اطلالة على أجمل ما أنشده فنانوا اليوم من أشعار متصوفة التاريخ الإسلامي
اطلالة على أجمل ما أنشده فنانوا اليوم من أشعار متصوفة التاريخ الإسلامي
السبت 09-12-2017
- نشر 7 سنة
- 5920 قراءة
لما كانت الصوفية، في حقيقتها، مذهباً وجدانياً، يُهمل أصحابه الجوانب المادية والمحسوسة بقدر المستطاع ليركزوا على المعنويات والروحانيات، فإنه ليس من العجيب إذاً، أن نجد أن كبار الصوفيين قد عملوا على نقل أحاسيسهم ومشاعرهم من خلال قصائد شعرية عذبة، تخاطب أبياتها القلوب والأرواح، لتحلق بنفوس السامعين إلى عوالم بعيدة وآفاق لا حدود لها.
أشعار الصوفية التي تواترت في كتبهم ومؤلفاتهم، احتوت على العديد من المضامين والرسائل العميقة، وكان أهمها التأكيد على أهمية العشق الإلهي، والعلاقة الوطيدة التي تربط المحب بالمحبوب، وكذلك التسامح مع الأديان والمذاهب الأخرى.
في هذا المقال نقدم سبعة نماذج شعرية متميزة، لأربعة من كبار الصوفيين الذين أنجبتهم الحضارة العربية الإسلامية.
"عرفت الهوى" لرابعة العدوية
تُعد رابعة العدوية التي عاشت في القرن الثاني الهجري (تـ. في حدود 180هـ/ 796م)، من أشهر رموز الصوفية على مدار التاريخ الإسلامي.
ورغم أنه لا توجد الكثير من التفاصيل عن حياتها ونشأتها، فإنه يظهر من المعلومات التي أوردها أبو عبد الرحمن السُلمي في كتابه ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات، أنها قد ولدت في أسرة فقيرة بالبصرة، وأنها قد سُميت برابعة لكونها البنت الرابعة لأبيها.
وتؤكد الأخبار التاريخية، أن رابعة كانت شيخة لعدد من فقهاء عصرها، ومنهم سفيان الثوري، الذي ورد أنه قصدها كثيراً، للسؤال عن بعض ما أُشكل عليه فهمه من أمور الدين.
وتُعد رابعة صاحبة مدرسة صوفية متميزة، تختلف كثيراً عما سبقها من أشكال الممارسات الروحية الإسلامية، حيث اعتمدت مدرسة رابعة، على مركزية الحب، حتى عُرفت باسم شهيدة الحب الإلهي، وكانت تلك المدرسة تقوم على ملء قلب الصوفي بحب الله وحده، بحيث لا يشترك معه في هذا الحب أحد من خلقه.
وقد حُكيت عن رابعة العديد من أبيات الشعر الصوفي، التي لاتزال أصداؤها تتردد في ساحات المجالس واللقاءات الصوفية، ومن ذلك قولها:
عرفت الهوى مذ عرفت هواكا وأغلقتُ قلبيَ عمَّن سواكا
وقمت أناجيك يامن ترى خفايا القلوبِ ولسنا نراكا
أحبك حبين حب الهوى وحباً لأنك أهل لذاكا
....
وأشتاق شوقين شوق النوى وشوقا لقرب الخطى من حماكا
ولست على الشجو أشكو الهوى رضيتُ بما شئتَ لي في هداكا
قصائد الحلاج المصلوب
كان الحسين بن منصور، والذي عُرف واشتهر باسم الحلاج، من أكثر الصوفية الذين تضاربت الأقوال فيهم، فبينما أكد الكثير من المؤرخين والكتاب المعاصرين له، ابتداعه وزندقته وخروجه عن صحيح الدين، فإن عدداً أخر من الصوفية قد أصروا على اعتباره واحداً من شهداء العشق الإلهي، وأنه كان صاحب رسالة روحية سامية، لم يفهمها المعاصرون له، فاستحلوا دمه وقاموا بقتله ظلماً وعدواناً في 320هـ/ 932م.
وقد خلّف لنا الحلاج، تراثاً مميزاً من الأشعار الصوفية التي ذاعت بين الصوفية شرقاً وغرباً، ومن أشهر تلك الأشعار وصفه لحال انشغاله الدائم بالذات الإلهية، بقوله:
والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبّـك مقـرون بأنفاسـي
ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهــم إلا وأنت حديثي بين جلاســي
ولا ذكرتك محزوناً ولا فَرِحا إلا وأنت بقلبي بين وسواســـي
ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكـــأس
ما لي وللناس كم يلحونني سفها ديني لنفسي ودين الناس للنـــاس
هنا إنشاد لـ"والله ما طلعت شمس ولا غربت"، من ألحان الموسيقار عمر خيرت.
وفي قصيدة أخرى، يصف الحلاج علاقته بالخالق، قائلاً:
عجبتُ منك ومنـّـي يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي
أدنيتـَني منك حتـّـى ظننتُ أنـّك أنـّــي
وغبتُ في الوجد حتـّى أفنيتنـَي بك عنـّــي
يا نعمتي في حياتــي وراحتي بعد دفنـــي
ما لي بغيرك أُنــسٌ من حيث خوفي وأمنـي
يا من رياض معانيـهْ قد حّويْـت كل فنـّـي
وإن تمنيْت شيئــــاً فأنت كل التمنـّـــي
"ته دلالاً" و "عذب بما شئت" رائعتي ابن الفارض
صاحب كلّ من القصيدتين هو الشاعر الصوفي الكبير أبو حفص عمر بن الفارض، الذي اشتهر بلقب سلطان العاشقين.
ولد ابن الفارض في القاهرة، لأسرة شامية ترجع أصولها إلى مدينة حماة، وتتلمذ على يد والده الذي كان من كبار علماء الفقه والحديث في عصره، وبعدها انجذب لعوالم الصوفية فتنقل بين المدن والبلدان، وأنشد الأشعار الصوفية التي ذاعت أخبارها، وكانت وفاته في 632هـ/ 1234م.
ومن أجمل القصائد التي أنشدها ابن الفارض، قصيدته المعنونة بـ "ته دلالاً"، والتي جاء في أولها:
تهْ دلالاً فأنتَ أهلٌ لذا كا وتَحكّمْ، فالحُسْنُ قد أعطاكَا
وبما شئتَ في هواكَ اختبرني فاختياري ما كان فيهِ رضاكا
فعلى كلِّ حالة ٍ أنتَ مني بي أولى إذْ لمْ أكنْ لولاكا
وكفّاني عِزّاً، بِحُبّكَ، ذُلّي، وخُضوعي، ولستُ مِن أكْفاكا
وإذا ما إليكَ، بالوَصلِ، عزّتْ نِسْبتي، عِزّة ً، وَصحّ وَلاكا
فاتهامي بالحبِّ حسبي وأنّي بينَ قومي أعدُّ منْ قتلاكا
لكَ في الحيِّ هالكٌ بكَ حيٌّ في سَبيلِ الهَوى اسْتَلَذّ الهَلاكا
أما قصيدة "عذب بما شئت"، فكانت من أعذب ما أنشده سلطان العاشقين على الإطلاق، والتي جاء فيها:
ما بينَ مُعْتَرَكِ الأحداقِ والمُهَجِ، أنا القَتيلُ بلا إثْمٍ ولا حَرَجِ
ودَّعْتُ، قبلَ الهَوى، رُوحي، لما نَظَرَتْ عيناي منْ حسنِ ذاكَ المنظرِ البهجِ
لِلّهِ أجفانُ عينٍ، فيكَ، ساهِرَة، شَوْقاً إليكَ، وقَلْبٌ، بالغَرامِ، شَجِ
وأضْلُعٌ نَحِلَتْ كادتْ تُقَوِّمُها، مِنَ الجَوى، كبِدي الحرّى، مِنَ العَوَجِ
وأدمعٌ هملتْ لولا التَّنفسُ منْ نارِ الهَوى، لمْ أكَدِ أنجو منَ اللُّجَجِ
وحبَّذا فيكَ أسقامُ خَفيتُ بها عنّي تَقومُ بها، عِنْدَ الهَوى حُجَجي
أصبحتُ فيكَ كما أمسيتُ مكتئباً ولَمْ أقُلْ جَزَعاً: يا أزْمَة ُ انْفَرِجي
أهفو إلى كلِّ قلبٍ بالغرامِ لهُ شغلٌ وكلِّ لسانٍ بالهوى لهجِ
عذِّبْ بما شئتَ غيرَ البعدِ عنكَ تجدْ أوفى مُحِبٍ، بما يُرْضيكَ مُبْتَهِجِ
وخذْ بقيَّة َما أبقيتَ منْ رمقٍ لا خيرَ في الحبِّ إنْ أبقى على المهجِ
قصائد ابن عربي: رموز معقدة ودعوة للتسامح
يُعد الشيخ الأندلسي محي الدين بن عربي، والذي يُعرف في الأوساط الصوفية بلقبه الأشهر الشيخ الأكبر، هو واحد من أعظم الصوفيين الذين ظهروا في الحضارة العربية الإسلامية على الإطلاق.
ابن عربي كان قد ترك الأندلس في نهاية القرن السادس الهجري، راحلاً إلى المشرق، ابتغاء للحج وزيارة البقاع المقدسة، ليبدأ رحلة ملحمية روحانية عظيمة، استمرت لمدة تزيد عن العشرين عاماً، زار فيها بلاد الشام والحجاز ومصر وبلاد المغرب وأجزاء من الأناضول.
وقد اختتم ابن عربي رحلته تلك في بلاد الشام، عندما استقر في مدينة دمشق حيث قضى بها ما يقرب من سبعة عشر عاماً، وتوفي ودفن فيها في عام 637هـ/ 1240م.
أشعار ابن عربي، وردت بكثرة في موسوعته الضخمة المعنونة بالفتوحات المكية، كما أنها قد تناثرت في بعض مؤلفاته الأخرى. ويمكن أن نلاحظ أمرين أساسيين يميزان أشعار ابن عربي، وهما الرمزية، والميل للتسامح والتصالح مع الأديان والعقائد المختلفة.
من أهم قصائد ابن عربي المُلغزة، والتي تحتاج مجهوداً كبيراً في فهم ألفاظها ومفرداتها ومعانيها، تلك التي يقول فيها:
فللهِ قومٌ في الفراديسِ مذ أبتْ قلوبهم أن تسكن الجوَّ والسما
ففي العجلِ السرُّ الذي صدعتْ له رعودُ اللظى في السفلِ من ظاهر العجى
وأبرقَ برقٌ في نواحيهِ ساطعٌ يجلِّلُهُ من باطنِ الرجلِ في الشوى
فأولُ صوتٍ كان منه بأنفه فشمته فاستوجبَ الحمدَ والثنا
وفاجأهُ وحيٌ من اللهِ آمرٌ وكان له ما كان في نفسه اكتمى
فيا طاعتي لو كنتِ كنتُ مقرباً ومعصيتي لولاكِ ماكنتُ مجتبى
فما العلم إلا في الخلافِ وسرِّه وما النورُ إلاَّ في مخالفة ِ النهى
أما دعوته للتسامح، فتظهر في قصيدته المسماة بـ"أدين بدين الحب"، والتي وجه فيها ندائه لاحتضان روح المحبة، واستشفافها في كل شيء. ومما جاء في تلك القصيدة:
لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة ٍ فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ
وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة ُ طائفٍ وألواحُ توراة ٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني
رصيف 22