دور الوعي في انعتاق الثقافة وقدرتها على المواجهة
لقد انتصرت الأسئلة عن حرية الوعي في الأشكال الإبداعية ذات المحتوى الفكري المستقلّ، بعيداً عن محاولات التشويه، التي رغبت في استهداف الخطاب الوطني عبر أقنعة ذات صبغة ضبابية متخلفة، تضيق فيها المجالات الثقافية وتتسع الممارسات الأصولية القائمة على إغواء العقول، التي لا علاقة لها بالأساس مع مفهوم المقدّس الحقيقي، الذي نقلته الصياغات في تجلياتها الروحية بوصفها طريقة صحيحة في الحفاظ على الهوية الوطنية في طموحها القومي، الذي هو المظهر الفعلي لحركة الإبداع الفكري الملتزم بالجماهير.
هي المقدمة التي قالها الشاعر محي الدين محمد رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب في طرطوس، للدخول في تفاصيل محاضرته عن «ثقافة الانتماء الوطني»، في ثقافي صافيتا، حيث بين فيها ما وصلنا إليه من متغيرات سلوكية على كل الصعد، وقصد بهذا الجيل الشاب الذي غزته الأفكار الوافدة عبر احتضان بعض الأنظمة العربية لها، التي ترمي إلى خدمة المصالح الشخصية للحكام ضدّ الشعوب.
توجس المثقف
وأشار إلى أن ما يزيد من توجس المثقف العضوي في أيامنا هو هذه الفروق الفردية بين جيل الشباب الصاعد، حيث لم تعد الاهتمامات تركز على النّص المقروء بتجليات ناقلة للمشاعر التي تنطوي على فهم طبيعة المرحلة، وتتبنى العلاقة مع الخطاب المبشر والمدافع عن حركة الطبيعة وإرادة التاريخ في امتحان المستويات، والوقوف على الأدوات المعرفية المرتبطة بعصر المثقف وانجازات الابتكار الذي يتطلع فيه المقاومون للوصول إلى حدود السماء التي صارت موطناً لتقنيات سبقنا إليها العالم.
وفي إطار المفهوم العام للثقافة الوطنية، قال صاحب «قيامة الرؤيا»: لا بدّ من تصفية ذلك الجفاء، الذي أصاب مشروع ذلك المفهوم عبر مواجهة الآلية الجديدة المناهضة لخصوصية الإبداع في ظل الحرب الكونية على الدولة السورية المقاومة للسياسات التي تسعى للتهويش ضد حركة التثقيف التنويري في أسلوب العيش ونقاء اللغة، ومظاهر الصّعود نحو الأعلى في بناء النموذج المعاصر المعادي لحركة التطور في الجانب الذي تميل إليه الأنا الوطنية بلباسها المتجدد فكرياً وسلوكياً..
ولئن اختلفت المعايير في هذا الحراك التنويري، الذي يتكامل فيه الوعي عبر ملامح ثقافية تستبدل فيها آلية النقائص التي ضربت حريتنا في الانطلاق نحو إبداعات أكثر فهماً لنظرية الأوطان التي تمارس شروطها التاريخية بخصوصية معاصرة، تحافظ معها على الهوية داخل منظومة فكرية من الابتذال والهيمنة، ويلعب فيها النقد دوراً يعكس القيمة الفنية المميزة لحرية الإبداع في علاقته مع المراجع التي وقف عليها المبدعون الكبار في استشرافهم للمستقبل، وإضاءة المناطق الغامضة عبر اختزال التطرّف في المناطق المحدودة فكرياً من خلال نماذج كانت وما زالت هي المسؤولة عن هذا الضياع. وهنا أشار محمد إلى الشاعر المصري الراحل «أمل دنقل» الذي حملت قصيدته «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» نبوءة استشرافية لوقوع النكسة التي عطلت مشروع النهضة العربية في الخامس من حزيران عام سبعة وستين وتسعمئة وألف، وقد احتلت الأرض العربية، التي قرأ في أسبابها الشاعر أمل الأسباب الواقعية، وكانت رؤيته قد سبقت وقوع تلك النكسة عبر قراءة متأنية للتاريخ، ووفق معطيات معاصرة لسلوك العرب تجاه قضاياهم.
كما أشار إلى أن الشاعر أحمد سعيد (أدونيس) استطاع أن يجند أفكاره في التماعات الفلسفة الوجودية كشاعر استشرافي، ومثقف تنويري أيضاً، حيث دلّت مقارباته الفنية على الالتزام بماضيه وحاضره عبر دخوله إلى التاريخ، وليختبر حكاية الموت والعدم من خلال التمرّد على عملية النفي والاغتراب التي هزمت العرب بعد ثمانية قرون من وجودهم في الأندلس، وكانت قصيدته (صقر قريش) التي خاطب فيها (عبد الرحمن الداخل) الذي حكم بلاد الأندلس ثلاثين عاماً تحمل موقفاً وطنياً، بامتداد إنساني متحضر كانت فيه غربة عبد الرحمن الداخل علامة أخرى لمشروع ثقافي متنور رغم اغتيال العرب لمشروعهم الحضاري آنذاك.
منظومات ثقافية
وإلى جوار هذين الشاعرين أشار صاحب «نشيد الزيت المر» إلى أن (وصفي القرنفلي) كان هو الآخر يدافع عن قضيته الوجودية، عبر التزامه بثورة الكادحين والجياع على مستغليهم ليصنعوا عالماً يمتلكون فيه ثمرة جهودهم المسروقة، واستطاع أن ينقل للناس صورة إبداعية بهمٍّ وطني ومجد ثقافي، يجمع حوله كلّ الشرفاء القادرين على مناهضة الموضوعات الشائكة، ولاسيّما التخلف والجهل الملازم لخطر الرّدة، وقد استجابت لرغبته فصائل كثيرة من المحرومين الذين عاشوا وقائع اجتماعية مأزومة.
وأضاف صاحب «ذاكرة العوسج»: لقد أطلعَنا هؤلاء المبدعون على الطريقة التي يعيش فيها الإنسان سواء كان في دائرة التبعية أو خارجها، لكنّ المهم في القضية، أن مفاتيح الأبواب التي يدخل فيها المتلقون لهذه الإبداعات على اختلاف هوية أصحابها سياسياً واجتماعياً، وبيّن أن هؤلاء المبدعين شكلوا منظومات ثقافية باتجاه وطني ينوب عنهم في انتصار الإرادة الحرة، التي فرضت نظرية مواقفها على التاريخ، وهذه دلالة الارتقاء الثقافي المناصر للحرية، وتحدي الهزيمة بامتلاك الوعي، الذي هو الآن علّة الجيل العربي المستسلم لعلاقات الغيابْ.
ومما لا شك فيه أن الوعي الوطني المترفّع عن المفاهيم الوافدة سوف يلعب دوراً مهماً في انعتاق الثقافة الوطنية وخلاصها من الشك بالقدرة على المواجهة، في ظل ارتكاب المحرمات عبر استخدام المال السياسي، والسّلاح الإجرامي الذي تدربت عليه الأكثرية الساحقة من الجيل العربي الشاب تحت مفاهيم أيديولوجية تُستعمر فيها العقول، وتضيع الشعارات الوطنية لتحل مكانها ثقافة الخرافات وإلغاء الحياة، واقتلاع الجذور. ومن هذا المنطلق لا بدّ لنا من فهم وطني جديد، والاقتراب من الأماكن التي يعيش فيها هذا الجيل عبر محاولة تأصيله معرفياً، مع إشباع رغبته في إنتاج علاقة جديدة مع النص الوطني الذي يواجه فيه هذه الغربة القاتلة. وختم الشاعر محي الدين محمد مؤكداً أن هناك الكثير من الأسباب التي أسهمت في تعطيل حصانة الرأي حول التمسّك بضرورة القراءة في الصعوبات المتراكمة، ومنها السبب الاقتصادي، كما كان لانتشار البطالة بعض الخطر على سلوك الشباب، ولثقافة التواصل الاجتماعي على الشبكات العنكبوتية البعيدة عن الرقابة أثر آخر في إضعاف درجة الإدراك العام التي تحتاج إليها لغة الإبداع عبر البصيرة، والتي هي الضابط الحقيقي لكل فعل ثقافي يمكن لصاحبه أن يجتاز المجهول والخروج سالماً إلى عالم المستقبل في حماية الحضارة والتاريخ.
تشرين