نزيه شهبندر .. رحلة دمشقي عتيق يروي مواكبته للفن السابع في بلادنا
ولد نزيه شهبندر في 7 تموز 1913 في مدينة دمشق، وارتبطت حياته بصورة واضحة في السينما التي كانت تحبو في بلادنا بهدوء، فقد كان أول عرض لفيلم سينمائي في سورية في مدينة حلب في العام 1908، أمّا أول تجربة لصناعة وإنتاج فيلم سينمائي سوري كان في دمشق عام 1928 في فيلم حمل عنوان «المتهم البريء» الذي صورته سيّدة دمشقيّة، فاعترضت عليه الرقابة الفرنسيّة آنذاك، ليعاد تصويره من جديد من سيدة يوغسلافيّة! وكانت صبغة الأفلام آنذاك صامتة، وبلوني الأبيض والأسود. أمّا بصمة نزيه شهبندر فكانت من خلال إنتاج أول فيلم سوري ناطق في عام 1948 بعنوان نور وظلام. والشهبندر كان بوعيه للسينما يعلم تماماً أنها الكائن الذي سينمو من دون توقف، سواء في بلادنا أم في أي مكانٍ من العالم. وسنورد في هذه العودة أهم التفاصيل التي ارتبطت بحياة واحد من أهم مؤسسي السينما في سورية نزيه شهبندر.
بداية
وثّق فيلم نور وظلال الذي أنتج في عام 1994 بمناسبة مرور 100 عام على ظهور السينما في العالم، تفاصيل دقيقة من حياة نزيه شهبندر ومنه اقتطفنا بعض الذكريات إذ يقول الشهبندر إنه كان يقطع أفيشاً لدخول صالة السينما في دمشق ويجلس في آخر مقعد والسبب هو رغبته في مراقبة الآلات والمكنسيان الذي يعمل عليها والذي كان يترك الباب مفتوحاً في أيام الصيف الحار ما يتسنى له المراقبة والمتابعة بشغف فيشاهد آلية تركيب القطع وتركيب الفيلم وانعكاس الصور من أشجار وسيارات وأشياء أخرى كثيرة، وكان هو في الأصل مغرماً بالكهرباء وهي الاختراع الجديد الذي دخل البلاد حديثاً، ويقول عن هذه البداية: «عندما شاهدت هذه الآلية وقعت في غرام السينما وكان عمري 11 عاماً».
بعدها اتبع نزيه الشهبندر خطه المهني في تعلم الكهرباء وكيفيّة التعامل معها لدى أحد أصدقاء والده الذي رشحه لذلك بغية العمل وكسب المال وتحقيق رغبته في مجال الكهرباء، وبقي عامين في هذه المهنة ليتم افتتاح سينما جديدة في دمشق هي سينما (جنينة الفرح) وليعمل فيها كعارض سينمائي.
مشاهد أولى للسينما في دمشق
يروي نزيه شهبندر في فيلم «نور وظلال» كيف كانت ردة فعل الناس على الأفلام الأولى التي جاءت دمشق، ففي العام 1932 دخلت آلات سينمائية بماركة فرنسيّة Gaumont Paris وعرض أول فيلم ناطق حينها، وكان يحمل اسم «ثقب في حائط» وجاءت الناس لترى الحدث بردة فعل الاستهجان والاستغراب، وبعدها ببضعة أسابيع دخل الفيلم المصري أنشودة الفؤاد وكان الفرح والتصفيق أيضاً مع تحية للاختراعات الفرنسيّة وللسينما لأن هذه الآلات من صنع فرنسا.
اختراع نزيه شهبندر
تذكر مشاهد الفيلم التسجيلي أيضاً قصة الاختراع التي استهوت نزيه شهبندر في صنع آلة تسجيل صوتيّة على فيلم السينما الضوئي، وكيف عاد بما حملته لذاكرته في تجارب الفحم الكربوني المشتعل وأنه يصنع الإشارة التي يتلقاها من أي مصدر كهربائي قريب منه، وعندها حصل على مضخم صوتي وجمع عدة أدوات متواضعة معها ووجه الصوت على الفحم ليلتقط إشارة نقية صوتية على شريط السينما، مستعيضاً بذلك عن آلات كبيرة ضخمة لم تكن تتوافر في أكبر دول العالم آنذاك، وتم استخدام اختراعه هذا في تسجيل الأغاني وأفلام عديدة في سورية ومصر ولبنان.
لبنان ومصر
هلّت عروضات العمل على نزيه الشهبندر منذ العام 1942 في كل من لبنان ومصر، وسافر إلى لبنان أولاً ومنها إلى مصر بعد أن طلب منه أحمد جلال أن يصور له عدّة مشاهد للبنان في ذلك الوقت، ويروي في الفيلم ذاته «نور وظلال» كيف استقدمه أحمد جلال إلى الاستديو الخاص به في مصر ومفاجأته بتواضع الاستديو وظروف العمل في مصر، ليحلم بالعودة إلى دمشق مجدداً لتحقيق طموحه في صناعة أفلام سوريّة، وفعلاً يعود إلى موطنه ليستأجر صالة خاصة به، قام فيها بعرض الأفلام وحفظ الأدوات السينمائيّة الخاصة به، مشيراً إلى أنه قد قرر تقديم صناعة سورية سينمائيّة.
نور وظلام
نزولاً عند رغبة المستثمر تمّ تقديم فيلم نور وظلام المنتج في العام 1948 الذي شارك في بطولته كلّ من الممثلين: سعد الدين بقدونس، وعبد الهادي الدركزلي، ورفيق شكري، وإيفيت فغالي، ومصطفى هلال، وحكمت محسن… وغيرهم وهو من تأليف محمد شامل، وعلي أرناؤوط، وهو أول فيلم سوري ناطق، وتمّ عرضه في سورية ولبنان وعدد من الدول في المهجر. لم يتبق اليوم من فيلم «نور وظلام» إلا نحو 3 دقائق فقط، فقد تلف الفيلم نتيجة ظروف الحفظ السيئة وقد مضى عليه أكثر من 63 عاماً. فيما بعد عمل نزيه شهبندر في إخراج عدّة أعمال سينمائية تسجيلية وقصيرة ودعائية.
حلمه في فيلم فضائي
يقول نزيه شهبندر: «لم يكن طموحي في فيلم نور وظلام بل كان طموحي في فيلم يروي حكاية سفينة فضائيّة تأتي من كوكب ما، ذات شكل بيضوي، ولها أجنحة حلزونية على محيطها، تنزل هذه السفينة بصورة تدريجية لتهبط في البراري أو البساتين، والناس عندما ترى تندهش وتكون ردود أفعالها متنوعة بين هروب واختباء والقدوم لرؤية ما هذا الذي يحدث. ويفتح باب السفينة لينزل منها شخص لبق وجميل يشبه إلى حدٍّ ما سكان الأرض، ويلقي السلام عليهم، بالإشارة، ويقول لهم إنه جاء إلى سكان الأرض ليتعلم من أخلاقهم ولينقل ما يراه ويسمعه لأهله على الكوكب الأصلي الذي جاء منه، لكن في النهاية يرى هذا الكائن أشياء كثيرة لا تعجبه فينتهي إلى نتيجة أنه جاء إلى الأرض ليتعلم الجيد منها، لكن مع كلّ أسف وجد السيئ والجيد ووجد أن السيئ أكثر من الجيد، ولذلك قرر أنه ليس له بمعشرهم، فيركب سفينته ويغادر».
الوصية
يقول نزيه شهبندر في وصيته التي قالها أثناء سؤالٍ وجّه إليه في فيلم نور وظلال مايلي: «أفضل ألا تباع هذه الآلات التي اخترعتها، وأن تموت في الغبار كما أنا سأموت… فكل شيء يموت». توفي بعد تسجيل الفيلم بعامين في 9 آب 1996 عن عمرٍ يناهز 85 عاماً. تاركاً وراءه إرثاً جميلاً يجب علينا أن نهتم به وندركه أكثر فهو من أهم مؤسسي السينما في سورية ومن المخترعين على مستوى العالم في المجال السينمائي، وتضيف رواية فيلم «نور وظلال» أنه يعمل على اختراع سينمائي جديد حقق منه 85% وهي أن يظهر الممثل في أبعاد ثلاثة وليس كصورةٍ فقط. لكن أين هذا الاختراع اليوم؟ ومن يستحوذ عليه؟ وأين وصل؟ كلها أسئلة مشروعة وتستحق البحث إن من مؤسسا تالدولة وإن من خلال الأشخاص الذين اهتموا ويهتمون بمشروع السينما في سورية.
نور وظلال
يذكر أن فيلم نور وظلال المنتج عام 1994 هو محاكاة في الاسم لفيلم نور وظلام المنتج في العام 1948 وكان قد أهدي هذا الفيلم إلى نزيه شهبندر وأمثاله ممن نذروا واجباتهم لكي تجد السينما مكاناً لها في بلدهم. وجاء الفيلم بتوقيع كل من: عمر أميرالاي، ومحمد ملص، وأسامة محمد، وحنّا ورد، وعبد القادر شربجي، وإميل سعادة، وأنور العقاد، وشامل إميرالاي، ومازن بركات، وإبراهيم مطر، وغيرهم. وهو فيلم من النوع التسجيلي أو فيلم البورتريه، فيه جانب كبير من النوستالجيا والعودة إلى الذكريات، وقد وثق تفاصيل مهمة شخصية تخص نزيه شهبندر، إلى جانب المرحلة التاريخية التي رافقت حضور السينما ونشوئها في سورية.