بداية القابضة

رئيس التحرير : عبد الفتاح العوض

رئيس مجلس الإدارة : د. صباح هاشم

من نحن اتصل بنا
أجنحة الشام

مكان.. بدرُ «جيكور» وقد اكتمل نخيلاً وحزناً

الجمعة 03-03-2017 - نشر 8 سنة - 6065 قراءة

جلُّ ما دار في ذهني وشغلني كل الوقت اللازم للوصول إلى «جيكور»- حوالي 45 دقيقة بين البصرة وجيكور- هو تلك الصورة الراسخة في ذاكرتي والتي رسمها شاعرها الأهم «بدر شاكر السياب» وهو يصف عينيْ حبيبته:

عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر‏

ما هو لون عيني تلك الحبيبة؟ ماذا يشبه؟ كيف يمكن للنخيل بلونه الأخضر الخاص أن يبدو في ضوء السحر؟! ثم: هل كان يقصد حبيبة بعينها, امرأة بعينها, أم هي كلمات الشعر والعاطفة التي لم ترتوِ يوماً عند السياب؟!‏

في الطريق إلى «قضاء أبي الخصيب» وقرية «جيكور» تسابقت الحافلات الثلاث والسيارات الصغيرة التي تحمل على متنها ضيوف مهرجان المربد الثالث عشر (1-4 شباط 2017) تواكبها سيارات الشرطة من هنا وهناك لتعمل على تسهيل مرور الحافلات على الطرق المزدحمة, وقد اختاروا طريقاً أقل ازدحاماً كما فهمت.‏

هي قرية كأي قرية, ثمة نخيل يطاول أعناقه خارج أسوار.. شوارع بل أزقة ترابية ضيقة.. بيوت متقشفة في كل شيء..رجال يقفون في ضوء الشمس ربما للتمتع بدفئها في ذلك الطقس الجميل.. وأطفال تقفز مئاتُ كراتِ الفضول من عيونهم... يلوّح بعضهم لركاب الحافلات.‏

قرب سياجٍ هشيميٍّ من سعف النخل اليابس الذي تنتصب خلفه أشجار نخيل خضراء, توقّف الموكب ونزل الضيوف. لا ألوان كثيرة في المكان.. كل شيء قريب من لون التراب ولون النخيل الباهت. اللافتات البيضاء الكبيرة التي تصدّرتها كتابات ملونة ترحب بضيوف المربد, هي فقط ما كسر رتابة المشهد.‏

جدران ترابية- هكذا بدت- وعوارض خشبية تخرج منها بمسافة متساوية ومتتالية.. الآن جدار حجري وباب خشبي كبير مزيّن بورد صناعي.. على جانبيه أصيصان كبيران لنباتات خضراء.. جوقة من الأطفال يصفقون مرحبين بزوّار بيت السياب.‏

البيت من الداخل رحب فسيح على شكل مربع, تشكِّل الغرف الكثيرة والأدراج أضلاعه الأربعة, بينما تبقى الباحة الداخلية حرة مفتوحة على السماء. أبواب كثيرة مستطيلة قمتها على شكل قنطرة.. أعمدة خشبية تدعم السقف. علمت من بعض أبناء البصرة, أن بيت أهل بدر شاكر السياب كان مبنياً من (الطابوق- اللبن) وقد تم ترميمه وتجديده قبل سنتين ربما أو ثلاث, وسمعت إحداهن تقول: لو أنهم أبقوا على البيت كما كان, لكان ذلك أجمل!‏

عبر درج ضيق وحادٍّ صعدت إلى الطابق الثاني.. إلى سطح البناء لأرى البيت من الأعلى حيث اصطفت الكراسي استعداداً لبدء فعاليات هذه الزيارة أي قراءات لبعض الشعراء المشاركين في مهرجان المربد. من هنا تبدو القرية صغيرة وفقيرة وأشجار النخيل تنتصب هنا وهناك.. قيل إن العراق فقد مساحات كبيرة جداً من أشجار النخيل خلال فترات الحرب التي خاضها العراق على مدى سنوات طويلة.. لقد سمعت هذه المقولة أكثر من مرة.. حين عبرت الطريق من بابل إلى بغداد عام 2015, وحين زرت شارع أبي نواس في بغداد نهاية كانون الثاني الماضي.‏

على منبر الشعر قُرئت القصائد, وكان في ذلك تكريم لهؤلاء الشعراء, فليس سهلاً أن تقف على منبر وسط بيت بدر شاكر السياب لتلقي شعراً على مسامع روحه المحلقة في المكان.. الشاعر الذي أحدث ثورة في الشعر العربي, وتقاسم الريادة مع نازك الملائكة في انتقال الشعر العربي من مرحلته التقليدية إلى مرحلة الحداثة وكسر الجمود والرتابة.. لكنني أعتقد أن أحفاد السياب لم يخرج أغلبهم من عباءة من سبقوهم شعرياً!‏

لم تتح لي (ولنا جميعاً) أن ندخل الغرف الكثيرة للبيت ونرى ما بداخلها- إن كان بداخلها شيء ما- خرجنا مع نهاية الإلقاء الشعري لنتمشى في الطريق الترابي نحو ما كان نهر «بويب». الأرض صعبة وغير مستوية, والوصول إلى ضفة البويب لم يكن سهلاً رغم المسافة قصيرة, لكن وعورة الأرض كانت عائقاً أمام عدد كبير, لكنني مضيتُ ووقفت على حافة ما تبقّى من ذلك النهر الذي خلّده السياب في أشعاره.‏

أنظر حولي كأنني ألتقط للمكان صورة بانورامية, أدور حول نفسي دورة كاملة لأحفظ كل شيء في مدى الرؤية.. أتساءل: كيف كانت هذه القرية أيام السياب؟! لابد أنها كانت أجمل مما هي عليه اليوم.. فحنينه الجارف ل»جيكور» مسقط رأسه ظل يظهر في أشعاره حتى وفاته.‏

حُرم السياب من أمه وهو طفل صغير.. ولعل لعدم وسامته دوراً في حرمانه من الحب العاطفة الأسمى, وهذا ربما ما جعله حزيناً وميالاً للتشاؤم كما قال أحد دارسي شعره وحياته.‏

في طريق العودة, سمعت حديثاً جانبياً مفاده أن السياب أحب شاعرة العراق المعروفة «لميعة عباس عمارة» لكنها لم تبادله ذلك الحب, وقد أثّر ذلك فيه, لكن المتحدث قال أيضاً: لعلها ندمت بعد ذلك, لأنها تباهت بأنه أحبّها وكتب فيها قصائد جميلة.‏

فهل كانت العينان اللتان تشبهان غابتي نخيل ساعة السحر هما عينا «لميعة»؟ من يدري؟!‏

ذهب الشاعر.. لكن الشعر باقٍ.. وبقيت جيكور وبويب والبصرة رغم كل ما حصل خلال السنوات التي فاقت الخمسين على رحيل السياب.‏

الثورة


أخبار ذات صلة

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

إشراف.. الأستاذ الدكتور رشاد محمد ثابت مراد

المايسترو ميساك باغبودريان:

المايسترو ميساك باغبودريان:

من المحزن عدم وجود أي برنامج يتحدث عن الموسيقا في قنواتنا التلفزيونية