الأب إلياس زحلاوي ..فكر تنويري إنساني وقلب عاشق للأدب والفن
الحياة، بدقائقها وساعاتها، بأيامها وأسابيعها، بأشهرها وبسنيها، وأخيراً بأعمارها، هي بمجملها، رسالة، منها نأخذ العبر، منها نأخذ الحكم، منها نأخذ الدروس، لنصقل مواهب منّ اللـه علينا بها، أو لنزيد المعارف التي أكسبتنا إياها الحياة من ذات نفسها، وهنا على كل امرئ منا أن يوازن بين ما اكتسبه من خبرات ومعرفة، وبين ما أُعطي من مواهب مقدّرة، كي ينهض برسالته ويحقق هدفها المنشود. اليوم عليّ أن أكتب مقدمة في إنسان، جمع الحروف بكلمات يؤمن بعمق تأثيرها، وبالنسبة لي، كلماتي عاجزة عن منحه الاستحقاق الذي يليق به. الأب إلياس زحلاوي، إنسان، شعاره في الحياة «صدق المحبة»، فمع كل شيء وبالرغم من كل شيء، بنظره «صدق المحبة» هو الحافز على تنقية القلوب مهما اشتدّت الأزمات، كيف لا وهو جزء من الحياة، بهمومها ومشاكلها، بفرحها وترحها، يلتف من حوله الأبناء والبنات، تلتف من حوله العائلات والأزواج، ليس لأنه كاهن نذر نفسه لخدمة كلمة الروح القدس، بل أيضاً لأنه الأب والأخ والصديق، وليس من الغريب أنه في كثير من الأماكن يحمل قلب الطفولة ويتربع بين الأطفال، على الرغم من السنين التي أثمرت في عمره وتركت أثرها على المحيّا، إذا تجده دائماً متوسطاً دائرتهم، مشاركاً فرحهم وسعادتهم، وحتى براءة قلوبهم. وبين العائلات والأسر، هو دائماً الملجأ والمستوعب للمشاكل التي تلّح الحياة بإقحامها في روتينها اليومي، لكنه يبقى فاعلاً في دوره كموّجه للأزواج، ومرشداً تلين لحكمته قرارات العقول الحازمة، ولرأفته قساوة القلوب، بهدف أن يستمر المركب ويحقق الهدف المرجو من المشاركة الحياتية في الزواج، بعيداً قدر المستطاع عن الخيبة في تفكك الأسر وانعكاسها التلقائي على المجتمع. وبالنسبة للمرأة فهي بنظر الأب زحلاوي، لطالما كانت وما زالت، السيدة العذراء، وأمه، محترماً كلّ أنثى، ومكرِماً لها، سواء أكانت طفلة أم صبية أو راشدة أو حتى عجوزاً، متعاملاً معها كما لو كان يتعامل مع أمه بالذات، ومع السيدة العذراء بالذات.
تعلمت ذكر الرب والسيدة العذراء قبل القيام بأي عمل من والدتك… ما حال الأم اليوم وهل هناك شبه بين أمهات اليوم وأمهات الزمن السابق؟
الأم هي أبداً الأم، معجزة اللـه على الأرض، في كل زمان ومكان، بفضل ما أُعطيت من قدرة لا محدودة، على الحب والخلق، والحنان، والتضحية، والصلاة… والغفران! لذا كان تأثيرها على أولادها، دوماً عميقاً، حاسماً وثابتاً.
إلا أن الواقع الإنساني يضطرّنا للاعتراف بأن هذا التأثير، على وجوده الدائم، إنما هو رهن بحدود، قلّما يمكّن المرأة من اختراقها. وذلك بأن هذه الحدود هي من صنع سواها. وهي، في الحقيقة، من صنع البيئة. والبيئة، كما يعلم الجميع، هي العقليات السائدة والكامنة، المتوارثة، وهي المؤسسات الاجتماعية والدينية، لما لها من امتدادات، قديمة وجديدة، ظاهرة وخفية، في مختلف شرائح المجتمع، وفي منجزاتها، أو في ما تظنه منجزاتها.
والواقع التاريخي يضطرّنا للاعتراف أيضاً، بأن هذه البيئة كانت – ولا تزال – حتى في الغرب، من صنع الرجل، وأنها لم تعرف ملامح التبدل الفعلي والجزئي فيها، إلا خلال الربع الثاني من القرن العشرين.
أما في الشرق العربي، فليس هناك من ينكر أن للرجل وحده، ولاسيما داخل البيت، قانوناً، وعرفاً، وممارسة، الكلمة الأولى والأخيرة في كل شيء. ومع ذلك، فلا بد من الإشارة إلى أن هناك، في حدود علمي، عائلات قليلة جداً، استطاعت أن تحقق توازناً ملحوظاً، داخل البيت، بين الرجل والمرأة، انعكس على نحو مدهش على صحة الأولاد، النفسية والعقلية والعاطفية، فاستطاعت بذلك أن تنجز ما يبدو لي تطوراً ذاتياَ، مميزاً، ثابتاً وراقياً، أثمر بدوره أسراً راقية ومتوازنة على صورة الأسرة الوالدية.
وهل من يجهل أن هناك أيضاً شرائح اجتماعية عرفت الغرب، تجارة ودراسة، وحتى زواجاً، وحققت ثراء ملحوظاً، فأباح بعضها لنفسه أن ينهج سلوكاً، في البيت وفي المجتمع على السواء، كثيراً ما يعكس ما تحقق في الغرب، من «إنجاز»، هو، في حقيقة الأمر، ليس سوى انهيار في القيم، وتفكّك في الأسرة.
وأما حال الأم اليوم، في الشرق العربي عموماً، وفي سورية خصوصاً، ولاسيما الأم المتوسطة الحال أو الفقيرة، فلا أخالني مخطئاً إن قلت إنه بحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى دراسات ميدانية، ومؤتمرات بحثية، جادة، متتابعة، صادقة، جريئة وشاملة، ماضياً وحاضراً، كي ترصد التربة الاجتماعية التي احتضنته، وتواجه وتحلل جميع ما أفرزته هذه الحرب الجهنمية، من حالات تخصّ الأمومة، ما كان لأحد أن يتوقع حدوث النذر اليسير منها، باستثناء الذين خططوا لها منذ عشرات السنين، سواء على الصعيد الكوني أم على الصعيد الداخلي، في غفلة منا، أو بالأحرى في كثير من التعالي والتجاهل من قِبَلنا.
وأما الأمهات لدينا، ولاسيما تلك التي كانت الدنيا قد ضاقت بهن وبأسرهن، منذ عقود وعقود، فحدّث ولا حرج. فلقد كان منهنّ من رافقت ابنها المجنّد بصلاتها ليل نهار، وحُمل إليها بعد حين، شهيداً أو مصاباً… ومنهن من فوجئت بتصميم أحد أبنائها على التطوع الفوري في الجيش، «إنقاذاً للبلد من الخطر الذي استشعره»! فحاولت منعه ولم تفلح، وكان أن حُمل إليها بعد حين، شهيداً أو مصاباً… ومنهن من كُلّف ابنها أو ابنتها بمهمة إعلامية خطرة، فحمل إليها بعد حين، شهيداً أو مصاباً… ومنهن من كان ابنها أو ابنتها في هذه الدائرة أو تلك، فحمل إليها بعد حين، شهيداً أو مصاباً… ومنهن من هبّ ابنها أو ابنتها لإسعاف جرحى تفجير ما، فحمل إليها شهيداً أو مصاباً… ومنهن من «فقدت» ابنها أو ابنتها طوال سنوات، ولم تعثر له من بعد على أثر… ومنهن من «غاب» زوجها، ولديها أطفال، ولا من معيل… ومنهن من «خطف» لها ابن أو ابنان، أو أفراد الأسرة جميعاً مع والدهم… ومنهن من اضطرت للـهروب مع أولادها، أو بعضهم، وفقدت بعضهم على الطرقات، أو في مخيمات اللجوء، أو في البحار… ومنهن من هاجر جميع أولادها، وبقيت وحيدة، أو مع زوجها المسن… ومنهن من… قطع ابنها الطفل رأسه، على مرأى من الناس في الساحة العامة!
وكان منهن أيضاً وأيضاً، من ظلت ثابتة في بيتها وفوق أرضها، مع أسرتها، أو من تبقى من أسرتها، تتحدى، في كل لحظة من كل يوم، طوال سنوات ست، الموت، والخطف، والرعب، والجوع، والذل، والمجهول… في يقين الخلاص المحتوم والآتي!
وهنا، هنا بالذات، لا بد لي من الإشارة في نشوة من أمل، إلى بعض الواقع الاجتماعي الجديد، الذي أفرزته هذه الحرب، والذي برز وانتشر بفعل الغياب القسري للرجل، زوجاً كان أو أباً، أو أخاً، أو وصياً ما… ذلك بأن المرأة وجدت نفسها مضطرة لإثبات وجودها، وابتكار حضور لها من نمط جديد، فيه من الجرأة والتحدي، ما يستدعي جميع الباحثين، للمقارنة العلمية والواقعية، بين ما كانت عليه المرأة، من تهميش واتكالية، طوال مئات السنين، وهي تحت وصاية الرجل، وما صارت إليه في غيابه.
وإنها لمفارقة عجيبة، تذكّر بما حدث في الغرب كله، بعيد الحرب العالمية الأولى، وما حدث في ألمانيا أيضاً، بعد الحرب العالمية الثانية!
ومن الأمهات أيضاً وخصوصاً، من يتمتّعن بمستوى علمي وثقافي واجتماعي، لا بد لي من الإشارة إليهن باقتضاب.
ولأبدأ بالوجه السلبي، على ما يسبّب لي ذلك من ألم وحرج. فهناك أمهات تصرّفن طوال هذه الحرب المجنونة، وكأنهنّ نسين الحرب وأهوالها، فظللن يتمتّعن، في تباهٍ ولامبالاة، أو استرسلن في التمتّع، بمكاسب متنوعة، سابقة أو جديدة، يعرفن حقّ المعرفة أنها ثمرة للأساليب المخزية، التي أتقن أزواجهنّ أو أبناؤهنّ، استخدامها، للإبقاء على هذه المكاسب، أو للحصول عليها.
وأما في الوجه الإيجابي، وما أرحبه! فلا بد لي من الإشارة إلى الأمهات اللواتي انبرَيْن، في داخل سورية، وعلى امتداد العالم، للتصدي للحرب الكونية عليها، علّهنّ يقدّمن شيئاً ما! فبعضهنّ، ممّن كنّ يقمن في الغرب منذ عشرات السنين، قد آثرن العودة إلى الوطن، للإسهام في الدفاع عنه. فبذلن محاولات كثيرة ومتنوعة من أجل فتح عقول وعيون بعض الغربيين، في وجه إعلام منحاز، قاتل، لا يني يفبرك الأكاذيب، منذ ست سنوات، ويجيّش العقول والنفوس ضد سورية، بقصد تسويغ تدميرها وإلغائها… كما سعين إلى جلب فعاليات إعلامية وثقافية، وسياسية، إلى سورية، في سبيل لقاء مسؤولين فيها إضافة إلى الناس العاديين، بقصد تصحيح صورتها، وتوضيح نضالها من أجل وجودها. ومنهن أيضاً من سعين لجلب الفعاليات الطبية السورية، المقيمة في الغرب، بقصد تقديم المساعدة الضرورية والملائمة لآلاف المصابين من أبناء سورية.
ومن الأمهات أيضاً من صمّمن على تحدي الحرب، والثبات في أرض سورية، وعلى مواجهة الحرب عليها وفيها، بالكلمة وحسب. ومن يجهل أن للكلمة أحياناً، ثقلاً يتحدى ثقل الموت! فاستخدمن الكلمة، أولاً، في سعي منهن للإبقاء على عقول المواطنين ونفوسهم، حية، متيقظة، ولتحصينها في وجه كل ما من شأنه أن يفقد الناس مناعتهم الروحية، وثقتهم بالآخر، وتضامنهم مع كل مبادرة تهدف إلى إعادة اللحمة بين الناس، وإلى تمتين روابط المحبة والمساعدة على اختلاف وجوهها. ومن يؤمن بالكلمة، يعرف التنوع المدهش والفعال، الذي تستخدم فيه «الكلمة»، في شتى وسائل «التبليغ» المتاحة، وما أكثرها بين إذاعة وصحافة، وتلفاز، وفضاء إلكتروني على تنوعه، وما أشد وقعها بين مقالة وحوار وبحث قصير أو طويل، موضوع أو مترجم، ورواية وقصة قصيرة، بل و«حدّوتة» لا تخلو من لمسات أكثر من واعدة.
وكان من نتائج الحرب الكونية على سورية أن شرّدت آلاف العائلات وحرمت آلاف الأطفال من أبسط حقوقهم، مما فجر عاطفة الأمومة عند بعض الفتيات الجامعيات فرادى أو مجموعات، تبلورت بمبادرات رائعة على امتداد الوطن، تهتم بتقديم العناية بالأطفال على مختلف المستويات، بل تجاوزت رعايتهن للأبناء بالعناية بأمهاتهم أيضاً… وكان جواب إحداهن منذ شهر تقريباً على فرصة عمل مغرية في لبنان: «لمن سأترك أولادي؟!»
ومن الأمهات أيضاً وأيضاً، من وجدن لديهن القدرة على اقتحام ميدان السياسة، الذي كان أبداً وقفاً على الرجال، فخضن غمار الانتخابات، وسعين حتى إلى إنشاء أحزاب جديدة، تعيد للحرية حقيقتها، وللمشاركة في بناء الوطن، حقها على الجميع، بل واجب الجميع حيالها، وللمساهمة في بناء الجسور مع العالم الواسع، إلحاحها وضرورتها.
أو لم يقل الشاعر يوماً:
من لي بتربية النساء فإنها
في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعـددتها
أعددت شعباً طيّب الأعراق
اخترت المرأة في حياتك وهي العذراء مريم وأمك ولكنك رجل ومن البشر وتمتعت بالشباب والشخصية اللافتة والجذابة… ألم تجذبك المرأة؟
ترددت كثيراً قبل الإجابة على هذا السؤال، لا خوفاً من حقيقة ما، بل احترام لسر ما، كامن في أعماق كل إنسان.
والحقيقة أني أجبت ببعض التفصيل على هذا السؤال بالذات، في كتاب سيرتي الذاتية، الذي نشر في دمشق عام 2014، وهو بعنوان «قد يكون لي ما أقوله».
حسبي الآن إذاً، أن أوجز أموراً كثيرة تتعلق بهذا السؤال.
أولاً، تعلمت من أمي، منذ نعومة أظفاري، محبة السيدة العذراء، وتكريمها العفوي، والاستنجاد بها، الصادق والدائم، في أتفه ظروف الحياة، وفي أخطرها…
ثانياً، تعلمت خلال دراستي في الدير، في لبنان والقدس، الأسس اللاهوتية لهذه المحبة وهذا التكريم، ومن ثم مكانة السيدة العذراء الفريدة لدى اللـه، وقد اصطفاها، كما جاء في الإنجيل المقدس، وكما يقول القرآن الكريم، فوق نساء العالمين.
وثالثاً، تعلمت من أمي ومن السيدة العذراء، أن أحترم كل أنثى وأكرّمها، طفلة كانت، أم صبية، أم راشدة، أم عجوزاً، وأن أتعامل معها كما لو كنت أتعامل مع أمي بالذات، ومع السيدة العذراء بالذات.
أعرف جيداً أن مثل هذا الكلام، من شأنه أن يبدو خيالياً ومستحيلاً، أو مجرد ادعاء أو هلوسة.
إلا أن الممارسة الواقعية والدائمة، التي ترجمت من خلالها هذا الذي تعلمته، وذلك منذ عام 1952، حتى اللحظة الحاضرة من عام 2017، والتي عشتها بكل جوارحي، مع الأطفال والشبان والشابات، ومن ثم مع العائلات، ومع جميع فئات المجتمعات، على اختلاف مشاربهم، ومسؤولياتهم، وأديانهم، وانتماءاتهم، في سورية وعلى نطاق العالم، والتي جلبت لي من الحرية والصداقة والفرح، مع الشكر الدائم اللـه، ما أشتهي أمثاله، ليس فقط لكل كاهن، بل أيضاً للكثيرين من الآباء والأمهات، أقول هذه الممارسة أثبتت لي، ولمن عرفوني وتعاملوا معي، وحتى للكثيرين من مناهضي منهجي، أني لم أكن مخطئاً في ما تعلّمت وعمِلت، وعلّمت.
بالطبع، هذا اليقين لا يمكنه أن يعني أني لم أخطئ في هذا العمل – وأؤكد – في هذا العمل أو ذاك. وهل من إنسان لم يخطئ ولا يخطئ؟ إلا أني أسمح لنفسي وأجزم بكل اتضاع، وفي شكر عميق للـه، أني لم أخطئ يوماً بحق أي طفل، أو أي شاب، أو أية صبية، أو أية سيدة، أو أي رجل…
حسبي هذا اليقين الذاتي، وأنا في مثل عمري اليوم، لأذوب شكراً للـه!
كل هذا لا يعني أبداً أني، أنا الكاهن المتبتل، لم أشعر يوماً أني إنسان من لحم ودم. وليس لي أن أنكر أني كثيراً ما شعرت بما يشعر به كل إنسان طبيعي، من حاجات القلب والجسد والدفء العائلي. كما أني تعرضت بعض الأحيان، لحالات من الإحباط، في نطاق العمل، وليس فقط في نطاق سلوكي، لامَستُ فيها حدود اليأس.
إلا أني، مع كل ذلك، لم أندم يوماً على اختياري الكهنوت المتبتل، بل أني مضيت في كثير من المناسبات، إلى الإعلان الصادق والصريح، بأني لو أعطيت أن أعاود العيش مرة أخرى، لما كنت اخترت سوى الكهنوت المتبتل سبيل حياة.
وهنا لا بد لي من الإقرار بأني وُفِّقت بفضل اللـه وحده، خلال مسيرتي الطويلة هذه، بقبضة من كهنة وعلمانيين، كانوا بحق عوناً سماوياً لي، وفياً، ذكياً، ومحباً.
وأما اعتمادي المتيقظ والثابت، على ذاتي، في مواجهة هذه الظروف الصعبة والاستثنائية، فكان مصدره مثلثاً:
الصلاة الدائمة، والكتابة الصادقة لذاتي، وللآخرين، وثمار الأعمال التي قدّرني اللـه أن أقوم بها.
الوطن