ماذا قالت لي الكتب؟
هناك من يقرأ طالعه في خطوط اليد وحركة النجوم، أو في تفل قهوة داخل قعر فنجانٍ، لكنني جرّبت العام المنصرم أن أقرأ طالعي في الكتب. لم أبحث عن المعاني المُخبئة بين السطور، بل كنت أقع مصادفةً على مقولات وأفكار تهزني مكتوبة على السطور ذاتها، كما لو أن الكتب كانت تتحدث إلي وتقدم إجاباتٍ عن أسئلة أطرحها.
اسم الوردة- أمبيرتو إيكو
حذّرني الشخص الذي نصحني بقراءة اسم الوردة، من أن قراءة المائة صفحة الأولى ستكون عملية شاقة، لكنه حثّني على الصبر، لأن النتيجة تستحق العناء. الصفحات الأولى كانت مثقلة بالسرد التاريخي، وأسماء التيارات الدينية المتصارعة في أوروبا داخل الكنيسة، ولذلك أكملتها على مضض. ومع تقدم الرواية، بدأت الأحداث تصبح أكثر تشويقاً. اسم الوردة يجبر القارئ على تشغيل عقله، ويتيح فرصة ضغط زر يختار من خلاله مستوى العمق الذي يريد أن يصل إليه في فهم الدلالات المتنوعة.
تتابع رواية «اسم الوردة» في الظاهر ملابسات جرائم قتل مروّعة تحصل في دير للرهبان على امتداد سبعة أيام، إلا أن الرواية البوليسية الطابع تتخذ من حوادث القتل مجرد ذريعة لأخذ القارئ في رحلة سيميائية خاصة. الرواية أيضاً مثقلة بروح العصور الوسطى وخرافاتها، تتيح للقارئ استشعار بوادر عصر التنوير الذي تسرب ببطء ليغير وجه أوروبا متمثلةً بروح مكتبة الدير ونظارة المحقق.
بعد الانتهاء من الرواية، عدت كالعادة إلى المقدمات التي أؤجل قراءتها. في المقدمة التي كتبها المترجم أحمد الصمعي، وقعت على مبررات إيكو لإصراره الإبقاء على الصفحات المُضجرة الأولى بالرغم من اقتراح الكثير من الناشرين حذفها. إيكو الذي رفض ذلك بصورة قاطعة قال في حينه: «لو أراد أحدٌ أن يدخل إلى الدير، وأن يعيش فيه سبعة أيام، فعليه أن يقبل نسق الدير.. تلك الصفحات المائة الأولى هي مثل تدريب، وإذا لم يقبلها القارئ فالأمر أمره وسيبقى أسفل الجبل».
كلماته تلك كانت بمثابة تقريعٍ عنيف. لولا نصيحة الشخص الذي أعارني الكتاب، لكنت ما زلت أسفل الجبل. العبارات القليلة كشفت لي كم بتّ كسولة، إذا كان هناك أمثال إيكو (وهو بالأساس فيلسوف لغة وسيميائي) من وجد متأخراً بأن هناك ما لا يقال إلا عبر العمل الروائي، وقرر بناءً على ذلك كتابة هذا العمل، فأقل جهد يستطيع أن يفعله المرء في المقابل أن يقرأه.
الصوت المنفرد..
الصوت المُنفرد كتابٌ نقدي لـلقاص والناقد الإيرلندي (فرانك أوكونور) حول فن القصة القصيرة، قرأته بداعٍ مهني لفهم فن القصة. يرى المؤلف في أبطال القصة القصيرة أشخاصاً مغمورين قد لا يتعرف المرء على نفسه بينهم. ولذلك فالقصة من وجهة نظره «صوتُ الفرد». يمضي أوكونور مستعرضاً أعمال أهم القصاصيين في العالم أمثال «غوغول»، «موباسان»، «تشيخوف».
لكن وللحقيقة، ما استوقفني في الكتاب، لم تكن الآراء النقدية المتعلقة بمكامن الخصوصية في القصة القصيرة، وإنما كانت بعض الأسطر التي وقعت عليها ضمن فصل «ابن العبد» الذي يدرس فيه الكاتب خصوصية القصة عند أنطون تشيخوف.
يرى أوكونور أن أحد أبرز ما يميّز الطريقة التي بنى فيها تشيخوف شخصياته متعلق بـ «السبر الأخلاقي لطبيعة الذنب نفسه»، أو ما يسميه: «تسلط فكرة الإثم الصغير كنقيضٍ للإثم الكبير». يكتب الناقد الإرلندي: «نحن غير ملعونين بسبب ذنوبنا الكبيرة التي تتطلب شجاعةً واحتراماً، ولكن بسبب ذنوبنا الصغيرة التي يمكن بسهولة أكثر أن نُخفيها عن أنفسنا، وأن نقترفها مائة مرة في اليوم، حتى تستعبدنا كما تستعبدنا الكحول أو المخدرات...وبسبب هذه الذنوب وبسبب تسامحنا المتساهل معها، نخلق لأنفسنا شخصيةً مزيّفة، تعتمد على الذنوب الكبيرة التي تفادينا اقترافها، متجاهلين كليّة شخصيتنا نفسها التي تكونت حول الذنوب الصغيرة التي لا يُتعرف عليها».
لا أتذكر أن هناك عبارات هزّتني بالمعنى الشخصي مثل تلك الأسطر حول الذنوب. لم يسبق أن قرأت شيئاً يضع بهذا العمق إسصبعه على خللٍ لدي ومن حولي. نحن نَعقِد نوعاً من التسوية مع أنفسنا، نخفف عن ضمائرنا المتعبة بالقول أنه : «لا بأس، ما نفعله لا يعدو كونه ذنوباً صغيرة أو هفوات»، ذلك أننا لم نرغب بشيء بما يكفي كي نحاول الدفاع عنه، حتى لو كان ذلك يعني اقتراف ذنبٍ أو دفع ثمن. اكتشفت ربما لماذا كنت دون أن أدري أحب شخصيات تشيخوف الضعيفة، المترددة، الثرثارة المُثقلة بذنوبها الصغيرة.
همس الكتب
كنت العام المنصرم شخصيةً بذنوبٍ صغيرة، تقف أسفل الجبل دون نية في الصعود أو المغامرة، لم أكتشف ذلك بسبب الكتب وحدها. لكن الأخيرة أعانتني على وضع توصيفات لمشكلات تخصني. كنت بحاجة لمن يوبّخني والكتب فعلت.
الكتب تهمس برسائل لا تنضب. أنا وجدت ما استوقفني في ما أهمله من مقدمات و كتب نقدية. وأنت قد تقع على عبارات في معرض حديثٍ بين شخصيتين، أو تقرأ وصفاً لمشهدٍ عبثي في حلم، وتبقى تلك العبارات ملتصقة بعقلك كلحنٍ حزين يرفض الزوال. العالم يصرخ والكتب تهمس منتظرة أن نصغي إليها.
"قاسيون"