عندما يكتب يعرب عيسى رواية … و عندما يكتب خليل صويلح مقالا عنها …
طوى يعرب العيسى (1969) سنّ الأربعين، بين بادية الشام ودمشق، من دون ندم. وزيادةً في الحيطة، صرف عشر سنواتٍ إضافية، كي يكتب أخيراً، باكورته الرّوائية «المئذنة البيضاء» (دار المتوسط)، متجنّباً أخطاء وعيوب ونبوءات العمل الأول. هكذا يجازف، منذ السطور الأولى بزجّ بطل روايته في مهبّ العاصفة: «كان يشبه قدّيساً أو فيلسوفاً أكثر مما يشبه قوّاداً». رحلة غريب الحصو من الباب الشرقي إلى بيروت بحذاءٍ مثقوب، ويأسٍ مطلق، تشبه رحلة مئات العمّال السوريّين، تحت جحيم شمس آب (أغسطس) 1984، وشوارع الحرب الأهلية اللبنانية، لكنها تفترق عن سواها بأنه كان من حصّة الشيخ قسّام الزهواني، مالك «فندق مازا»، الفندق الذي توافق جميع المتحاربين على أن يبقى آمناً بين خطوط التماس المتشابكة.
عمل غريب في مدينة الملاهي ليومٍ واحد، مقابل عشرة دولارات، ستبقى تميمة لن يمسّها في أكثر أيّامه قسوةً، ثم حارساً لكراج سيارات بين بنايتَين، لكن قذيفةً أطاحت غرفة الحراسة التي صارت غرفة نومه، فاضطر للبحث عن عملٍ آخر. اقتحم بهو «فندق مازا» على أمل أن يجد عملاً، وفي اللحظة التي أجابت موظفة الاستقبال بأنهم لا يحتاجون عمّالاً، اصطدمت عينا الشيخ قسّام به، فأمر أحد مرافقيه بإحضار الشاب الذي وافق على الفور على «صك العبودية» الغامض الذي تلاه عليه مالك الفندق. ثلاثة أشهر في أعمال مختلفة، من دون تذمّر، لفتت انتباه الشيخ إلى مزايا هذا الشاب، وبضربة قدرٍ أخرى، وبلحظة غضب، أمر الشيخ بأن يستلم غريب مكان مايك في الإشراف على موظّفي الفندق، وأن يدعى «مايك الشرقي»، بدلاً من ذلك الاسم النيئ، المثير للسخرية.
سوف يتجاهل غريب حلمه بإكمال دراسته الفلسفة في جامعة دمشق، حيال الإغراءات التي سفحها الشيخ قسّام له بما لم يحلم به يوماً، وينخرط بكل حواسه في عمله الجديد. بضربةٍ حظ أخرى، سيموت الشيخ قسّام في جناحه الخاص في الفندق، بعدما بذل جهداً أكبر من طاقته في الاستيلاء على جسد إحدى حريمه التي أهداها مايك لمعلّمه، فيرث فجأة خزائنه السريّة، وموظفيه، وقحابه، ثم الفندق بأكمله تحت مسمى آخر هو «أبولو». تسع سنوات في بيروت، وضعت مايك الشرقي في مقامٍ آخر، متّكئاً إلى خبرة معلّمه في صناعة الترفيه وتجارة الجسد.
أولى خبراته سيضعها في خدمة العائلات الكويتية التي فرّت من البلاد إثر غزو العراق لها، مراكماً أكداساً من الدّنانير الكويتية التي «اختار مالكوها السابقون، لبنان منفى مؤقتاً لهم». كان الكويتي أبو صقر بوابته نحو الثراء المباغت، لكنّ مرسوماً سيصدره أمير الكويت بعد تحرير بلاده من الغزو بإلغاء التعامل مع الدينار القديم، أصاب مايك بطعنةٍ عميقة، قادته إلى غيبوبة في المستشفى، بعد اختفاء أبي صقر واعتقاله في المطار أثناء محاولة هروبه.
كما ستصل أذرع الأنتربول الدولي إلى مايك نفسه في تحقيقات مضنية لتورّطه في شبكات تبييض الأموال، قبل أن يتمكّن من النجاة. في مستشفى دير الرّاهبات، سيتعرّف إلى عايدة الممرّضة الخمسينية التي اعتنت به طوال فترة مرضه، فيتعلّق بها، محاولاً ردّ ديونها عليه، قبل أن يطرح عليها الزواج، وتبنّي الطفلة «رفقة» التي لا تملك قيد نفوس. عند هذا المنعطف، تتوسّع الدائرة المالية لمايك لتضعه على تخوم لقب «ملياردير»، بالتوازي مع صعود مدينة دبي «المدينة التي تبيع المستقبل، وأعجوبة العالم الجديد».
وسيكون لشركته حصة في الأبراج الزجاجية التي ستنهض فوق الرمال، كما سيكتشف مزايا قبرص كوجهةٍ سياحية ومجمع لأندية القمار، وصولاً إلى عواصم أخرى: «قضى الأشهر التالية على الطائرة، كانت لديه رحلة كل أسبوع تقريباً، ينتقل بين الشواطئ من الخليج إلى شاطئ المتوسط» (سننتبه إلى إشارة أولى في مفتتح الرواية بأن مايك يحمل عشرين جواز سفر كلها سليمة، بالتوازي مع ليلته الأخيرة في دمشق، حين سُرق حذاؤه أمام باب الجامع الأموي، فاضطر للطواف حول الجامع حافياً، وصولاً إلى قوس الباب الشرقي المتاخم للمئذنة البيضاء، التي تنهض منفردة بلا مسجد، في انتظار هبوط المسيح في آخر الزمان).
يرسم بجسارة خرائط المنطقة وتحولاتها، باستخدام وثائق وإحصاءات وأرقام مسكوت عنها
بمثل هذه الواقعية الخشنة، والروح القتالية، يرسم يعرب العيسى بجسارة خرائط المنطقة وتحولّاتها، مدوّناً تواريخ مفصليّة، تبعاً لخبرته الطويلة في الصحافة الاستقصائية، باستخدام وثائق وإحصاءات وأرقاماً مسكوتاً عنها، في تعضيد بنية السرد، وطبقات الحكي. وإذا بهذا الحفر اﻟﻜﺮوﻧﻮﻟﻮﺟﻲ المحتدم، ينطوي على فضائح بالجملة، لا تخصّ طبقة رجال الأعمال وحدها، وكيفية صعودها إلى قمة الهرم، وإنما تطال مثقّفين، أكاديميين، ضبّاط، محامين، صيارفة، أصحاب فتاوى، قوّادين، هراطقة ودجّالين.
هؤلاء الذين كانوا يحومون حول مائدة مايك الشرقي، مغناطيس الثراء الذي لا ينضب في اجتذاب كلّ أصناف الضمائر المتواطئة، وخردة البشر، وباعة الإيمان، وتزيين القبح بما ليس فيه. فهذا الرجل لم يعد مضطراً لإطفاء الحرائق بنفسه بعدما استقرت علاقاته على أرضٍ آمنة: «إطفائيون متفرغون يملكون المهارات والصلاحيات لتهديد هذا وشراء ذاك». لم يسلم روائي وُلد داخل سور دمشق القديمة من الطعنات بانخراطه في هذه الوليمة ببلاغة الياسمين والنارنج الشامي، معتبراً أن هذه البلاد تلزمها حكاية فقط كي تجذب الآخرين إليها كالفراشات. فحين قرّر مايك الشرقي تفكيك قلعته الأسطورية في بيروت، ودبي، وقبرص، ومدن أخرى، والعودة إلى دمشق، بعد 27 سنة من غيابه عنها، بتوقيت احتجاجات 2011، كان مدفوعاً بقوّة الحنين أولاً، إلى المكان الذي لفظه بلا رحمة، وتأسيس إمبراطوريةٍ تستثمر ميثيولوجياً «المئذنة البيضاء» في صناعة جنّةٍ دنيوية ثانياً.
وكان على مستشاريه إيجاد الخطط المحكمة بقصد تنظيف المساحة المحيطة والمحاذية للمئذنة من العوائق القانونية واللوجستية، فكان الحل الأمثل، في بلدٍ تعيش حرباً طاحنة، تأسيس فصيلٍ مسلّح باسم «كتيبة الإحدى عشرية»، لم تكلّفه أكثر من أربعين ألف دولار لتمهيد الأرض تماماً بقذائف مركّزة، أمام مشروع «الشرق الجديد». سوف يتخلى مايك الشرقي عن اسمه أخيراً، بعدما تدثّر بعباءة «الشيخ الغريب»، نابذاً شهواته الذاتية لمصلحة الجموع، في انتظار قيامةٍ ما لاستثمارها على طريقته، متأرجحاً بين إغواءات إبليس، ووصايا الربّ، فهذا «فاوست» من طراز محلّي الصنع، باع روحه للشيطان، وها هو في شيخوخته المتأخرة يسعى لاستردادها تكفيراً عن آثام ورذائل وموبقات لا تحصى.
يلجأ يعرب العيسى إلى تشريح الحكاية بسرد حلزوني متدفق ومشبع بإغواءات مخيّلة متقدة، تتكئ على عناوين فرعية تضيء حفريات هذه المتاهة العجائبية، لترميم سيرة الغريب، أفقياً وشاقولياً، بارتدادات إلى الخلف تكشف عن طفولة مهزومة في عائلة مفكّكة، ثم كان عليه أن يروي الحكاية كاملة بوصفها أسطورة فانتازية أخرى، لكنها لفرط واقعيتها وقابليتها للعيش - بتناوب ثنائية المئذنة/ المنارة - فهي تحدث كل يوم، من دون توقّف، في المسافة الفاصلة بين فناء الجامع الأموي، وموقع المئذنة البيضاء في الباب الشرقي للمدينة. ولكن مهلاً، ينبغي الاعتراف، من دون تردّد، بأن يعرب العيسى روائي من طراز خاص، وُلدَ واقفاً، خارج قوائم التصنيف.
الاخبار