من أين ينفق السوريون على أنفسهم؟! …الراتب لم يعد مصدر استقرار مالي.. والاعتماد على الدخل غير الرسمي من مساعدات وتحويلات وفساد
كثرت هذه الأيام الإشاعات والأقاويل حول زيادة رواتب، وأساس المطالبة طبعاً الغلاء الذي عم البلاد، والكثير من الذين يبدون رأياً في زيادة الرواتب، بلغة تميل إلى التساؤل أكثر من أنها تميل إلى القطع في تبني الرأي، خاصة بعد أن تراجع مستوى الدخل إلى أدنى مستوياته وظهور مستويات للفقر تفوق الـ80 بالمئة.
والسؤال ما الأفق الاقتصادي بعد معاناة اقتصادية متراكمة خلال سنوات الحرب؟ ولماذا هذه الفجوة بين الرواتب والأجور في سورية؟ وكيف حصل هذا التراجع الهائل في القدرة الشرائية للسوريين؟
الدكتور الاقتصادي هاني الخوري أكد أن المعاشات والأجور اليوم في سورية أقل من أي معدل معقول وأنه لا يمكن استمرار مستويات الأجور الحالية معتبراً أن الأجور لا تشكل ميزة تشغيلية لأن قيمة الرواتب تمنع نمو السوق ولا تدعم الاستهلاك.
وأكد أنها ليست واقعية تجاه الحاجة الحقيقية بل تشكل حالة تشويه اقتصادي وتنموي وهي بحاجة إلى مضاعفة عدة مرات وخلال فترات قريبة حتى يستعيد السوق عافيته وتوازنه ويعيد للعمل قيمته وقدسيته.
خوري قدم أرقاماً اقتصادية وطنية تقريبية حول معدلات الأجور والرواتب الحالية في سورية 2021 خلال محاضرته التي ألقاها أمس ضمن جمعية العلوم الاقتصادية بعنوان «الرواتب ودورها في تطور الموارد البشرية في سورية خلال الأزمة»، مبيناً بالأرقام أن الحد الأدنى للأجور هو 92 ألف ليرة شهرياً، والحد الأعلى للأجور مع بعض التعويضات يقل عن 200 ألف ليرة سورية
وبين الخوري أن معدل الرواتب التقاعدية في القطاع العام تبلغ نحو مئة وعشرة آلاف ليرة للمتقـاعدين حديثاً، وحجم قوة العمل الحالية تقدر بـ4 ملايين شخص تقريباً. في حين نجد أن التشغيل في المؤسسات العامة والمثبتين أقل من مليون شخص، وعدد الأشخاص المقيمين في سورية نحو 18 مليون مواطن. والمتقاعدين المقيمين في سورية نحو 500 ألف مواطن.
وحجم الناتج الإجمالي الحالي وفقاً لخوري 35 مليار دولار، في حين نجد أن حجم الناتج الإجمالي الوطني الرسمي عام 2010 نحو 56 مليار دولار، وأن معدلات الفقر العامة في سورية حالياً أكثر من ثمانين بالمئة.
علماً أن معدل الفقر العام كان في عام 2005 هو 31 بالمئة ومعدلات البطالة الحالية أكثر من ثلاثين بالمئة من حجم القوة العاملة.
وأشار إلى أن هناك نسباً غير رسمية تقول إنها وصلت إلى 50 بالمئة من قوة العمل ومعدل الأجور في القطاع الخاص تقريباً 200 ألف ليرة سورية شهرياً مع وجود حالات تشغيل بأقل من الحد الأدنى للأجور. وفي الوقت ذاته نجد أن معدل استئجار المنزل في الضواحي يتجاوز 100 ألف ليرة شهرياً ويمكن أن يصل لأكثر من 2 مليون ليرة في وسط العاصمة.
ولفت إلى أنه وصل معدل مساهمة المنظمات الإغاثية لدعم الأسر الفقيرة لـ3 مليارات دولار سنوياً، ومعدل تحويلات السوريين العاملين في الخارج لمساعدة عائلاتهم 5 مليارات دولار سنوياً.
احتياجات الأسرة الغذائية
الخوري بين خلال محاضرته أنه ومن خلال دراسة معدلات الفقر التي عبرت بعض الدراسات أنها وصلت إلى معدلات 86 بالمئة عن خط الفقر الأعلى المعادل دولارين ونصف الدولار يومياً لكل مواطن وخط الفقر الشديد إلى نسب 67 بالمئة من عدد السكان ا لذي يعادل دولاراً وثلاثة أرباع الدولار يومياً حسب المعايير الدولية، والفقر المدقع الذي وصل إلى 34 بالمئة من عدد السكان الذين يعادل خط الدولار وربع يومياً، تصبح سورية من أفقر دول العالم حسب الإحصائيات.
وأضاف: ومع ذلك فهناك معوضات بالدخل للأسر من خلال المنظمات الإغاثية وإعاناتها ومن خلال التحويلات المالية للأهل من المغتربين ومن خلال عيش السوريين على تأجير وبيع أصولهم العقارية والتجارية والأراضي والعيش منها.
وأكد أن الفرد يحتاج حسب دراسات الفقر إلى 1900 وحدة غذائية من مواد غذائية محددة كالنشويات والسكريات والبروتينات والفواكه.
ويلاحظ وفق الخوري أن الفاتورة الغذائية للأسرة السورية ارتفعت بشكل حاد وصارت تقنن على نفسها بالنوعية والكم بشكل كبير لأن الحصول على هذه الحصة الغذائية تحتاج إلى أكثر 500 ألف ليرة شهرياً لأسرة مكونة من أربعة أفراد، وإذا أضفنا لها النقل والاستطباب والدراسة واللباس والترفيه بحده الأدنى وأجرة المنزل التي ارتفعت بشكل حاد نجد أن فاتورة المواد الغذائية تشكل أكثر من ستين بالمئة بالنسبة لأي أسرة سورية اليوم.
واعتبر الخوري أنه يحدث تشوهات في المصاريف الأسرية ودخلت مال الدخول غير الرسمية والفساد والسرقة والاعتماد الكبير على الأهل وعلى المنظمات الإغاثية في السلات الغذائية والاستطباب والتدفئة وغيرها.
المعاش لم يعد مصدر استقرار
خوري رأى أن المفهوم العام للأجر أو الراتب قد تغير ولم يعد المعاش الرسمي مصدر استقرار، وتولد بديل منه آليات بيروقراطية وفساد وثمن خدمات مالية مختلفة تعوض بالأجر للعامل في القطاع العام ومجالات فساد تتعلق بالتهرب والأتاوات والاحتكار والجشع بين التجار بالإضافة للاعتماد على المساعدات العائلية والتحويلات من الأهل والأصدقاء وهذا ولد اتجاهات تتعلق بانخفاض قيمة العمل وقدسيته في ذهن العاملين في القطاع العام والخاص.
والاتجاه نحو الفساد والبيروقراطية وتسعير مداخيل جانبية للموظفين تتراوح بين الدروس الخاصة للأساتذة واللامبالاة وبين الرشوة والإكراميات… إلخ.
وأضاف: كما أنه أصبح هناك توجه عميق لدى الشباب السوري للهجرة لتأمين مستقبله، في الوقت الذي نجد فيه نزفاً كبيراً في الموارد البشرية والعقول من القطاع العام أولاً ومن البنية الوطنية.
وتساءل الخوري من يحدد قيمة الراتب في المؤسسات العامة وعن ماذا يعبر اقتصادياً.
وأوضح أن بند الرواتب والأجور والتعويضات المرتبطة بها في مجمل الميزانيات السورية يعبر عن نسبة عالية من قيمة الميزانيات السورية سواء من المصاريف الجارية أم من قيمة الميزانيات الاستثمارية.
بحيث يتراوح نسبة أو حجم الرواتب والأجور والتعويضات في الميزانيات السورية من 2000 إلى عام 2010 إلى نحو خمسين إلى سبعين بالمئة من مجمل الميزانيات السورية.
مما يدل على كون الموازنات كانت ترصد بشكل رئيسي لتغطية التكاليف التشغيلية ولنسب موازنات استثمارية إجمالية نحو 30 بالمئة تتحول في معظمها إلى موازنات تشغيلية وتتحول قيمتها أو نسبتها إلى عشرين بالمئة من الميزانية الحقيقية المنفذة الحقيقية.
وأشار إلى أن الدولة التزمت بالأجور للعاملين رغم عدم دوامهم في المناطق والمحافظات غير الآمنة والخارج عن سيطرة الدولة.
وتراجعت القيمة الحقيقية للرواتب والأجور في القطاعين العام والخاص بشكل حاد من عام لآخر من سنوات الأزمة من خلال تغير سعر صرف الليرة وعدم تمكن الدولة من رفع قيمة الرواتب والأجور بفعل كساد الأزمة وتدهور حالة التشغيل في المؤسسات الخاصة والعامة ونقص الإنتاج والموارد وتدمير وسائل الإنتاج.
ولفت إلى أن الرواتب في فترة الأزمة ارتفعت بشكل متدرج وأبطأ كثيراً من تحولات القيمة الشرائية لليرة وقيمة الدخل المتراجعة بشكل عام، التي أدت إلى تراجع قيمة العمل والتشغيل في سورية، بعد تراجع القطاع الصناعي والمهني والميزانيات الاستثمارية للدولة والتراجع الحاد للقطاع الزراعي.
وأضاف: لكن سرعان ما أصبحت المؤسسات العامة بالتدريج بيئة طاردة للخبرات وتراجع حجم التشغيل بشكل عام في المؤسسات العامة وتكرست نظرة لدى المجتمع بأن قيمة الرواتب والأجور في القطاع الخاص تتعافى بشكل أعلى نسبياً دوماً من القطاع العام وبعد خمس سنوات من الأزمة صرنا نشهد أجوراً ومعاشات في القطاع الخاص تفوقها بنسبة مئتين إلى ثلاثمئة بالمئة للأجور الموازية في القطاع العام ومؤسساته.
وبرأيه هذا أدى إلى تراجع عدد العاملين في كثير من المجالات الحساسة في مؤسسات الدولة، وتراجع الاهتمام بالتدريج بمسابقات التوظيف وارتبط التشغيل في النهاية بوجود تكاليف النقل إلى العمل وبوجود مزايا في التشغيل.
تعقيدات اقتصادية
ولفت الخوري إلى التغيرات الاقتصادية الدائمة والتضخم العالمي وارتفاع أسعار الطاقة وتغير الأسعار العالمي وارتفاع الضرائب والرسوم الذي عقد العملية الاقتصادية وصارت الأعمال أكثر صعوبة وأكثر حاجة للديناميكية في التسعير وفي تطوير المنتجات الدائم حسب احتياجات السوق.
الخوري يرى أن ضعف الإنتاج الزراعي نتيجة ارتفاع تكاليف النقل والمواد الزراعية ونقص الدعم الزراعي وارتفاع أسعار الطاقة ونقص القدرة الشرائية جعل المزارع يحصل على أقل من عشرين بالمئة من قيمة المنتج النهائي.
توصيات عامة….!!
وخلال المحاضرة قدم الخوري عدة توصيات للحكومة منها عامة ومنها خاصة بالرواتب والأجور وعن التوصيات العامة قال لابد من برامج حكومية دقيقة لرفع الرواتب والأجور بما يوازي قيمة العمل وإرادة رفع المداخل المعيشية للأسرة السورية، والتحول نحو التكاليف الحقيقية في الطاقة مع الحفاظ على دعم حقيقي للأسر الفقيرة، واعتماد قوانين وآليات تحفيز العمل تعتمد الإنتاجية والفعالية والقيم المضافة الحقيقية إضافة إلى توفير وسائل نقل شعبية مقبولة التكلفة.
واقترح دعم آليات التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة والأهم الحفاظ على أجور مناسبة للمهن العلمية والنقابات والعمال النوعيين لدعم استمرارية العمل معهم.
مع الإشارة إلى أهمية دعم الدول الصديقة لتعافي الاقتصاد السوري وتخفيف آثار الحصار الاقتصادي الجائر على السوريين وأثره في إفقارهم وتهديم بنية الأعمال لديهم.
وذلك للوصول إلى حد أدنى مقبول للأجور مربوط بالأسعار الحقيقية ويتحرك معها إضافة إلى الاتجاه نحو عدالة ضريبية بفرض ضرائب مناسبة على أصحاب الدخول العالية وعلى أصحاب الثروات من مصادر مشبوهة والمساعدة في توظيفها للتنمية والتشغيل لا أن تكون مصادر احتكار وجشع وسوط على رقاب محدودي الدخل. والعمل على مكافحة الفساد والتهرب الضريبي وإيجاد مصادر دخل مناسبة للدولة السورية. ودعم آليات الاستثمار في المجالات النوعية التي يمتلك فيها الاقتصاد السوري ميزات وقيمة مضافة نوعية ولاسيما في المهن والزراعة وإعادة تشكيل مفهوم السلع الزراعية الأساسية والإستراتيجية.
والناحية الأهم هي إيجاد مساكن شعبية تخفض تكاليف السكن والنقل تجاه الطبقات الشعبية والانتقال سريعاً إلى مصادر الطاقة البديلة والمستدامة التي تنعكس انخفاضاً في أسعار الطاقة.
الوطن