عن العلاقة التي قدمت للإنسانية قواعد جديدة للعشق والتسامح: الرومي والتبريزي
عن العلاقة التي قدمت للإنسانية قواعد جديدة للعشق والتسامح: الرومي والتبريزي
السبت 06-01-2018
- نشر 7 سنة
- 1676 قراءة
"عندما تلج دائرة الحب، تكون اللغة التي نعرفها قد عفى عليها الزمن، فما لا يمكن التعبير عنه بكلمات، لا يمكن إدراكه إلا بالصمت"، من قواعد العشق للتبريزي والرومي.
"إن عشاق الله لا ينفد صبرهم مطلقاً لأنهم يعرفون أنه لكي يصبح الهلال بدراً فهو يحتاج إلى وقت"، من قواعد العشق للتبريزي والرومي
شاءت الأقدار أن تقع تجربة روحية عميقة في آسيا الصغرى، وبالتحديد في مدينة قونية، بعد لقاء بين شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي، لينتج عنه تجربة روحية صوفية مؤثرة امتدت عبر القرون لتبقى دليلاً ومرشداً ونموذجاً يحتذى لأتباع مذهب العشق الإلهي على اختلاف أجناسهم وأديانهم وأوطانهم، حيث تم استدعاء تلك التجربة الفريدة في العديد من الأعمال الأدبية والإبداعية، ولعل أبرزها كان رواية "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية إليف شافاك.
يستحضر المقال عدداً من الروايات عن ذلك اللقاء، ويطلّ على قيم التسامح والحب التي قدمها العالمان، وما نتج عن صداقتهما من نصوص شعرية خالدة في الذاكرة الإنسانية.
لكي تولد نفس جديدة، يجب أن تختبر الألم. فكما يحتاج الصلصال إلى حرارة عالية ليشتد، كذلك الحب لا يكتمل إلا بالألم
كانا متفاوتين في السن، وفي الأصل، والبلد، وفي الظروف والمذهب والمكانة العلمية، ولكن مع ذلك شاءت الأقدار أن يلتقيا وأن يغيرا معاً مفاهيم العشق والروحانية. اكتسبت قصة لقائهما وصداقتهما سحرها الخاص في المخيلة الشعبية، ووصل التماهي بينهما إلى حدّ أنّ عدداً من قصائد التبريزي نسبت للرومي، بحسب دراسة لعبد الله قوچاني، بعنوان "سفالگران كاشان وشعر فارسى" في مجلة "نشر دانش".
ما قبل اللقاء: عالم سني ومتصوف شيعي
في بلخ التابعة لأفغانستان الحالية، عاش العالم بهاء الدين البلخي البكري، والذي قيل إن نسبه ينتهي إلى الخليفة الأول أبي بكر الصديق، ووسط مشاحنات لا تنتهي ما بينه وبين علماء المدينة، ومخاوف مستمرة من هجوم المغول، اتخذ بهاء الدين قراراً بالانتقال إلى بقعة أكثر أماناً، فاصطحب معه أسرته وتنقل من مكان إلى أخر، ثم استقر في 626هـ في مدينة قونية الواقعة في آسيا الوسطى، ملبياً دعوة وجهها له حكامها السلاجقة.
في سن مبكرة، استطاع ابن بهاء الدين، محمد، الذي عُرف فيما بعد بجلال الدين الرومي، وإن اشتهر بين أتباعه باسم "مولانا"، أن يدرس الفقه والشريعة والحديث والتفسير على يد والده، ولم يمر وقت طويل على وفاة بهاء الدين، حتى خلفه جلال الدين في مناصب الفتيا والتدريس في قونية، حيث اشتهر بكونه واحداً من كبار علماء المذهب الحنفي في المنطقة.
"آمن بقيمك ومبادئك لكن لا تفرضها على الآخرين"، من قواعد العشق للتبريزي والرومي
خلال تلك الفترة المبكرة من حياة "مولانا"، سُلّطت عليه الأضواء لكونه عالم دين وفقيه، ولم يرتبط اسمه بالخط الصوفي، باستثناء بعض الإشارات العابرة التي ربطته بالتلمذة على يد الصوفي الشهير برهان الدين محقق ترمذي، والذي كان من أقرب أصدقاء والده الراحل.
وبينما كان يعلو صيت الرومي شيئاً فشيئاً—إلى درجة يصفها شمس الدين الأفلاكي في كتابه "مناقب العارفين"، بإن 'الخاص والعام أحبّه، وزاد عدد طلابه المنتظمين على الأربعمائة"— قدم إلى قونية في 639هـ شيخ كبير في السن، أشعث أغبر، يهيم على وجهه، وتثار تساؤلات الناس حول هويته.
هذا الشيخ كان شمس الدين التبريزي، الذي يذكر محمد حسن الأعظمي في كتابه "الأعلام الخمسة للشعر الإسلامي"، أنه كان صوفياً، وأنه كان يعتنق المذهب الشيعي الإسماعيلي، بينما يؤكد عطاء الله تدين في كتابه المعنون "بحثاً عن الشمس، من قونية إلى دمشق"، أنه كان ينحدر من سلالة كيا بزرك أوميد حاكم قلعة ألموت في إيران.
ولكن ماذا كان التبريزي يطلب من رحلته؟ يجيب الرومي على هذا السؤال في ديوانه، عندما يذكر أنه لما سأل التبريزي عن هدف رحلته، أجابه الأخير قائلاً "كنت أطلب شخصاً من جنسي، لكي أجعله قبلة وأتوجه إليه، فقد مللت من نفسي".
ما بعد اللقاء: جسدان وروح واحدة تكرز للحب
على الرغم من شهرة لقاء التبريزي والرومي، إلا أن المراجع التاريخية والصوفية لا تحمل لنا إلا أقل القليل عما دار به من تفاصيل ودقائق. بعض التقاليد الصوفية، تذكر أن اللقاء الأول بين الرجلين قد تم في سوق قونية أثناء مرور جلال الدين الرومي في معية تلاميذه، وأن مولانا لما شاهد التبريزي، سقط عن راحلته مغشياً عليه، وقال بعدها لأصحابه أنه أحس بنور الشمس يملأ عينيه.
وعلى الرغم من ضعف تلك الرواية—التي يرجّح أنّها "متخيلة" في وقت لاحق على اللقاء—إلا أنه من المؤكد أن الرومي قد أعجب بالتبريزي منذ الساعة الأولى، لدرجة أنّه أصرّ على استضافة التبريزي في منزله.
تُرى ما الذي جذب الرومي في الشيخ الفارسي الهائم على وجهه؟ يجيب مولانا نفسه على ذلك السؤال في ديوانه، عندما يصف صاحبه بقوله: "شيخ الدين وبحر معاني رب العالمين، الأرض والسماء تبدو أمامه وكأنها قشّة، لو أظهر جماله دون حجاب لما بقي شيء في مكانه، ولا ينبغي أن نفلت ذيل ثوبه من أيدينا إن أردنا إدراك الحقيقة. لو طلع الشمس لانعدمت الظلال. إن النجوم وإن كانت بلا عدد فإن قوتها على التجلّي أمام الشمس منفردة منعدمة".
هكذا، وبدون سابق تحضّر أو تهيئة، دخل العالم السني الحنفي في دوامة الروحانيات التي استدعاها التبريزي إلى قونية، فصار مريداً في حضرة الشيخ الإسماعيلي القادم من تبريز، وشيئاً فشيئاً بدأ الرومي في التجرد من علوم الظاهر ليتعمق في المعاني الباطنية الخفية، التي تدور كلها في فلك فكرة العشق الإلهي.
ولم تمض فترة ستة أشهر، حتى بدأت معالم الطريقة الصوفية الجديدة تظهر في الآفاق، وهي الطريقة التي عُرفت بالمولوية، نسبة إلى مولانا الرومي.
مولانا، لم يكتف كغيره من شيوخ الصوفية المعاصرين له، بقراءة الأوراد والأدعية والأذكار، بل أنه أحدث في طريقته عدداً من الممارسات المختلفة، وذلك عندما مزج العبادة بالشعر والنثر والغناء والموسيقى، إلى الحد الذي جعل المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر، يصف الرومي بأنه "بلبل الحياة التأملية".
"لو أظهر جماله دون حجاب لما بقي شيء في مكانه"، هكذا وصف الرومي التبريزي
طريقة الرومي في التعبير عن التوحد والذوبان في بحار العشق الإلهي، تبدت واضحة في رقصات أتباعه الدائرية، التي تحاكي حركة الكون والأفلاك، والتي تعتمد على الانتقال الحركي من الأسفل إلى الأعلى، في إشارة لما يشعر به المريد عند تركه لمفردات الواقع المادي (البائس) الذي يحيط به، وانتقال روحه الهائمة إلى آفاق أخرى من الحس الغيبي الذي يحلّق في عوالم أخرى غير منظورة.
أفكار الرومي وصديقه التبريزي، لم تتجسد في الرقصات فقط، بل تجلّت في كتاب "المثنوي" الذي ضم بين دفتيه ألاف الأبيات الشعرية التي تغنت في العشق والحب، وقد لقي هذا الكتاب المكتوب باللغة الفارسية من الانتشار والذيوع ما يفوق الوصف والحصر، حتى عُرف باسم "قرآن العجم".
إعادة قراءة لصداقة الرومي والتبريزي
يرى الأكاديمي مصطفى وزيري في كتابه "ثورة رومي وشمس الصامتة" Rumi and Shams’ Silent Rebellion، أنّ أغلبية من كتب عن الرومي حديثاً وصفه بالصوفي الملتزم بالعقيدة الدينية، ولكنه يرى أنّ تلك القراءة محدودة، حيث أنّ غزل الرومي ونثر التبريزي يزوداننا بأرض خصبة لإعادة قراءة فلسفة العالمين وإعادة النظر في علاقتهما. ولأن الرومي لم يعطنا أيّة تفاصيل عن لقائه مع شمس أو عمّا تعمله منه، وجد المؤرخون هامشاً واسعاً للتفنّن في إعادة تخيّل ذلك اللّقاء التاريخي.
يقول وزيري إنّه بعد موت الرومي بفترة قصيرة، أرّخ كاتبي سيرته العثمانيين: فيريدون إسباسلار وشمس الدين أفلاكي، حياته ولقاءه مع التبريزي، لكنّهما بالغا في تخيّل القصة، وصبغاها بآرائهما الخاصّة، كما أنهما قد أضافا إليها تفاصيل تناقلتها الثقافة الشعبية عن اللقاء، فجاءت السيرة متجاوبة مع مكانة ورمزية ذلك اللقاء في ذلك الوقت.
ليس بين يدينا لتحليل ما دار بين الرجلين سوى أشعار الرومي ومقالات التبريزي، وما عدا ذلك يبقى أدلة ظرفية. يرجّح وزيري أنّ مؤرخي سيرة حياة رومي قد حذفا أصول التبريزي غير الصوفية وبعضاً من أرائة وأقواله غير الدينيّة لكي "يقدماه" في صورة متوافقة بالكامل مع سياسات الحاكم العثماني آنذاك، ومن المحتمل أنهما قد أضفيا عليه بالمقابل ذلك الطابع الاستثنائي الساحر.
ولكن بالرغم من وجود ثغرات ملحوظة في قصة لقاء التبريزي والرومي، يمكن الجذم بأنّ "العشق" بمعناه الروحي كان محور النقاش الذي جمع العالمين، وتسبب في تغيير فلسفة الرومي كما عبّر عنها في ديوانه.
النهاية عندما غابت الشمس
في كتابه سابق الذكر، يصف الأعظمي النهاية المؤسفة التي آلت إليها العلاقة ما بين التبريزي والرومي، عندما يؤكد أن تلاميذ وطلبة الرومي لم ترقهم المكانة التي تمتع بها التبريزي لدى أستاذهم، لدرجة أنهم كانوا ينتهزون كل فرصة ممكنة لأذيته والإيقاع به والتشنيع عليه، مما اضطره في نهاية المطاف لترك قونية والسفر إلى العراق وبلاد الشام، رغم حزن الرومي وطلبه مراراً منه أن يبقى في صحبته.
يتوسع عطاء الله تدين في شرح تلك النقطة تحديداً، عندما يؤكد أن الحقد على التبريزي لم يكن قاصراً على طلبة الرومي فحسب، بل أن عوام قونية وسفهاءها قد اشتركوا به أيضاً، لأنهم قد غضبوا من التحول العنيف الذي أصاب عالم قونية وشيخها، فقد اعتقدوا أن التبريزي مثله مثل الساحر الذي تسببت أقواله وأشعاره في قلب حال شيخهم رأساً على عقب، فتحول من رجل دين ملتزم منضبط إلى صوفي غارق في بحار الحب الإلهي.
"إن جهنم تقبع هنا والآن، وكذلك الجنة؛ ففي كل مرة نحب، نصعد إلى السماء؛ وفي كل مرة نكره أو نحسد أو نحارب أحداً، فإننا نسقط مباشرة في نار جهنم"، من قواعد العشق للرومي والتبريزي
هذا الفراق الأليم المفاجئ ما بين الشيخ والمريد، تسبب في مرض وحزن الرومي، الذي اعتزل الناس جميعاً وبقي وحيداً في بيته لا يقابل أحداً، مما أجبر ابنه (سلطان ولد) على السفر إلى دمشق حاملاً معه رسائل أبيه الحزينة التي تقطر بدموع اللوعة واللهفة، وتطالب التبريزي بالرجوع.
كل تلك التوسلات جعلت التبريزي يعود مرة أخرى إلى قونية، حيث بقي ما يقرب من سنتين في معية صاحبه الأثير، ولكن سرعان ما تجددت المشكلات ما بينه وبين الطلبة والتلاميذ مرة أخرى، ويبدو أن تلك الاختلافات كانت أقوى وأشد من سابقتها، وتختلف الأراء فيما وقع في تلك الفترة، حيث يذهب البعض إلى أن التبريزي قد سافر إلى مدينة خوي وبقي هناك حتى توفي ودفن بها، أما بعض الأقوال فترى أنه قد قتل على يد طلبة الرومي في عام 645هـ.
وبغض النظر عن كيفية اختفاء التبريزي، فإن مولانا الرومي قد اشتد به الألم على غيبة مرشده الروحي، ونظم في ذلك الكثير من الأشعار الموجعة، والتي جمعت بعد ذلك في ديوان عرف بشمس التبريزي، وكان من أعذب ما ورد فيه، قول الرومي لما رفض تصديق وفاة التبريزي (بحسب ترجمة محمد السعيد جمال الدين):
من ذا الذي قال إن شمس الروح الخالدة قد ماتت
ومن الذي تجرأ على القول بإن شمس الأمل قد تولت
إنّ هذا ليس إلا عدواً للشمس وقف تحت سقف
وعصب كلتا عينيه ثم صاح ها هي الشمس تموت
رصيف 22