غلاء الأسعار وتبعاته المأساوية
غلاءُ الأسعار المتتابع في مستلزمات الإنتاج والخدمات، يؤسّس لغلاء منتجات المؤسّسات الإنتاجية والخدمية، ما يؤدي للحدّ من استهلاك منتجاتها، نظراً لضعف الدخل الذي لا يواكبها عند الكثيرين، وإضعاف الاستهلاك سيؤدي بدوره للحدّ من الإنتاج الذي لم يعد يجد له سوقاً داخلية تستهلكه، وربما لا يجد سوقاً خارجية نظراً لعدم قدرته على المنافسة في تلك السوق، بسبب غلاء منتجاته قياساً بأسعار منتجات الدول الأخرى، وضعف الإنتاج سيترتّب عليه إضعاف استثمار آلات ومعدات الإنتاج، ما يجعل اهتلاكها ناجماً عن عمرها الزمني –أي بلا مقابل إنتاجي يغطيه- وليس عن استخدامها الذي من المعتاد أن يقابله إنتاج يغطي هذا الاهتلاك، ما يسبّب خسارة لأصحابها، والخطر الأكبر يتمثّل باضطرار المؤسسات لاختصار أعداد عمالها، ما سيؤدي لازدياد البطالة، خاصة وأن البطالة الناجمة عن ضعف الإنتاج في قطاع ما، سوف لا تجد ميدان عمل لها في قطاع إنتاجي آخر، لأن جميع الجهات الإنتاجية الصناعية أو الخدمية أو الحرفية تعاني من غلاء الأسعار، المتسبّب لها بضعف الطلب، فضعف الإنتاج، فإضعاف العمالة.
فالغلاء الفاحش في مواد البناء أضعف قدرة الناس على بناء مساكن ومنشآت، ما تسبّب في إضعاف أعداد العاملين في هذا القطاع، من عمال البناء والبيتون والطينة والدهان والتمديدات الكهربائية والصحية، والعاملين في كسارات البحص والرمل، وستنخفض إنتاجية جميع الآليات التي تخدم النقل في قطاع البناء وسينخفض أعداد العاملين عليها، والحالة نفسها للمنشآت المرتبطة بهذا القطاع والعاملين فيها كمهن الخشب والألمنيوم والحديد، فالعديد من هذه المنشآت متوقف جزئياً وبعضها توقف كلياً، والحال تنطبق على إنتاج عشرات المنشآت الصناعية والحرفية، التي ضعف إنتاجها بسبب ضعف قدرتها على شراء مستلزمات إنتاجها الغالية الثمن وضعف قدرتها على تصريف إنتاجها العالي الكلفة عند طالبيه، والذي سينعكس بدوره على إضعاف أعداد العاملين في هذا القطاع.
الطامةُ الكبرى أن الحالة نفسها موجودة في القطاع الحيوي المهمّ الذي هو قطاع الزراعة، فغلاء مستلزمات الإنتاج الزراعي من السماد والبذور والشتول ومبيدات الأمراض الزراعية وأجور اليد العاملة، والعبوات اللازمة لتعبئة المحاصيل الزراعية، وغلاء أجور نقل المواد الزراعية المستخدمَة والمنتجَة، لا بل والخطر الأكبر يتجلّى في حال ندرة أو عدم توفر بعضها أحياناً، كلّ ذلك أرهق المزارعين، وخاصة أولئك الذين لا مصدر لعيشهم إلا من أرضهم، الذين استنتجوا أن قيمة منتجات العديد من محاصيلهم لا تغطي قيمة مستلزماتها، والنسبة الأكبر من سعرها في السوق تعود للتاجر والناقل ومستلزمات الإنتاج، وريع المزارع محدود وأحياناً معدوم، والطامةُ الكبرى عند من يستأجر أرضاً من الغير، والخطر المماثل والأكبر لحق بمربي الثروة الحيوانية والدواجن، الذي يتتالى ارتفاع أسعار مستلزماته ومنتجاته، ما يضعف تتابعياً من إنتاج هذا القطاع وأعداد العاملين فيه.
أما في الجانب الخدمي فلا يخفى على أحد انخفاض أعداد النازلين في الفنادق ومرتادي المتنزهات والمطاعم لأسباب مادية أكثر مما هو لأسباب صحية، وسينعكس ذلك على انخفاض أعداد العاملين في هذا القطاع، ولا يخفى على أحد انخفاض مستأجري السيارات السياحية، حيث باع بعض أصحابها أرضهم الزراعية لاقتنائها، ولم يعد بإمكانهم العودة إلى ما كانوا عليه.
إن غلاءَ الأسعار الذي يشكو منه المستهلك هو أيضاً محطّ شكوى كبيرة من المنتج، نتيجة لأثره الكبير في إضعاف الإنتاج السلعي والخدمي، وإضعاف أعداد العاملين في العديد من القطاعات، بحيث يصعب على عامل الانتقال من عمله إلى قطاع عمل آخر، ما سيؤدي إلى ازدياد نسبة البطالة، وانخفاض الدخل عند شريحة كبيرة من المواطنين، ما قد يؤسّس لانتشار الجريمة، وخاصة عند شريحة من يأبون أن يخفضوا استهلاكهم من هذه المادة أو تلك مهما انخفض دخلهم.
الواقع الراهن مأساوي إنتاجياً واستهلاكياً والخوف من المأساوية الأسوأ، والحاجة ماسّة جداً لسياسة اقتصادية حكيمة تُخرج البلد من هذا المأزق الكبير، ومن المؤسف جداً أن واقع الحال وحتى تاريخه لا يظهر وجود هذه السياسة المرجوة، بل كثير من السياسات الاقتصادية تزيد الحالة سوءاً، ما يوجب تداعي السلطات المعنية لعقد المزيد من ورشات العمل الاقتصادية المركزية والمناطقية الجادة والتطوعية، للخروج بحلول آنيّة تؤسّس لحلول مستقبلية.
البعث