السعي وراء الجمال هو الذي يعطي للحياة معنى
يعرف الجمال على أنه (قيمة) تهتز لها وجداننا ومشاعرنا، وبحسب إيرفين بانفوسكي: فإنه يمكننا أن ندرك كل موضوع بطريقة جمالية، سواء كان ذلك الموضوع طبيعيًا أو مبدعًا من طرف الإنسان، كان فكرًا أو فنًا. ونحن حينما نتطلع إلى السماء في حلتها الزرقاء اليانعة وبياض سحبها وغيومها، وبريق نجومها، فإن أول ما يواجهنا نوع من الدهشة، وإحساس غريب بالتحرر من قيود الأرض وقيود «الآخر»، ونحن في الواقع لا نبلغ هذا إلا عندما يستلبنا الجمال. وليس الجمال في السماء وحسب، ولا يشمل كل ما هو مادي فقط، بل إنه يتعداه ليمس ضروب الفكر والسلوك، وهو لا يفصح لنا عن نفسه منذ البداية، وإنما هو نتاج تفاعل ما وفق معنى ما بين العقل والمتعقَل فيه وبين الحواس والمحسوس به، ولذلك فهو ليس قيمة ثابثة في الأشياء، وإنما نحن من نضفيه عليها من خلال توجهنا إليها وتدبرنا إياها، ولا أدل على ذلك من تباين إدراكنا للجمال شعورًا ومكانًا وزمانًا، وقد يقف نفر من الناس، يتأمل أزهار البابونج ذات التيجان البيضاء فيتفاعل معها، وتتولد فينا القيمة الجمالية خاصتها، ولكنها أيضًا خاصتنا نحن. وفي نظري فإن الجمال ليس ما يثيرنا ويولد الإعجاب فينا أو يحقق المتعة لدينا، وإنما الجمال ما يولد فينا الإلهام ويحرك ملكة الإبداع بداخلنا، بغية امتلاك إرادة التغيير وتصحيح فهمنا للكون والحياة، إنه قبل كل شيء يهذب خواطرنا ويدفعنا للبحث والعودة إلى الأصل، فمن خلال إدراكنا للجمال يمكننا أن نفهم أننا «جزء» من «كل» أشمل، هذا الكل الكوني الذي نترابط معه ترابطًا عميقًا متجذرًا، وأن كلنا يمتد في الآخر وننصهر كلانا في واحد إلى الحد الذي تتلاشى التخوم بيننا، ومن خلال إدراكنا لجمالية الإنسان وفعاليته يمكننا أن نكتشف معاني الإنسانية ما نشترك فيه وما نتقاسمه بيننا. وإذا كان الإغريق يقلون بفضيلة الأشياء (أي الغاية منها) فإنني أرى أن الجمال فضيلة الفضائل، وقيمة القيم، إذ ليس هناك ما هو أجمل من أن نتحلى بالقيم النبيلة، بقيم الخير والفضيلة، إن هذه الخصال هي انعكاس مباشر للجمال، ونحن لا نضمر الشر ونعتنق الرذيلة إلا حينما نتنكر لهذه القيم وهذه الخصال، ونتعالى عليها بأن نحرم أنفسنا من قيمة الجمال، ونقبل بأن نرزح تحت نير الظلمة ونسير في ضروب العمى. تأملوا معي عيون الأطفال، لن تروا غير البراءة، حتى إنه لا يكون بوسعكم مقاومة ذلك الفيض من المشاعر الرقيقة والتي ستغمركم، ذلك أنهم منبع الجمال وعيونهم مرآة لا يمكنها أن تعكس غير الصدق، ثم نرى فيها أنفسنا، حقيقتنا البشرية. إن الحجارة الصغيرة والأشجار الخضيرة، والأودية الرقراقة، كلها تشكل محاضن وينابع مستديمة لا تنضب من قيم الجمال، وكلما وقفنا أمامها في تدبر وتبصر، اختلجتنا الرهبة والغرابة ولا يكون أمامنا من سبيل غير الاستسلام لنداء الفطرة، إذ تنسدل الستائر عن تلك الأوهام التي كنا نمني النفس بها. وكما نرى الجمال في الطبيعة ونلمسه فيها، يمكننا أن نراه أيضًا في أشياء أخرى كالسياسة والعلم، والدين والفلسفة، آه لو كنا نتأمل الجمال في هذه الأشياء! لما بلغنا هذا التشرذم وهذا الشتات، ولما احتكمنا للغريزة، إن جمال السياسة وفضيلتها، أن تبلغ بالمجتمع أسمى تنظيم، وتغلب منطق الحق والواجب لا منطق الظلم والاستباد وافتعال الحروب والتحكم في أرزاق العباد ورقابهم، وجمال العلم وفضيلته، أن يسير بالإنسان إلى الأمام فيسهل عليه ضروب الحياة، ويوسع من مداركه واختياراته تجاه ذاته وتجاه الكون الذي يوجد فيه، لا أن يسعى إلى التباهي بما يتم إبداعه وتطويره من أدوات الفتك والدمار وما يتم إحرازه من قوة. أما عن جمالية الدين فتتمثل في الرقي بالإنسان إلى الكمال، والبلوغ به إلى نوع من التوازن النفسي والسمو الروحي، لا أن يفرقع الإنسان نفسه وسط المقاهي وفي المرافق المدنية، زعمًا منه بأنه ينصر الله وهو ألد خصوم الإنسانية، وجمال الفلسفة، أن نرى فيها هداية من غوائل الجهل ولبس العرف، تعلمنا الاستنارة والاحتكام للعقل، والتحلي بالسلم واللاعنف، فهي تربي فينا الإنسانية وحب الحكمة بالإضافة إلى ثقافة السؤال التي بتنا نفقدها، وليست الفلسفة السعي وراء الحجج الرسمية لإبهار الخصوم وإسكاتهم، ولا من أجل السخرية والتظاهر بحسن السرد واللغة، وكما لهذه الأشياء من جمال، فإن لكل الأشياء قيمًا جمالية، وعندما نتعلم حب الجمال وعقد العزم على تدبره وبلوغه، فإننا سنجده في كل مكان سنراه في كل شيء حتى في ذواتنا. وأنا أقول بلغة الجمال يمكننا أن نرسم عالم الأحلام، عالما تسود فيه الأخوة ويتم فيه إعلاء دين الإنسانية ومعاني التضامن والتعايش، بلغة الجمال يمكننا أن نكتشف أن المستنقع ليس موطن الذباب والوحل فقط، بل إنه مصفاة للمياه العذبة التي نشربها، ومصدر الهواء النقي الذي نتنفسه، بل يمكننا أن نرى في الاختلاف قوة وغنى، عندما سنرى في الطبيعة الأم أن «تنوع الجزء يقوي من تماسك الكل»، وحياة الإنسان لن يكون لها معنى إذا لم نتشرب من ينابع الجمال الزاخرة، إذا لم نسبح في محاضنه الرقراقة، ومهما حاولنا ومهما منينا أنفسنا بعدم ضرورة الجمال وقلنا بمثاليته فإننا لن نزداد إلا خرابًا وتفككًا، والعناد من شيم الإنسان الذي يدفع ثمنه باهظًا، فالتاريخ حافل بالعبر لمن يريد أن يعتبر. علموا أولادكم أن يحبوا الجمال ويطمحوا إليه، ويرتبوا حياتهم عليه، علموهم أنه هو وحده نبراس الخلاص من الغرائز البهومية، وعبادة الدينار والدولار، والله سبحانه جميل ويحب الجمال، هو الذي أصبغ به خلقه وسقى الكون بتلاوينه، بيد أن الإنسان يعمى إذ يتغاضى عن هذه الحقيقة، عندما يلقي بنفسه بين فكي الوضعية الصرفة والمادية المطلقة والبرجماتية التي تجرد الإنسان من إنسايته، وتعريه من كل فضيلة فيصبح معها مجرد آلة للخراب والحرب أو سلعة تباع وتشترى في الأسواق كسائر السلع، ومن يريد أن يدرك الجمال عليه أن يتوجه إليه ويتحرر من الغبش والطلاسم التي يروجها جحافلة المصالح الأنانية وتجار القيم الإنسانية، حتى يتسنى له أن ينال من قبس الفضيلة. «ولا تخدعنكم الأضواء والأنوار الساطعة، فالجمال في الظلمة أيضًا». ساسه بوست