أعطاها الفنان من نفسِه حياة، وأصبحت مثلنا يمكننا أن نحدثها وتحدثنا، فـفناننا يملك انسجاما عظيما مع الخشب، وبرأيي الفنان محمد بعجانو هو من أهم النحاتين في سورية، سواء بطريقته وأسلوبه، أم بما يجمعه من قسوة الحجر وحنان الخشب، أو ما يمكنني قوله الجمع بين حدّ السيف ورقة الحرير، إذاً هو إنسان متميز جدا كشخص، فعندما ينظر إليه المرء يراه شخصا صلبا وقاسيا، إضافة إلى كونه حنوناً ورقيقاً وهذا أمر قادر أن يكتشفه ليس فقط أصدقاؤه المقربون منه فقط بل أيضا متابعوه والهمتمون من خلال منحوتاته التي يقدمها لنا».
له أسطورته الخاصة
بينما تحدث الفنان التشكيلي والنحات غازي عانا عما يمتلكه الفنان محمد بعجانو من ثقافة سورية متجددة، وكيف يستثمرها في نتاجه، مستغلا أسلوبه المتميز في إنجاز المنحوتة بملمس رائع، متابعا «أنا صديق للفنان محمد بعجانو، وتخرجت قبله بعام- رأيي كنحات- هذا المعرض مميز جدا، لأن الفنان يمتاز بأنه فنان سهل ممتنع، فالناس ترى العمل بسيطاً لكنه في حقيقة الأمر صعب ومعقد، وهذا الأمر يعود لخبرته الطويلة وثقافته السورية التي يختزنها ويجددها بحسن اطلاعه على ما يدور حوله في سورية، وما ضمته من حضارة وأسطورة، حتى يمكنني القول إن الفنان محمد يتملك أسطورته الخاصة، فكما يعمل على نفسه كنحات كذلك يعمل بجهد كبير على ثقافته التي يطورها ويغنيها، حتى الرمزية في أعماله، هي رموز سورية منها الحقيقي الموجود ومنها ما يضيفه هو على المنحوتة، وهذا يعود لاهتمامه ومحبته الكبيرين، ولقد استطاع أن يترك بصمة بوقت مبكر. هذا وبالنسبة للسؤال حول العلاقة بين النحات ومنحوتته، طبيعي أن يكون الرابط قوياً بينهما، وأيضا من الطبيعي ألا يسيطر النحات عليها، وألا تكون النتيجة مرضية وأن يقوم بإهمالها ويعود إلى العمل عليها في وقت لاحق، ولكن بالعموم لا يكون في ذهن النحات تصور لمنحوتته بل يعمل، والعمل هو من يقود الفنان، وبالطبع المادة تؤثر كثيرا، فالخشب كالحجر لا يمكن تعديله، لهذا نقول إن الأداة عند فناننا مهمة جدا وحتى الملمس عنده جميل ومؤثر جدا ويعطي تعبيراً جميلاً للمنحوتة».
الوطن